علي ظافر

 

من النكت السياسية المنقولة عن الإمام أحمد حميد الدين أنه اعترض على “استقلال الكويت” في ستينيات القرن الماضي. وحين سُئل عن السبب، رد بشكل ساخر وباللهجة المحلية: “خائف بكرة عنس تعلن نفسها دولة”. بعيداً عن صواب الموقف من عدمه، فإنه كان نابعاً من مخاوف تكرار هذا السيناريو في اليمن، ذلك أنَّ الإمبراطورية البريطانية كانت تحتل جنوب اليمن وجزيرة كمران التابعة للحديدة.

ومن خلال اعتمادها سياسة “فرق تسد”، عمدت بريطانيا إلى تفريخ السلطنات جنوباً، وتحريض بعض مشايخ قبيلة الزرانيق شمالاً، وحملهم على الذهاب إلى الأمم المتحدة، للحصول على اعتراف بهم ككيان مستقل عن المملكة المتوكلية اليمنية، لولا أن صنعاء في حينه تداركت الموقف بعمل عسكري مفاجئ، واستعادت تلك الرقعة الجغرافية، قبل وصول ذلك الشيخ إلى الأمم المتحدة.

اليوم، ربما نعيش السيناريوهات ذاتها، وتحديداً في المحافظات الجنوبية والشرقية للجمهورية اليمنية، وحتى الغربية ذات الأهمية الإستراتيجية، بعدما مكّنت دول العدوان فصائل وميليشيات منقسمة عمودياً ومتشظية أفقياً في تلك المحافظات، من عدن إلى حضرموت والمهرة وشبوة ومأرب، وصولاً إلى تعز والساحل الغربي.

ومن يتأمل في الخريطة اليمنية اليوم، يجد أن العدوان العسكري رسم خريطة دم يراد لها أن تصبح واقعاً، بعدما فشل تحالف العدوان في فرض مشروع الأقاليم الستة تحت عنوان “الدولة الاتحادية”.

في المقابل، نجحت رباعية العدوان في إيقاظ شياطين “المناطقية السياسية” وإنعاش “النزعات الانفصالية” و”الهويات الصغيرة القاتلة”، وأعادت إلى الميليشيات والفصائل المتناحرة أحلام الماضي والحنين القديم إلى السلطنات والكنتونات. ومن الملاحظ أنّ هناك تقاسم أدوار بين أطراف الرباعية (أميركا وبريطانيا والسعودية والإمارات)، من خلال دعم المتصارعين في الداخل، سواء اتفقت الأجندة الخارجية أم اختلفت، لكن خلاصة ما يجري تهديد خطر للوحدة اليمنية.

بعد محاولات إماراتية للدفع بالانتقالي إلى إعلان الحكم الذاتي غير مرة، تحاول المملكة العربية السعودية الأمر نفسه عبر الإخوان، أي “حزب الإصلاح”، وما يسمى “الهبة الحضرمية” التي تشكلت من رحم “تجمع الحضارم”، وهو تجمع مالي وهابي يضمّ أصحاب رؤوس المال الحضارم وتحتضنه وتدعمه السعودية منذ أمد بعيد، حتى إن هذا التجمع بات يلبس “البشت” و”العقال” السعوديين، وقد هرب أصحاب رؤوس الأموال إلى السعودية بعد استحكام قبضة الحكم الماركسي جنوباً، أي بعد الاستقلال عن بريطانيا.

ومن المهم التذكير بأن هذا التجمع هو أول من طالب بـ”انفصال حضرموت” إبان حكم علي عبد الله صالح. وقبل سنوات، عمدت السعودية إلى توقيع وثيقة مع التجار الحضارم للدفع بانفصال المحافظة، لأطماع سعودية باتت معلومة لدى كثيرين.

إلى جانب السعودي أيضاً، فإن الأميركي والبريطاني والفرنسي يدفعون بهذا الاتجاه، ذلك أنَّ “اليوم الوطني لحضرموت” الذي رأينا فيه علماً غير العلم الجمهوري، وسمعنا نشيداً غير النشيد الوطني، ودعوات صريحة بأن حضرموت “دولة”، ولم تعد تقبل حتى أن تكون إقليماً ضمن الدولة اليمنية، جاء بعد زيارات متكررة لسفراء الدول الغربية ووفودها، وفي مقدمتها الأميركية.

صحيح أن بن حبريش لا يعبر عن أبناء حضرموت قاطبة، وما قاله لن يصبح بحال من الأحوال أمراً واقعاً، لكن ذلك يعبر عن توجه خطر مدعوم خارجياً، وقد يكون الخيار الأوحد حتى لا يحظى اليمن باستقرار، ولم يعد السؤال عمن يعذي هذه النزعات الانفصالية، بل لماذا حضرموت بالتحديد؟

 

لماذا حضرموت؟

وسط الرؤى المتباينة لخلفيات ما استجد في حضرموت، بين من يرى أنَّ دعوات انفصال حضرموت عفوية ونابعة من مظلومية أبنائها وشغورهم بالغبن، سواء من قبل نظام دولة الجنوب ما بعد الاستقلال أو في ظل نظام علي عبد الله صالح ما بعد الوحدة عام 1990، ومن يرى أن ما جرى يأتي في سياق المناورة، لضرب دعوات الانتقالي إلى انفصال الجنوب، وبأنه إذا كان للانتقالي الحق بأن يطالب بعودة دولة ما قبل الوحدة، فإن من حق الحضارم أن يطالبوا باستعادة دولتهم ما قبل استقلال الجنوب على الاحتلال البريطاني، فإنَّ التطور الخطر في حضرموت جاء من ناحية التوقيت، بعد 3 زيارات نفذها السفير الأميركي ستيفن فاجن في غضون 6 أشهر، وبعد زيارات نفذها السفير الفرنسي جان ماري صافا مطلع تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، فضلاً عن زيارات وفود عسكرية أميركية للمحافظة.

ولم يعد خافياً أن الولايات المتحدة اتخذت من مطار الريان قاعدة عسكرية لها، وبات أفرادها يتجولون في شوارع حضرموت من دون أدنى حرج.

إنَّ تكثيف الزيارات إلى حضرموت، وتعزيز الحضور العسكري الأجنبي فيها، يؤكدان بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ ما يدفع باتجاه فصل حضرموت عن الجسد اليمني أجنبي بامتياز (أميركي فرنسي بريطاني خليجي). الأمر لا يحتاج إلى تأويل وتفسير، فحضرموت من أكبر المحافظة اليمنية مساحة، ومن أغناها بالثروات النفطية والمعدنية، ومن أهمها في الموقع الجغرافي، لإطلالتها على البحر العربي المفتوح على أعالي البحار، وسبق أن قال أحد سفراء أميركا لدى اليمن قبل سنوات: “إن حضرموت تتمتع بكل مقومات الدولة”.

هذا يعني أن مشروع التقسيم وتعزيز نزعات الانفصال قديم ويتجدد، من محاولة فرض الأقاليم و”الدولة الاتحادية”، إلى مبررات “ملاحقة القاعدة ومكافحة الإرهاب”، وصولاً إلى التطور الخطر بمحاولة إعلان الانفصال في حضرموت.

وفي أحسن الأحوال، فإنَّ دعوات الانفصال لن يكتب لها النجاح، لكنها تؤسّس لبؤر صراع وتوتر وانقسام في مستقبل اليمن السياسي في حال انتهت الحرب ورفع الحصار وتم سحب القوى الأجنبية، تماماً كما عملت بريطانيا قبيل مغادرتها الجنوب، إذ تركت واقعاً مفخّخاً ومنقسماً سادته التصفيات بين القبائل الماركسية المناطقية من دثينة والضالع ولحج، وظل الوضع كذلك من 1967 – 1986، لينتهي المشهد بتصفية المكتب السياسي الاشتراكي، وما عُرف بالإخوة الأعداء كلهم رفاق، لكنَّ كلاً منهم يهمّ بتصفية الآخر.

وحتى لا تبقى المسألة حصراً في حضرموت، قد نسمع مثل هذه الدعوات في غير محافظة شمالاً وجنوباً وفي الساحل، وهناك تهيئة لذلك، وتبقى الضمانة الوحيدة في قوة المركز، وهذا لا يعني بالضرورة الصدام مع أبناء تلك المحافظات، ولا يلغي التصدي لدعاة التمزيق والتفريق المدعومين من الخارج.

  • المصدر: الميادين نت
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع