السياسية- متابعات:

 

قبل أيام، احتفل الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، بمرور أكثر من 200 عام على العلاقات الأميركية الفرنسية، إلا أنّ هذا الاحتفال “عكّره” توتر جديد بين البلدين، والسبب هو القانون الأميركي لخفض التضخم.

بعد أن تجاوزت باريس وواشنطن الأزمة العميقة المتعلقة بتحالف “أوكوس”، بات قانون خفض التضخم الذي اقترحته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أحدث مصادر الخلاف بين البلدين، إذ يمنح هذا التشريع تسهيلات لبيع البضائع المصنوعة في الولايات المتحدة، في حين أنّ الفرنسيين يرون فيه إجراءً حمائياً معادياً للتجارة الحرة، ويخشون تداعياته على الصناعة الأوروبية.

الاتحاد الأوروبي بأسره، وليست فرنسا وحدها، يرى نفسه متضرراً من هذا التشريع الجديد، على اعتبار أنّه يخدم مصالح التضخم في الولايات المتحدة، ولكنه يؤذي المصالح ذاتها أو ما يماثلها في أوروبا.

 

ما هو قانون مكافحة التضخم؟
مع ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة إلى مستويات قياسية منذ عام 1981، بحثت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن طرق جديدة للحد من ارتفاع الأسعار المتزايد في البلاد. ونتيجة ذلك، أعدّ المشرّعون الأميركيون، خصوصاً الديمقراطيون، تشريعاً لخفض معدل التضخم في الولايات المتحدة.

في 13 آب/ أغسطس الفائت، وافق الكونغرس الأميركي على مشروع قانون يهدف إلى تخصيص مبلغ 430 مليار دولار للمناخ والصحة، بعدما أيّده جميع الديمقراطيين (220 صوتاً)، وعارضه جميع الجمهوريين (207 أصوات).

ويهدف مشروع القانون الذي يُعرف باسم “قانون الحدّ من التضخم”، والمعروف أيضاً باسم “خطة بايدن للمناخ والصحة”، إلى خفض التضخم وأسعار الأدوية، ومكافحة تغير المناخ، وزيادة الضرائب على الشركات الكبرى.

وشدد بايدن على أنّ المشروع سيجعل النظام الضريبي في البلاد “أكثر عدلاً” من خلال جعل الشركات تدفع “ضرائب أقل”، مؤكداً أنّ المشروع لن يرفع الضرائب على العائلات التي تحصل على أقل من 400 ألف دولار سنوياً. في المقابل، رفض الجمهوريون المقترح ووصفوه بأنّه “غير مسؤول”، خصوصاً في ظل حالة الركود الاقتصادي التي تواجهها البلاد.

ويسعى المشروع الجديد إلى تحقيق العديد من الأهداف، منها تقليص العجز التاريخي في محاربة التضخم، والاستثمار في الإنتاج باستخدام الطاقة النظيفة، وخفض انبعاثات الكربون بنسبة 40% تقريباً بحلول عام 2030.

ويوفّر أيضاً حوافز للشركات المصنعة لمعدات الطاقة النظيفة، في محاولة لإذكاء التصنيع المحلي، كونها قد تسهم في دفع المطوّرين لتعزيز الإنتاج. ويدعم المشروع سوق عمل الطاقة محلياً، مع تعزيز متطلبات الأجور للمطورين للاستفادة من الإعفاءات الضريبية. كذلك، ينصّ المشروع، من بين أمور أخرى، على إصلاحات تعطي الأفضلية للشركات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرّاً لها، خصوصاً في قطاع السيارات الكهربائية والبطاريات والتكنولوجيا، بهدف إحراز تقدّم في المنافسة التكنولوجية مع الصين.

إلى جانب ذلك، يهدف المشروع إلى تصحيح جزئي للتفاوت الهائل في الحصول على الرعاية الطبية في الولايات المتحدة، بما في ذلك خفض أسعار الأدوية. وللمرة الأولى، سيتمكن نظام “ميديكير” الصحي العام المخصص لكثيرين، خصوصاً الذين تجاوزوا الـ65 من العمر، من التفاوض بشأن أسعار بعض الأدوية مباشرةً مع شركات الأدوية، وبالتالي الحصول على أسعار أكثر تنافسية.

ولتمويل هذه الاستثمارات، ينصّ المشروع على اعتماد حد أدنى للضريبة بنسبة 15% لجميع الشركات التي تتجاوز أرباحها المليار دولار. وتهدف هذه الضريبة الجديدة إلى منع بعض الشركات الكبيرة من استخدام الثغرات الضريبية التي تسمح لها حتى الآن بدفع ضرائب أقل بكثير من المعدل النظري.

 

بروكسل مستاءة من واشنطن

بطبيعة الحال، اشتكى القادة الأوروبيون من هذا المشروع الذي يهدف إلى حماية المصنّعين الأميركيين، لكونه “ظالماً” للشركات غير الأميركية، ولما يمثله من ضربة قاصمة للاقتصادات الأوروبية، في الوقت الذي تعاني أوروبا اقتصادياً بسبب تورطها في الحرب الروسية الأوكرانية.

وذكرت وكالة “بلومبرغ” أنّ هذا القانون أدى إلى زيادة الانقسامات بين دول الاتحاد الأوروبي، مشيرةً إلى أنّه يمكن أن يؤدي إلى انقسام الوحدة عبر الأطلسي بين بروكسل وواشنطن.

وفي وصفٍ لهذا التوتر، اعتبرت صحيفة “بوليتيكو” أنّ “الشقوق بدأت الآن في الظهور مرّة أخرى” بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لافتةً إلى وجود “ذعر” لدى بروكسل من هذا القانون الذي يُحفّز المستهلكين الأميركيين على “شراء سيارة أميركية” في سعيهم لشراء سيارة ملائمة للبيئة.

وفي هذا الصدد، أكد مفوّض التجارة في الاتحاد الأوروبي، فالديس دومبروفسكيس، أنّ “الحوافز التي ستُمنح للشركات الموجودة في الولايات المتحدة تحمل تمييزاً ضد صناعة السيارات، والطاقة المتجددة، والبطاريات والطاقة في الاتحاد الأوروبي”، فعلى سبيل المثال، سيقتصر الدعم المقدّم لشراء السيارات الكهربائية مع بطارية محلية، وقيمته 7500 دولار، فقط على السيارات المصنوعة بأجزاء واردة من أميركا الشمالية أو تلك التي يجري تجميعها هناك، وبالتالي استبعاد السيارات المصنّعة في الاتحاد الأوروبي.

من جهتها، عبّرت وزيرة الدولة الإسبانية للتجارة، شيانا مينديز، عن المخاوف الأوروبية من هذا القانون، بالقول: “نحن خائفون، سنشهد تأثيراً سلبياً في التجارة والاستثمار في الاتحاد الأوروبي، ونخشى أيضاً أن يتأثر وصول منتجاتنا إلى السوق الأميركية بشكلٍ سلبي”، فيما أكدت نظيرتها الهولندية، ليسجي شرينيماخر، أنّ هذا القانون “مُقلق للغاية”، لافتةً إلى أنّ تأثيره المحتمل على الاقتصاد الأوروبي “كبير جداً”.

 

فرنسا وألمانيا قلقتان

كذلك، صعّد قادة فرنسا وألمانيا اللهجة ضد واشنطن، متّهمين إياها بتوفير دعمٍ استثنائي للشركات المنتِجة على أراضيها، وهو ما يتعارض مع قواعد التجارة العالمية، بحسب الأوروبيين.

وانتقد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الإعانات المنصوص عليها في “خطّة المناخ الكبيرة”، ووصفها بأنها “شديدة العدوانية” على الصعيد التجاري. وكانت هذه الخطة في صلب الزيارة الرسمية التي أجراها ماكرون للولايات المتحدة في الأيام الأخيرة.

وقال ماكرون، في مقابلة مع شبكة “أيه بي سي”، إنّ الولايات المتحدة وأوروبا “ليستا على قدم المساواة” بسبب الدعم الأميركي، الذي تنصّ عليه خطة بايدن، محذراً من “خطر” أن تصبح أوروبا بصورة عامة، وفرنسا على وجه التحديد، ضحية للتنافس التجاري الراهن بين واشنطن وبكين.

وتسببت انتقادات ماكرون لبايدن بإثارة ذعر المستشار الألماني أولاف شولتس، إذ يخشى شولتس، وفقاً لوكالة “بلومبرغ”، من أن تؤدي تصرفات ماكرون، رداً على إجراءات الحكومة الأميركية هذه، إلى “حرب تجارية أخرى عبر المحيط الأطلسي”.

ولم تخفِ برلين مخاوفها من قانون بايدن، إذ انتقد وزير ماليتها، كريستيان ليندنر، السياسة الاقتصادية الأميركية، محذّراً في الوقت نفسه من اندلاع حرب تجارية مع الولايات المتحدة، فيما أعلن وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك عن “رد قوي” من قبل الاتحاد الأوروبي على قانون الولايات المتحدة.

 

إجراءات انتقامية

بعد توجيه انتقادات على مدى أسابيع، لوّح مسؤولون أوروبيون أخيراً باللجوء إلى تدابير قضائية، إذ أشارت المفوضية الأوروبية إلى أنها قد ترفع القضية إلى منظمة التجارة العالمية، في حال فشلت المحادثات مع واشنطن في أن تؤتي ثمارها.

والأمر لم يقتصر على ذلك، إذ دعا المفوض الأوروبي لشؤون السوق الداخلية، تييري بروتون، في وقتٍ سابق اليوم، إلى إنشاء “صندوق سيادي أوروبي لدعم المشاريع الصناعية” لمواجهة القانون الأميركي.

وفي مقابلة مع صحيفة “لو جورنال دو ديمانش”، اعتبر بروتون، الذي سبق أن هدّد، مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، بـ”اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية” في هذا الملفّ، أنّ الخطة “تؤدي إلى اختلالات في المنافسة على حساب شركات الاتحاد الأوروبي”، مشيراً إلى أنّ “مجموعة عمل أُنشئت مع ممثلين عن البيت الأبيض والمفوضية الأوروبية”.

من جديد، تثبت واشنطن أنّها تضع مصالحها الخاصة فوق أي اعتبار، حتى لو كان الأمر على حساب تهديد علاقتها مع حلفائها. وهي ليست المرة الأولى التي يقع فيها نزاع أميركي- أوروبي، إذ شهدت فترة ولاية الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب توتراً كبيراً مع الاتحاد الأوروبي، بعد فرضه رسوماً جمركية أميركية على الصلب والألمنيوم المستورد من مناطق عديدة في العالم، بحجة ضرورة حماية الأمن القومي. وفي أقل من ثلاثة أسابيع، ردّ الأوروبيون بفرض ضرائب على عدد من المنتجات الأميركية، قبل أن يتوصل الطرفان لاحقاً إلى اتفاق لحلّ النزاع.

الرئيس الديمقراطي الذي وعد باستعادة الثقة بين الحلفاء عبر الأطلسي، التي أوهنها ترامب بسياساته الحمائية المدفوعة بشعاره الأبرز: “أميركا أولاً”، يواجه مأزقاً أبعد من الانتماء الحزبي للرئيس: سحب الاستثمارات من الصين ولو على حساب حلفاء الأمس.

  • زهراء رمال
  • المصدر: الميادين نت
  • المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع