بثينة شعبان*

 

في كثير من الأحيان أتساءل ما هو منشأ بعض العادات في مجتمعاتنا، والتي اكتسبت صبغة القدسيّة مع أنها لا تمتّ للدين بصلة، بل على العكس، هناك ما يناقض الدين كثيراً من هذه الموروثات التي تناقلتها الأجيال بشكل أساسيّ؛ لانعدام الجرأة في طرح الأسئلة العميقة والجوهريّة التي يخشى كثيرون طرحها.

ولنبدأ على سبيل المثال لا الحصر من موقع كبير السنّ في الأسرة، ووقع رأيه على الأصغر منه؛ إذ يسود الاعتقاد بأنه يجب إطاعة كبير السنّ، ولا يجوز أبداً لمن هو أصغر منه سنّاً أن يشكّ في قدرته وقيادته.

ولكنّ سيدنا إبراهيم، عليه السلام، أخذ موقفاً حاسماً ضدّ أبيه الذي كان يعبد الأصنام، وحاول أن يهديه إلى طريق الحقّ، وهذه بالطبع ليست دعوة إلى التمرّد على من هم أكبر سنّاً، ولكنها دعوة إلى الوقوف مع الحقّ ومع الصّح، حتى وإن تطلّب هذا جفاء مع ذوي قربى. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ»، أي أنّ العدل والحقّ أهمّ من صلة القربى والوفاء لهم، بينما نلاحظ أنّ العصبية الأسريّة أو القبلية تضرب بالحقّ عرض الحائط، تحزّباً لذوي القربى وانتصاراً لهم، وإن كانوا على باطل، مع أنّ أسرة يوسف، عليه السلام، أظهرت بشكل جليّ أنّ الإخوة قد يكيدون لأخيهم: «قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا»

كما نلاحظ أنّ الناس يسعون جاهدين، وأحياناً يرتكبون المعاصي من أجل تكديس الثروات لأولادهم، مع أنّ الله عزّ وجلّ قال: «إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ»، وقال في آية أخرى: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ»، ومع هذا فالعرف والعادة يقضيان بالعمل المستميت من أجل ضمان مصلحة الأولاد حتى بعد رحيل الأبوين عن هذه الدار.

ولكن، ومما يشغل بالي أحياناً هو من أين أتت كلّ المسؤوليات الخدميّة المترتّبة على المرأة إذا كان الله عزّ وجلّ قال: «فإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ»، إذا كانت المرأة ليست مجبرة بحكم الدين على إرضاع ولدها، بل يجب أن يُدفع لها أجر إذا أرضعته، فمن أين أُلصقت كلّ هذه المهام الخدميّة بالمرأة، والتي تستهلك وقتها وعمرها ولا تنال عليها جزاء ولا شكوراً، بل تعدّ جزءاً لا يتجزّأ من المهام الملقاة عليها بحكم طبيعتها وكونها زوجاً وأمّاً وأختاً وبنتاً.

أما المفهوم الذي أحدث أكبر الضّرر بأداء المسلمين في دولهم المتعدّدة فهو مفهوم الكثرة والقلّة، والخلط بين مفهومي المساواة والعدالة، من دون التركيز على الاستخدام الصحيح والمعنى الدقيق لكلّ منهما. إذ ما زال معظم الناس يعتقد أنّ الحقّ دائماً مع الكثرة، مع أنّ سور القرآن الكريم وآياته عامرة بامتداح القلّة وذمّ الكثرة: «وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ»، «فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا»، «وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ»، «كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِين»، «بل أكثرهم لا يعلمون».

في المقابل، نجد أنّ القلّة استحقّت المدح الإلهي لأنها التعبير الصادق عن رفض الانجرار وراء الأكثرية التي توهّمت أنّ كثرتها تجعلها محقّة فيما هي عليه من الاعتقاد، أو أنها طريق النّصر: «وما آمن معه إلّا قليل»، و«قليل من عباديَ الشَّكوْر»، وإذا أردنا أن نترجم هذه اللغة إلى لغة الحداثة فنقول إنّ النخبة العارفة العالمة يجب أن تكون محطّ تقدير ومديح، وليست الأكثرية التي تعدّ كثرتها مبرّراً لها أن تكون محقّة. ولو تفكّرنا في هذا المفهوم لوجدنا أنّ الدول التي بنت مجداً وحقّقت تطوّراً فعلت ذلك من خلال اعتمادها على النخبة في الهند والصين والغرب، حيث يتمّ إيلاء الاهتمام للنخبة الكفوءة القادرة والتي تتمتّع بالتسهيلات كافة فتُحدث تقدماً وتطوّراً.

أمّا البلدان التي لا تولي أهمية تذكر للتمييز بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فنجدها تسير كالسلحفاة في المسار البشريّ، ولا تُحدث التطوّر أو القفزات التنموية المأمولة. فرغم الفقر والمشاكل الحياتية في الهند، تمكّنت النخبة الهندية من بناء دولة قويّة متطوّرة يُحسب لها حساب.

كما عملت الصين على إعمال حكم النخبة من خلال الحزب الشيوعي الصينيّ الذي يعدّ قلّة قليلة؛ مئة مليون من أصل مليار ونصف، والفاعلون به هم بضعة ملايين يخطّطون لمستقبل البلاد، ويعملون على تحقيق تطوّرها وازدهارها. ناهيك بالقول إنّ الغرب قد طوّر، وعلى مدى عقود، نُخباً سياسية وفكرية وعقائدية، وهي التي تدير شؤون البلاد فعلياً بغضّ النظر عن ادّعاء الديمقراطية والتخفّي وراء مقولات حكم الأكثرية التي لم تحكم يوماً أيّ بلد من هذه البلدان.

وهنا، يكمن الفرق بين مفهومي المساواة والعدالة، هذا المفهوم الذي يتعرّض للتشويه وإساءة الاستخدام؛ إذ لا يمكن أن نقول إنّ البشر متساوون؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى خلقهم بإمكانات ومقدرات مختلفة، وهم عملوا أيضاً بطرائق مختلفة، فكيف يمكن أن يكونوا متساوين؟! إذاً، المطلوب ليس المساواة بين البشر، بل تحقيق العدالة بينهم، وأن ينال كلّ منهم ما يستحقّ بناءً على قدرته وجهده، أي أنّ العدالة تكمن في تكافؤ الفرص، وليس في أن «يستوي الأعمى والبَصير». والمنطق ذاته ينسحب على من ادّعوا حمل لواء تحرّر المرأة في الغرب في سبعينيات القرن الماضي، وطالبوا بالمساواة مع الرجال. إذا كان الله عزّ وجل قد خلق كائنين مختلفين ليكمّل أحدهما الآخر من أجل إعمار هذا الكون، فكيف يمكن تجاهل الطبيعة البشرية الضرورية لاستمرار الخلق؟!

المطلوب هنا حقّاً هو العدالة وتكافؤ الفرص، وأن يأخذ كلّ إنسان، رجلاً كان أم امرأة، في الحياة الفرصة التي يستحقّها في العلم والعمل والحياة. والدليل الأهمّ على نفاق الغرب وقصوره في هذا المجال هو أنّه ترك مسؤولية الأسرة على عاتق المرأة، وقال لها أنت حرّة أن تبدعي. كيف يمكن أن تبدع وكاهلها مثقل بتربية الأولاد ومسؤولية العائلة، ولم يوفّر لها الفرص الخدمية التي تمكّنها فعلاً من تحقيق ذاتها والتميّز في مهنتها. بينما قامت الصين بتوفير كلّ الظروف للمرأة الأمّ واستوعبت الأطفال في حضانات ورياض أطفال كي تتمكّن المرأة من متابعة مسيرتها المهنية.

وأنا أتفكّر في كلّ هذه المعاني والموروثات، أشعر وكأننا نقول «وجدنا آباءنا لها عابدين»، أوَ ليس من واجبنا الدينيّ والفكريّ والأخلاقيّ والإنسانيّ أن نتوقّف مع الموروثات، ونتساءل عن جدواها وصحّتها ودورها السلبي أو الإيجابي، والتصحيح الذي يجب أن تخضع له وفق حاجات مجتمعاتنا المعاصرة وتطلعاتها.

  • المصدر : الميادين نت
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع