استعمار جديد من بوابة الغذاء
موفق محادين
كشفت تداعيات العملية العسكرية الروسية ضد المحمية الصهيونية النازية الأطلسية في أوكرانيا، عن واحدة من أخطر الحروب الإمبريالية المحجوبة ضد الجنوب العالمي، وهي الحرب الغذائية كعنوان جديد لإعادة إنتاج الظاهرة الاستعمارية.
في هذا السياق، يرصد الكتاب الهام للباحثة البريطانية، جين هاريغان، “الاقتصاد السياسي للسيادة الغذائية” كل ما يتعلق بأزمة الغذاء العالمية كما انفجرت عامي 2007 و2008، وتداعياتها، من ارتفاع مؤشر أسعار الغذاء بين 30 و50% إلى انعقاد قمتي 2008 و2009، وكذلك القمة الخاصة لمنتدى دافوس 2011، التي ناقشت الاستراتيجية الرأسمالية الجديدة لمواجهة هذه الأزمة، بما في ذلك وضع اليد من جديد على أراضي الجنوب العالمي، والتعامل معه كمستعمرات للمتروبولات.
وحيث تتركز الموارد الأساسية للغذاء العالمي من القمح والأرز والذرة وفول الصويا، تتركز البلدان المصدّرة لها مثل الولايات المتحدة وأستراليا وكندا، ما يجعلها مركزاً إنغلوسكسونياً لإعادة استعمار الأراضي جنوباً وربطها بهذه الأسواق.
ومعروف كذلك أن السياسات الزراعية السائدة، تخضع للنيوليبرالية وإجماع واشنطن، وخصوصاً تحرير التجارة، والخصخصة، والإصلاح الضريبي (توسيع موجة الضرائب على الطبقات الشعبية وتضييقها على الشركات والبنوك)، وحماية هذه السياسة بأدوات مثل حقوق الملكية الفكرية، ووكالة التنمية الأميركية (USAID) وإملاءات البنك وصندوق النقد الدوليين في كل الحقول بما فيها القطاع الزراعي، الذي لا يراعي فيه خدمة المجتمعات المحلية، بل مقتضيات التصدير والأسواق الرأسمالية.
على الصعيد العربي، كان من تداعيات أزمة الغذاء العالمي، حسب جين هاريغان، زيادة التضخم المحلي، والعجز التجاري والضغوط المالية، وقد فاقم من ذلك:
– ضعف التكامل الإقليمي العربي.
– دخول الأثرياء العرب في الخليج لعبة الاستثمارات الأجنبية المعروفة بالاستحواذ على الأراضي لغايات التجارة العالمية.
– تزايد تركيز العرب وعدد من بلدان الشرق الأوسط على مستوردات الحبوب.
– الظروف الموضوعية المتمثلة بأزمة المياه.
– الأوضاع الناجمة عن السياسات الرسمية، مثل ارتفاع تكاليف النقل المحلي الناتجة من ضعف البنى التحتية مثل سكة الحديد وخدمات النقل البحري، وارتفاع معدلات استخدام الأسمدة للهكتار الواحد ما يلوث المياه الجوفية، كما في الأردن وفلسطين.
الأرض مجدداً كهدف للاستعمار المباشر
لعل أخطر السياسات الجديدة في هذا القطاع، السياسات التي تمت وتتم تحت عنوان: “اقتناء الأراضي في الخارج واستثمارها”، فيما الأدق أنها استيلاء على الأراضي، يذكرنا بالموجات الاستعمارية الأولى.
وليس مصادفة أن تكون المستعمرات التاريخية هي الهدف الأول لهذا الاستيلاء، ولا سيما أفريقيا حيث نصف الأراضي غير المزروعة في العالم.
وتأتي آسيا بعدها، مثل باكستان وإندونيسيا وكمبوديا والفلبين.
وحسب هاريغان أيضاً، تفضل الشركات والأوساط الرأسمالية العالمية والنفطية أفريقيا ومناطق آسيوية بسبب التسهيلات التي تحصل عليها في ما يخصّ الجمارك والضرائب والتحويلات، فضلاً عن العمالة الرخيصة التي تفتقر إلى أبسط ضمانات العمل والصحة، وخاصة النساء والأطفال، ما يترافق أيضاً مع ضعف الحركة النقابية والسياسية المناهضة للاستغلال.
وكذلك بسبب الثمن البخس لشراء الأراضي أو استئجارها.
إلى ذلك، وفي ما يخصّ هذه السياسات، تظهر التقارير والدراسات التي تقوم بها هيئات محلية ودولية، حجم الضرر الفادح الذي يلحق بالسكان وبيئة العمل في البلدان المستهدفة، ومن ذلك:
– انتهاك الحد الأدنى من حقوق العمال.
– الإضرار بالبيئة والتنوّع البيولوجي ومجاري المياه المحوّلة.
– الإخلاء القسري للسكان أو مقابل تعويضات شكلية.
كما يشار إلى الأكاذيب التي ترافق الحملات الأولى للاستيلاء على الأراضي، ومنها وعود الشركات بإقامة بنى تحتية حديثة مثل المدارس والطرق والمستشفيات.
بيد أن الأخطر في اقتناء الأراضي هو عودتها كهدف للاستعمار المباشر، وذلك بالنظر إلى الانقلاب الكبير بين المراكز الرأسمالية وأطراف العالم أو محيطه أو جنوبه، والناتج وفق المفكر المصري، سمير أمين، من التركيب العضوي لرأس المال والتطور اللامتكافئ المرتبطين به، وبالتالي ميل تقسيم العمل العالمي إلى: توسيع المحيط من الصناعات الوسيطة، في مقابل، الاهتمام المتزايد للشمال الرأسمالي بالزراعة.
إن الثورة العلمية الرابعة والأتمتة وهي تقذف بالملايين خارج سوق العمل، تقصي مزيداً من خطوط الإنتاج الصناعية جنوباً وتسعى لإعادة التوازن إلى أسواقها الاجتماعية عبر الزراعة، ناهيك بالمرجعية المالثوسية بشأن المتواليات الهندسية والحسابية للغذاء والسكان.
وما حرب البذور سوى تعبير عن هذه المالثوسية.
فالشمال الرأسمالي وهو يحاول احتكار البذور وتصدير المواد الزراعية والمعقّمة (لا يمكن تدويرها كحبوب في الأرض)، ويحصّن هذا الاحتكار بحقوق الملكية الفكرية، بدأ يمارس أشكالاً مختلفة لهذه الغاية باسم استثمار الأراضي واقتنائها في بلدان المحيط، والتي تجري أحياناً بالتعاون والشراكة مع محمياته الجنوبية، المالية أو النفطية.
وبهذا، فالجنوب والمحيط العالمي أمام شكل جديد من الاستعمار التقليدي يضع أبسط احتياجاته الغذائية تحت رحمة الشمال الرأسمالي، ويحوّل (أرضه) إلى جغرافيا بلا قيمة وطنية وإنتاجية تخصه.
العالم يقاوم
من الطبيعي أن يظهر السكان المحليون أشكالاً من الاحتجاج والمقاومة العضوية لاستغلال قوة عملهم وأراضيهم وطريقة حياتهم.
وحسب جين هاريغان، فقد رفض المزارعون في إثيوبيا وباكستان وكينيا استثمارات خليجية للسعودية وقطر، وأدى الصراع مع مستثمرين قطريين في كينيا إلى انتفاضة ضد الاستيلاء على أراضيهم، كما تعرضت شركة (سعودي ستار) للملياردير محمد العمودي إلى هجوم مسلح في إثيوبيا وهكذا.
وتؤكد هاريغان أن الحق في الغذاء ضمن شروط كريمة تحفظ حقوق الفلاحين في العمل والأرض وشروط السلامة، حق منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، وفي الاتفاقية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966.
وتتوقف عند هيئتين تقاومان سياسات الاستيلاء على الأرض، هما:
1- الهيئة المعروفة بالائتلاف الدولي للأراضي المشكل عام 2003 من 56 منظمة تمثل 46 دولة بهدف تمكين الناس من السيطرة على أراضيهم.
2- أيضاً، وفي مقابل منتدى الشركات والاحتكارات الرأسمالية النهابة المعروف بـ”منتدى دافوس” هناك منتدى مضاد، وهو “منتدى نيليني” الذي ينطلق من المبادئ الآتية:
1- رفض التعامل مع الغذاء كسلعة، والتركيز على شعار الغذاء من أجل الناس في ظروف كريمة ملائمة.
2- التأكيد على منظومة قيم خاصة بالغذاء، تحترم مساهمات المنتجين الحقيقيين من مزارعين وصيادين ورعاة، أو سكان الغابات والسكان الأصليين وحقوقهم.
3- مراعاة التنوع البيولوجي والبيئة في معطياتها الإيكولوجية والإنتاجية والتراثية.
4- إعطاء الأولوية للاستحقاقات المحلية اقتصادياً واجتماعياً، وحماية الأغذية من سياسات الإغراق والأغذية الرديئة وغير الصحية والمعدلة وراثياً.
5- رفض تدابير الحكومة والاتفاقات والممارسات التي تعتمد على التجارة الدولية التي تعطي السلطة للشركات العابرة خارج نطاق الدولة والمساءلة.
6- تطوير المعرفة والمهارات والبحوث في الإطار السابق.
- المصدر: الميادين نت
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع