السياسية- متابعات:

كتب وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر، مقالة في مجلة “ذا سبكتاتور” السكوتلندية تناول فيها الحرب الروسية الأوكرانية، داعياً إلى ضرورة التوصل إلى تسوية سلمية تجنّب العالم حرباً عالمية ثالثة.

وأشار كيسنجر إلى نتائج الحرب العالمية الأولى التي كانت نوعاً من الانتحار الثقافي الذي دمّر شهرة أوروبا. فقد سار زعماء أوروبا وهم نائمون – على حد تعبير المؤرخ كريستوفر كلارك – إلى صراع لم يكن أي منهم ليدخل فيه لو أنهم توقعوا نهاية الحرب عام 1918.

وأوضح كيسنجر أن دول أوروبا، التي لم تكن على دراية كافية بكيفية تعزيز قواتها العسكرية بالتكنولوجيا ، ألحق بعضها دماراً غير مسبوق ببعض. وفي آب/أغسطس 1916، أي بعد عامين من الحرب وملايين الضحايا، بدأت الدول الأبرز في الغرب (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) باستكشاف آفاق إنهاء المذبحة. في الشرق، كان لدى الخصمين النمساوي والروسي مشاعر متشابهة. ونظراً إلى عدم وجود حل وسط يمكن تصوّره ويمكن أن يبرر التضحيات التي جرى تكبدها فعلاً، ولأن لا أحد يريد أن يعطي الآخر انطباعاً بضعفه، فقد تردد القادة جميعاً في البدء بعملية سلام رسمية، ثم سعوا للوساطة الأميركية.

أضاف كيسنجر: كشفت البحوث التي أجراها الكولونيل إدوارد هاوس، المبعوث الشخصي للرئيس الأميركي آنذاك، وودرو ويلسون، أن السلام القائم على الوضع الراهن المعدل كان في متناول اليد. ومع ذلك، تأخر ويلسون، على الرغم من استعداده وحرصه في النهاية على الوساطة، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2016. بحلول ذلك الوقت، كان هجوم السوم البريطاني وهجوم فردان الألماني قد أضافا مليوني ضحية إلى الضحايا.

على حد تعبير فيليب زيليكو حول هذا الموضوع، أصبحت الدبلوماسية أقل الطرق انتهاجاً. استمرت الحرب العظمى عامين آخرين وحصدت ملايين أخرى من الضحايا، وألحقت بالتوازن الراسخ في أوروبا أضراراً لا رجعة فيها. ألمانيا وروسيا مزقتهما الثورة، واختفت الدولة النمساوية-المجرية من الخريطة. كانت فرنسا قد نزفت بيضاء (استنفدت دماؤها)، وضحّت بريطانيا بنصيب كبير من جيلها الشاب، وبقدراتها الاقتصادية محاولةً الانتصار. أثبتت معاهدة فرساي العقابية التي أنهت الحرب أنها أكثر هشاشة من البنية السابقة التي حلّت محلّها.

ويطرح كيسنجر سؤالاً: هل يجد العالم نفسه اليوم عند نقطة تحول مماثلة في أوكرانيا، حيث يفرض الشتاء توقّفاً للعمليات العسكرية واسعة النطاق؟

وأجاب قائلاً: “لقد أعربت مراراً عن دعمي للجهود العسكرية التي يبذلها الحلفاء (الغربيون) لإحباط العدوان الروسي على أوكرانيا. لكن الوقت يقترب للبناء على التغييرات الإستراتيجية التي جرى تحقيقها فعلاً ودمجها في هيكل جديد بهدف تحقيق السلام من خلال المفاوضات. أصبحت أوكرانيا دولة رئيسة في وسط أوروبا للمرة الأولى في التاريخ الحديث. بمساعدة حلفائها وبإلهام من رئيسها، فولوديمير زيلينسكي. أحرجت أوكرانيا القوات التقليدية الروسية التي كانت تتغلب على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. والنظام الدولي – بما في ذلك الصين – يعارض تهديد روسيا أو استخدامها الأسلحة النووية” على حد زعم كيسنجر.

وأضاف: أثارت هذه العملية نقاشاً حول القضايا الأصلية المتعلقة بعضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو). لقد اكتسبت أوكرانيا واحداً من أكبر الجيوش البرية، وأكثرها فاعلية في أوروبا، وبتجهيز من أميركا وحلفائها. يجب أن تربط عملية السلام في أوكرانيا بحلف شمال الأطلسي، بأي طريقة. لم يعد الحياد بديلاً ذا معنى، وخصوصاً بعد انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو. لهذا السبب، أوصيت في أيار/مايو الماضي بإقامة خط لوقف إطلاق النار على طول الحدود القائمة، حيث بدأت الحرب في 24 شباط/فبراير. ثم تتخلى روسيا تتخلص عن فتوحاتها بعد ذلك التاريخ، ولكن ليس عن الأراضي التي احتلتها منذ نحو عقد من الزمان، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. يمكن أن تكون تلك الأراضي موضوع مفاوضات بعد وقف إطلاق النار.

ورأى كيسنجر أنه إذا كان الخط الفاصل قبل الحرب بين أوكرانيا وروسيا لا يمكن تحقيقه عن طريق القتال أو عن طريق التفاوض، فيمكن تجربة اللجوء إلى مبدأ تقرير المصير. يمكن تطبيق الاستفتاءات، بإشراف دولي في المناطق الخلافية على وجه الخصوص التي جرى تغيير السيطرة عليها مراراً على مر القرون.

وأوضح أن الهدف من عملية السلام سيكون ذا شقين: تأكيد حرية أوكرانيا وتشكيل هيكل دولي جديد، خصوضاً في أوروبا الوسطى والشرقية. وفي نهاية المطاف، يجب أن تجد روسيا مكاناً في مثل هذا الترتيب.

وأشار كيسنجر إلى أن بعض المسؤولين في الغرب خلصوا إلى أن روسيا أصبحت عاجزة بسبب الحرب. لكنه يعترض على هذا الاستنتاج، ويقول: على الرغم من ميل روسيا إلى العنف،قدمت مساهمات حاسمة في التوازن العالمي وتوازن القوى أكثر من خمسة قرون (نصف ألف عام). وأكد أنه لا ينبغي التقليل من دور روسيا التاريخي، كما أن النكسات العسكرية الروسية لم تقضِ على نفوذها النووي العالمي، ما يسمح لها بالتهديد والتصعيد في أوكرانيا. حتى لو تضاءلت القدرات الروسية، فإن تفكك روسيا أو تدمير قدرتها على انتهاج سياسة إستراتيجية، يمكن أن يحوّل أراضيها التي تضم 11 منطقة زمنية إلى فراغ متنازع عليه. قد تقرر مجتمعاتها المتنافسة تسوية نزاعاتها بالعنف. قد تسعى دول أخرى لتوسيع مطالبها (بالأراضي الروسية) بالقوة. كل هذه المخاطر سوف تتفاقم بسبب وجود الآلاف من الأسلحة النووية، التي تجعل روسيا واحدة من أقوى قوتين نوويتين في العالم.

وأضاف: في الوقت الذي يسعى فيه قادة العالم لإنهاء الحرب التي تتنافس فيها قوتان نوويتان على بلد مسلح تقليدياً، عليهم كذلك التفكير في التأثير على هذا الصراع وعلى الإستراتيجية طويلة المدى للتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الصناعي. فالأسلحة ذاتية الحركة موجودة فعلاً، وهي قادرة على تحديد وتقييم واستهداف التهديدات المتصورة الخاصة بها، وبالتالي فهي في وضع يسمح لها ببدء حربها الخاصة. بمجرد العبور إلى هذا المجال وبمجرد أن تصبح التكنولوجيا العالية أسلحة قياسية، وتصبح أجهزة الكمبيوتر هي المنفذ الرئيس للإستراتيجية، سيجد العالم نفسه في حال ليس لديه بعد مفهوم ثابت لها. كيف يمكن للقادة ممارسة السيطرة عندما تحدد أجهزة الكمبيوتر التعليمات الإستراتيجية وبطريقة تحد من المدخلات البشرية وتهددها؟ كيف يمكن الحفاظ على الحضارة وسط هذا العاصفة من المعلومات المتضاربة والتصورات والقدرات التدميرية؟

خلص كيسنجر إلى أنه لا توجد نظرية لهذا العالم الزاحف حتى الآن، والجهود البحثية حول هذا الموضوع لم تتطور بعد ربما لأن المفاوضات الهادفة قد تكشف عن اكتشافات جديدة، وهذا الكشف بحد نفسه يشكل خطراً على المستقبل. ورأى أن التغلّب على الانفصال بين التكنولوجيا المتقدمة ومفهوم إستراتيجيات السيطرة عليها، أو حتى فهم تبعاتها الكاملة، هو قضية مهمة اليوم مثل تغيّر المناخ، ويتطلب قادة يتمتعون بإلمام بكل من التكنولوجيا والتاريخ.

وختم بالقول إن السعي من أجل السلام والنظام مكوّن من عنصرين يجري التعامل معهما أحياناً على أنهما متناقضان وهما: السعي وراء عناصر الأمن وضرورة القيام بأعمال المصالحة. وإذا لم نتمكن من تحقيق كليهما، فلن نتمكن من الوصول إلى أي منهما. قد يبدو طريق الدبلوماسية معقداً ومحبطاً للآمال. لكن التقدم نحو ذلك يتطلب الرؤية والشجاعة قبل المحاولة.

 

  • نقله إلى العربية بتصرف: هيثم مزاحم
  • المصدر: الميادين نت
  • المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع