شارل ابي نادر

 

لا شك أن التغييرات الميدانية الأخيرة التي فرضتها الوحدات الروسية في الدونباس – أوكرانيا وتحديدًا في سوليدار وسول ومحيط باخموت ستشكل نقطة تحول أساسية في الحرب بدأت تظهر وتتأكد يومًا بعد يوم وبتوقيع من قادة “الناتو” شخصيًا.

هذا التحول المرتقب لم يؤكده فقط كلام الرئيس بوتين الأخير بأن الانتصار وتحقيق الأهداف الروسية حتمي في المعركة، أو كلامه ما قبل ذلك من أن “العملية العسكرية تتبع ديناميكية إيجابية، وكلّ شيء يسير وفق خطط وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامّة”، بل تؤكده وتثبته تصريحات قادة الغرب الأطلسي وفي مقدمتهم الأمين العام لحلف “الناتو” ينس ستولتنبرغ، والذي اعتبر أنّ “النزاع في أوكرانيا يمرّ بلحظة حرجة، وكييف بحاجة إلى زيادة كبيرة في الدعم لا سيما العسكري”.

في الواقع، قد يكون كلام أمين عام “الناتو” حول هذا الموضوع هو الأهم، والذي يجب أن يبنى عليه أكثر من كلام الرئيس بوتين – مع أهمية كلام الأخير – والسبب أن الرئيس بوتين حافظ على نفس مستوى التوقعات منذ بداية العملية حول حتمية انتصار روسيا، بينما كان قادة ومسؤولو “الناتو” منذ بداية العملية، وحتى ما قبل أسابيع قليلة دائمًا يصرحون ويقولون بشكل شبه مؤكد بأن روسيا ستخسر في أوكرانيا، وبأنهم لن يسمحوا لها بأن تحقق أهدافها.

صحيح أن هذا التصريح لأمين عام “الناتو”، لا يحمل اعترافًا صريحًا بأنهم يخسرون أمام الروس، ولكن اعترافه بأن النزاع في أوكرانيا يمر بمرحلة حرجة بالتواكب مع معطيات واسعة وشبه مؤكدة من الميدان، يؤكد أن الجنود الأوكران بدأوا يفقدون إرادة القتال والثبات، وهذه الظاهرة قد تكون الأساس وتأثيراتها السلبية على معركتهم أكثر بدرجات من تأثيرات الأسلحة والدعم الغربي، فما الذي تغيّر بالنسبة لهؤلاء اليوم؟ وما هي أسباب هذه التصريحات الانهزامية الأطلسية؟ وكيف يمكن فهم ذلك؟

من الناحية العسكرية، ما حققه الروس مؤخرًا من تقدم ميداني في سوليدار ومحيطها يبقى لناحية المساحة الجغرافية بسيطًا جدًا مقارنة مع مساحة المناطق التي انسحبوا منها (أو أعادوا انتشارهم فيها) في الفترة الأخيرة، في مناطق جنوب خاركيف أو شمال غرب لوغانسك أو في خيرسون، حيث الانسحاب الروسي من الأخيرة كان لافتًا وبنى عليه “الناتو” الكثير لناحية تقدم الاوكران في المعركة بشكل عام، ولكن أهمية وحساسية السيطرة الروسية الأخيرة في سوليدار ومحيطها تبقى ذات قيمة عسكرية وميدانية وعملياتية ضخمة، لأن تلك المنطقة (سوليدار ومحيطها)، كانت نقطة التركيز الأكبر للدفاع الأوكراني، حيث كانت تشكل النقطة الوسطى في جبهة الدفاع الشرقية الأوكرانية بمواجهة الوحدات الروسية، ودليل ذلك نسبة الخسائر الضخمة في العديد والعتاد التي سقطت للوحدات الأوكرانية في تلك الجبهة، والتي هي عمليًا مفتاح السيطرة على ما تبقى من حوض الدونباس الشرقي غير المحرر بالنسبة للروس، اضافة طبعًا لكونها تحضن عقدة المواصلات – وخاصة بسكك الحديد – الأهم بين الدونباس وخاركيف شمالًا ودنيبرو غربًا وزابوراجيا والقرم وسواحل آزوف جنوبًا.

من منطقة سوليدار ومحيطها جاءت الخشية الأطلسية، وجاءت صرخة أمين عام “الناتو”، بأن النزاع في أوكرانيا يمرّ بلحظة حرجة، وأن كييف بحاجة إلى زيادة كبيرة في الدعم لا سيما العسكري، حيث رأى خبراء “الناتو” أهمية وحساسية تلك المنطقة من الناحيتين العسكرية والميدانية، فتحرك موضوع ضرورة تأمين دعم سريع لكييف بالدبابات الغربية فجأة، وبدأ السجال الغربي حول ذلك، داخل الدول المرشحة لتقديم هذه الدبابات، في بريطانيا التي ستقدم دبابات تشالينجر 2 أو في المانيا تحديدًا، أو السجال بين تلك الدول، حيث اشترط المستشار الألماني شولتز لتقديم دبابات ليوبارد ٢ الالمانية لكييف، أن تقدم واشنطن للأخيرة دبابات مماثلة.

أيضًا، وعلى خط آخر من خطوط الدعم السريع لكييف، قررت واشنطن مد كييف وعلى وجه السرعة بكمية كبيرة من مخزونها من قذائف مدفعية الهاوتزر في “الكيان الصهيوني”، بالرغم من أهمية وحساسية هذه المخازن ودورها كعنصر أساسي من عناصر المواجهة المرشحة دائمًا لأن تندلع بين “الكيان الصهيوني” ومحور المقاومة، وطبعًا بالإضافة للحاجة العسكرية من ذلك في معركة الدونباس بنظر الأميركيين. يبقى هناك سبب سياسي وراء ذلك يقوم على هدف واشنطن بتوسيع الشرخ في العلاقة المتوترة أصلًا بين “تل ابيب” وبين موسكو.

عمليًا، أن تصل الأمور لدى دول “الناتو” إلى ضرورة تقديم دعم فوري لكييف بدباباتها الأكثر تطورًا، بعد أن كانت قد فتحت للأخيرة مخازنها وما زالت لمجموعة واسعة من الأسلحة النوعية والفتاكة، من صواريخ هيمارس ومدفعية هاوتزر ومسيّرات مختلفة النماذج، فهذا يعني أن “الناتو” التمس مؤخرًا أن المواجهة البرّية التي تدور رحاها اليوم في شمال غرب الدونباس ستكون الحاسمة في الحرب، حيث رأى الخبراء العسكريون الأطلسيون أن تقدم الروس في حوض الدونباس أصبح شبه مؤكد، وصدّه يصبح يومًا بعد يوم معقدًا وصعبًا أكثر وأكثر، وربما تكون الدبابات الغربية المتطورة الحل الوحيد المتبقي لمواجهة هذا التقدم أو عرقلته جزئيًا على الأقل.

مع التعقيدات الواضحة حول عملية تسليم كييف هذه الدبابات بالسرعة الممكنة والضرورية، ومع عدم اليقين من الناحية العسكرية بأن يكون لهذه الدبابات أي تأثير جدي في المعركة، ومع مد يد واشنطن الى مخازنها الاستراتيجية من مدفعية الهاوتزر في “الكيان الصهيوني“، رغم حساسية جبهة الأخيرة حاليًا، يبدو أن الثقة الروسية بالانتصار في المعركة تكبر وتتأكد يومًا بعد يوم، يقابلها تراجع في الموقف وتردد في المقلب الآخر (لدى الناتو)، والأهم في ذلك هو: ربما قد اكتشفت دول الغرب الأطلسي أخيرًا أن انتهاء هذه الحرب بفوز روسيا وترتيب تسوية سياسية مقبولة اصبح انسب لهذا الغرب الاطلسي من استمرار هذه الحرب، بما تحمله من استنزاف لها ولاقتصادياتها ولقدراتها العسكرية، والتي بدأت تنضب يومًا بعد يوم، إلى ما دون الخط الأدنى المسموح به عسكريًا واستراتيجيًا.

  • المصدر: موقع العهد الاخباري
  • المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع