ثابت العمور*

حرصت الحركات الإسلامية على اختلاف مكوناتها الفكرية وامتداداتها الجغرافية، على استحضار القضية الفلسطينية في خطابها وأدبياتها. وفّر هذا الاستحضار، في المقابل، حضوراً ورصيداً ملحوظين لهذه الحركات في الشارعين العربي والإسلامي، المنحازين فطرياً إلى القضية الفلسطينية. وبدا ذلك واضحاً في مونديال قطر 2022، على رغم كل المتغيرات التي عصفت بالمشهد، وآخرها عاصفة التطبيع، التي لم يتفطّن خطاب الحركات الإسلامية، على ما يبدو، لإمكان وقوعها وحدوثها، حتى وجد نفسه في أزمة تناقض بين البقاء على الانحياز إلى القضية الفلسطينية وتمرير التطبيع.

تجلّت أزمة الموقف من التطبيع، وتناقضاته وتداعياته على خطاب الحركات الإسلامية، بصورة واضحة وملموسة لدى حزب العدالة والتنمية المغربي، الذي ترفض أدبياته، منذ تأسيسه عام 1967، أي شكل من أشكال التطبيع. حتى إن أمينه العام، سعد الدين العثماني، كان جزءاً اصيلاً من التوقيع على اتفاقية التطبيع بين المغرب وكيان الاحتلال في 22 ديسمبر 2020. وهو ما أفضى في حينه إلى إثارة الغضب داخل الشارع المغربي وفي أروقة الحزب، حتى وصلت إلى حد مطالبة أعضاء الحزب باستقالة العثماني.

سارع الحزب إلى استدراك الأزمة مُغلّباً بُعدها الداخلي، فذهب الى عقد اجتماع استثنائي للأمانة العامة للحزب من أجل تأكيد دعم العثماني. وكان اللافت في ذلك الاستدراك رفض عبد الإله بن كيران، الأمين العام السابق للحزب ورئيس الحكومة المغربية الأسبق، مطالب استقالة العثماني من منصبي رئيس الحكومة والأمين العام للحزب، ودفاعه عن الاتفاق مع كيان الاحتلال، مؤكداً أن حزب العدالة والتنمية جزء من بنية الحكم في الدولة، ولا يمكنه بالتالي رفض التوقيع، مشدداً، في فيديو نشره في صفحته الرسمية في فيسبوك، بعد يومين فقط من توقيع اتفاق التطبيع بين المغرب وكيان الاحتلال، وتحديدا في 24 ديسمبر 2020، على رفضه الحديث عن إقالة العثماني وتكليف نائبه، مشيراً إلى أن “الحزب ليس حزباً عادياً، بل يَرْئِس الحكومة، وعضو أساسي في بنية الدولة، ويتخذ القرار في القضايا المصيرية”.

تراجع عبد الإله بن كيران لاحقاً عن دعم العثماني، وحمّله المسؤولية عن خسارة الحزب المدوية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. فكتب في إحدى تدويناته أنه “انطلاقاً من وضعي الاعتباري كأمين عام سابق للحزب، وبعد اطلاعي على الهزيمة المؤلمة التي مُني بها حزبنا في الانتخابات، أرى أنه لا يليق بحزبنا، في هذه الظروف الصعبة، إلّا أن يتحمل السيد الأمين العام مسؤوليته ويقدم استقالته من رئاسة الحزب”، وذلك بعد تراجع الحزب الى المرتبة الثامنة برصيد 13 مقعداً في مجلس النواب في انتخابات سبتمبر 2021، بعد أن كان في المرتبة الأولى في انتخابات عام 2011 برصيد 107 مقاعد، وبرصيد 125 مقعداً من أصل 395 مقعداً في انتخابات عام 2016.

أفضت المعالجة العاجلة لاستدراك حزب العدالة والتنمية تداعيات الوقوع في فخ التوقيع على اتفاق التطبيع، إلى أزمتين: الأولى ذاتية، تتعلق بالتناقضات الفجة في خطاب الحزب، والثانية موضوعية، تتعلق بحضور الحزب وخسارة رصيده السياسي في الشارع المغربي.

وغلب على المعالجة أنها بدت محاولة ترميم الرصيد السياسي للحزب أكثر من كونها إجراء مراجعة حقيقية لخطيئة التوقيع على اتفاق التطبيع. واتضحت أزمة تناقض خطاب الحزب عند كل من العثماني وعبد الإله بن كيران، فبدت كمناورة سياسية أكثر من كونها صحوة ضمير متأخرة، عبّر عنها تبرّؤ رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب العدالة والتنمية سابقاً، سعد الدين العثماني، بعد عامين على توقيع اتفاق التطبيع، وقوله إنه أُجبر عليها كونها “سياسة دولة، وبقرار من الملك”، واصفاً اللحظة بأنها كانت مؤلمة وصعبة.

وذهب الدكتور سعد الدين العثماني إلى أبعد من ذلك في محاولة ترميم تداعيات التوقيع، عندما نشر تغريدة في صفحته في موقع التواصل الاجتماعي، “تويتر”، في 7 فبراير 2021، رحّب فيها بقرار المحكمة الجنائية الدولية، القاضي بالولاية القضائية على الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكتب فيها أن “إصدار قضاة المحكمة الجنائية الدولية قراراً يقضي بأن للمحكمة ولاية قضائية على جرائم حرب أو فظائع ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يُعَدّ أمراً تاريخياً يفتح المجال أمام تحقيق محتمل في تلك الانتهاكات”.

التبرّؤ من التطبيع وتداعياته، ومحاولة ترميم التأَكُّل في رصيد حزب العدالة والتنمية المغربي، لم يكونا حكراً فقط على العثماني الخارج من الأمانة العامة للحزب، فعبد الإله بن كيران، العائد مؤخراً إلى الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، بعد انتخابه في 30 أكتوبر 2021، في المؤتمر الاستثنائي للحزب بنسبة 81%، بحصوله على 1012 صوتاً من أصوات المؤتمرين من إجمالي 1252 صوتاً، ذهب إلى أبعد من التبرّؤ من التطبيع. ففي تقريره السياسي السنوي، الذي قدّمه إلى مُؤتمر حزبه العام في 14 يناير 2023، أكد رفضه التطبيع ودعمه المقاومة الوطنية الفلسطينية، وحذّر من الاختراق الصهيوني. وفي خطاب استباقي رفض عبد الإله بن كيران “احتضان بلاده أي اجتماع بحضور العدو الصهيوني”. جاء ذلك عقب إعلان وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي، إيلي كوهين، في 2 يناير الجاري، أن المغرب سيحتضن، خلال مارس المقبل، اجتماع قمة “النقب 2” بين كيان الاحتلال والإمارات والبحرين ومصر، بالإضافة إلى الدولة المضيفة والولايات المتحدة.

يُدلّل ما سبق، ولا سيما رفض الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عبد الإله بن كيران، استضافة المغرب “قمة النقب 2″، وحضور مفردات دعم المقاومة الفلسطينية والتحذير من الاختراق الصهيوني، على حدوث تحول في الخطاب السياسي للحزب. فهل هذا التحول في الخطاب والموقف صحوة ضمير وتوبة عن خطيئة الاشتراك في التوقيع على التطبيع، ويمثّل بالتالي إجراء مراجعة حقيقية، أم هو مجرد مناورة سياسية تحاول استدراك التبعات وترميم تَأَكُّل رصيد الحاضنة الشعبية للحزب واستعادة حضوره.

قد يكون من المُبكر الحُكم على ذلك وتقديم إجابة جازمة، لكن التاريخ لا يتوقف عند تحولات الخطاب إذا لم تكن هناك خطوات حقيقية على الأرض توقف تمدد التطبيع، من كونه مجرد اتفاق سياسي إلى تعاون عسكري شمل الاستعلام والدفاع الجوي والحرب الإلكترونية، في آخر اتفاق تم توقيعه في الرباط بين المغرب وكيان الاحتلال في 17 يناير الجاري.

إن الرهان على قدرة الخطاب السياسي وحده على إعادة الجماهير إلى الالتفاف غير كافية، ولا سيما في بلد شهد، في 25 ديسمبر الماضي، احتجاجات في 30 مدينة مغربية تطالب بإسقاط التطبيع ودعم القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. وقادت مجموعة من منظماته الشبابية والطلابية، في 17 يناير الجاري، إطلاق “الجبهة العربية المغاربية لمناهضة التطبيع ودعم القضية الفلسطينية”، والمكوّنة من اتحاد الشباب والطلاب من المغرب والكويت وتونس وموريتانيا ولبنان وفلسطين والعراق والسودان والأردن، معلنةً في بيانها التأسيسي دعمها كل “أشكال كفاح الشعب الفلسطيني، وأنها ستقف سداً منيعاً في محاربة كل أشكال التطبيع، أكاديمياً وسياسياً وأيديولوجياً وإعلامياً”. ولم يكن شباب حزب العدالة والتنمية المغربي أحد مكوّناتها، أو مشاركاً فيها.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع