رفيق خوري *

تونس محظوظة وغير محظوظة في آن. “محظوظة: ليس لديها جيش قوي”، كما كتب الرئيس الباجي قائد السبسي في كتاب “الحبيب بو رقيبة: القمح والتبن”. و”غير محظوظة مثل البلدان التي تحتاج إلى أبطال”، كما قال المسرحي الألماني الكبير برتولد بريشت. في الذكرى الحادية عشرة لـ”ثورة الياسمين” تبدو تونس محكومة بأن تنتقل من ثورة إلى ثورة.

كل ثورة تبقى ثورة تقع في مشكلة هي بناء “دولة قلقلة” تعجز عن إنجاز الوعود الكبيرة. وفي كل مرحلة كانت تونس تحتاج إلى أبطال من بورقيبة إلى زين العابدين بن علي ثم المنصف المرزوقي ثم الباجي قائد السبسي ثم راشد الغنوشي وصولاً إلى قيس سعيد، كما كانت بعد التجارب تقع في تصوير الخلاص الوطني بأنه مجرد التخلص من شخص بورقيبة، ثم من بن علي، ثم من رئيس “النهضة” والبرلمان الغنوشي، والآن من الرئيس قيس سعيد، فضلاً عن التقلب على الجانبين من دون أن ترتاح من النظام الرئاسي إلى البرلماني فالرئاسي.

ثورة الياسمين كانت الاستثناء من القاعدة في ثورات ما سمي “الربيع العربي”. لا على طريقة ليبيا، ولا على سوريا، ولا على اليمن، ولا حتى على طريقة مصر. بدأت تجربة ديمقراطية تعددية، وأقرت دستوراً من أرقى الدساتير في المنطقة.

لكن، ظاهرة الانشقاقات في الأحزاب ضربت التجربة الديمقراطية، وأغرت راشد الغنوشي بالتغول على السلطة وفيها. وهذا ما دفع الرئيس قيس سعيد إلى ما سمي “الانقلاب الدستوري” يوم 25 يوليو (تموز) 2021، فقد حل الحكومة والبرلمان وحكم بالمراسيم في مرحلة انتقالية إلى ديمقراطية بلا أحزاب وبرلمان بلا قدرة على الرقابة، وقضاء خاضع للسلطة.

وحين أجرى انتخابات نيابية من دون تمثيل حزبي، فإن المقاطعة كانت واسعة، بحيث لم يمارس حق الاقتراع سوى 11 في المئة من تسعة ملايين ناخب. كانت هذه فرصة أمام الأحزاب المقاطعة لتتحدث عن “سقوط شرعية” سعيد، وتطالب بإخراجه من قصر قرطاج. وهو معاند صلب، غير أنه يبدو على طريق بلا خريطة، إذ حتى الاتحاد التونسي للشغل، وهو من أقوى القوى في البلاد، صار معارضاً له بعد أن أيد انقلابه الدستوري في البداية.

والمشكلة مع قيس سعيد وقبله هي الغرق في الألعاب والمناورات السياسية على مسرح السلطة من دون التفات جدي إلى مشكلات الناس والبلد التي على أساسها قامت “ثورة الياسمين”: معالجة البطالة والأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية ومكافحة الفساد. فالأزمات تفاقمت بعد الثورة، والبطالة ارتفعت نسبتها، لا سيما بين الشباب المتخرج في الجامعات.

وفي استطلاع للرأي أجراه “المرصد العربي” تبين أن العرب يريدون “هوية اقتصادية”، ويبحثون عن حكم يمكن أن يقدمها. والهاجس هو “الاقتصاد قبل الديمقراطية”. والميل العام هو إلى “النموذج الصيني” الناجح في النمو.

ما حدث في تونس هو أن الرئيس سعيد عدّل الدستور ومارس الحكم الفردي باستبداد كامل وعجز عن معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي أضاف إليها أزمة سياسية عميقة. وهو يعتبر أن تونس “في حرب ضد الفساد والخونة والأعداء”. ويكاد يتبنى ما يشبه شعار موسوليني “أعداء كثر، شرف أكثر”.

لكن، موسوليني اعترف بأن “حكم إيطاليا ليس صعباً بل مستحيلاً”. أما قيس سعيد، فإنه يتصرف كأنه يمسك بالأحداث من قرنيها ويصنع التاريخ، على عكس الرئيس أبراهام لينكولن الذي صنع التاريخ في أميركا، ثم قال “أنا أدعي أنني أسيطر على الأحداث لكني أعترف بأن الأحداث تسيطر عليَّ”.

ولا أحد يعرف كيف تنتهي الدعوة إلى “حل وطني”، لكن تونس جربت الثورة من تحت، والثورة من فوق، ولا تزال تنتقل من ثورة إلى ثورة، ومن أزمة إلى أزمة في غياب القدرة على بناء دولة قادرة وعادلة وديمقراطية تمارس العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة في كل المناطق خارج المنطقة الساحلية المحظوظة نسبياً.

* المصدر : الاندبندنت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع