ليلى نقولا*

اختتم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية التي قصدها لبحث العديد من القضايا التي تهمّ الأوروبيين واقتصادهم والصعوبات التي يواجهونها، بالإضافة إلى العلاقة بين ضفتَي الأطلسي بشكل عام.

وكان الإعلام قد ركّز على الجانب الإيجابي من زيارة ماكرون، أي البيانات بشأن الحرب الجارية في أوكرانيا، والإعلان الفرنسي-الأميركي المشترك مواصلة دعم أوكرانيا، والتعهد بالاستمرار بتقديم مزيد من المساعدات الإنسانية والسياسية والأمنية والاقتصادية، ومحاسبة روسيا بسبب “الفظائع وجرائم الحرب الموثقة على نطاق واسع” في أوكرانيا، لكن الواقع الفعلي والأهداف التي رمى إليها ماكرون كانت في مجالات أخرى.

وبالرغم من كل البيانات والأحاديث التي شدّدت على وحدة ضفتَي الأطلسي، فإن القلق الحقيقي الذي يعتري الضفة الأوروبية للأطلسي يتجلى فيما يعدّه الأوروبيون “أنانية أميركية” في تطبيق “سياسات عدوانية” سوف تؤدي إلى هجرة صناعية واستثمارية من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأميركية؛ بسبب تكلفة الطاقة المرتفعة في الاتحاد الأوروبي، وبتأثير قانون خفض التضخم الذي أقرّه الكونغرس الأميركي والذي يعدّه الأوروبيون نوعاً من الحمائية المضرّة بصناعاتهم والمحفزة للشركات على الهجرة من أوروبا إلى أميركا.

ويبدو أن نتائج زيارة ماكرون لم تكن على قدر الآمال المعقودة عليها أوروبياً، وهو أمر كان متوقعاً بالنظر إلى السياسة المستمرة التي ينتهجها الساسة الأوروبيون والمضرّة أحياناً بمصالحهم الحيوية في وقت يتصرف الأميركيون بوحي مصالحهم القومية فقط ولو كانت على حساب حلفائهم، ونذكر منها على سبيل المثال القضايا التالية:

1-بريكست:

بعد التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وخلال المفاوضات بين كلٍ من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي حول اتفاقية التجارة الحرّة، شجّع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى بدون اتفاق، معلناً رغبته في إقامة علاقات تجارية وثيقة مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد، ومشيراً إلى اتفاق “رائع” يجري تحضيره كبديل يزيد النشاط التجاري بين الطرفين. وكان من المتوقع أن يصل الطرفان إلى اتفاق لتشكيل اتحاد جمركي، بالرغم من الضرر الاقتصادي على الأوروبيين.

2-تحالف أوكوس

في أيلول/سبتمبر من عام 2021، أعلنت الولايات المتحدة عن تحالف عسكري جديد (أوكوس) لاحتواء الصين، يضمّ كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وبنتيجة هذا التحالف، انسحبت أستراليا من عقد تجاري حربي لشراء الغواصات من فرنسا، وقامت بشراء غواصات من الولايات المتحدة الأميركية بدلاً منه، ما فوّت على الفرنسيين صفقة تاريخية بمئات مليارات من الدولارات.

3-الحرب الأوكرانية وأزمة الطاقة

كان من الواضح منذ ما قبل إعلان العملية العسكرية الخاصة أن الاتحاد الأوروبي سيكون المتضرر الأكبر من الحرب الأوكرانية، وحزمات العقوبات التي أطلقها مباشرة بعد إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اعترافه باستقلال جمهوريات الدونباس، وتوقف أنابيب “نورد ستريم 2”.

وبالفعل، فرض الأوروبيون العديد من الإجراءات العقابية على موسكو ارتدت سلباً على سوق الغاز والطاقة الأوروبيين، فارتفعت أسعار الكهرباء وزادت معدلات التضخم، واضطرت دول الاتحاد إلى شراء الغاز من الولايات المتحدة الأميركية بما يعادل أربعة أضعاف سعر الغاز الروسي (الرخيص) الذي ساهم في النهضة الاقتصادية الأوروبية في وقت سابق.

4-قانون التضخم الأميركي

عدّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، القرارات الأميركية، وخاصة قانون التضخم الأميركي، “شديدة العدوانية” تجاه الشركات الأوروبية.

وكان البرنامج الذي أقرّه الكونغرس الأميركي كجزء من خطة بايدن “إعادة البناء بشكل أفضل” يهدف إلى تنشيط وجذب الاستثمارات في الصناعات في الداخل الأميركي، عبر تقديم معونات حكومية وتخفيضات ضريبية للشركات التي تعمل في الطاقة النظيفة وقطاع السيارات الكهربائية، وصناعات الطاقة البديلة، وأشباه الموصلات وغيرها، وذلك بهدف خلق الوظائف وتنشيط الصناعة والتجارة وإحراز تقدم في المنافسة مع الصين.

وكان ماكرون توقع أن تكون تداعيات برنامج المعونات الحكومية للشركات في الولايات المتّحدة كارثية على الاستثمارات في أوروبا ما يهدد “بتفتيت الغرب”، مؤكداً أنّ هذا البرنامج “يخلق فروقات بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا لدرجة أنّ أولئك الذين يعملون في العديد من الشركات سيقولون لأنفسهم سنتوقف عن القيام باستثمارات على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.” وفي كلمة ألقاها أمام الجالية الفرنسية في سفارة بلاده بواشنطن، حذّر ماكرون أيضاً من خطر أن تذهب أوروبا عموماً، وفرنسا تحديداً، ضحية التنافس التجاري الراهن بين واشنطن وبكين؛ أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.

واقعياً، غادر ماكرون الولايات المتحدة خالي الوفاض، بعدما وعده بايدن بمحاولة إدراج أوروبا في المعونات الاقتصادية التحفيزية، لكن بدون خطة تطبيقية واضحة حول كيف سيقوم الأميركيون بذلك…

وعليه، تجد أوروبا نفسها اليوم أمام معضلات كبرى، وخيارات أحلاها مرٌ؛ فلا هي قادرة على الاستقلال عن الولايات المتحدة كما كان يطمح ماكرون سابقاً خلال ولاية ترامب، ولا هي قادرة على العودة عن نظام العقوبات الذي فرضته على روسيا وأضرّ بالاقتصاد الأوروبي بشكل فادح، ولا هي قادرة على إنهاء الحرب الأوكرانية ودفع أوكرانيا إلى مفاوضات سلام مع موسكو، ولا هي قادرة على جعل الولايات المتحدة تأخذ بعين الاعتبار مصالح الأوروبيين خلال سعيها لتحقيق مصالحها الخاصة.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع