إنْ تنْصُروهُم
لم تعد الأولوية في كثير من الحروب تعتمد على عدد الطائرات والدّبابات والقوّات المقاتلة؛ فالحروب النفسية والإعلامية والفكرية والتربوية أصبحت حروباً ضروس تخوضها أطراف كثيرة ببراعة، وتوفر لها الأسلحة والإمكانات.
بثينة شعبان*
لعلّ أهمّ أخبار وردتنا من المونديال هي الطريقة التي عامل بها العرب الشرفاء الصهاينة الذين نكّلوا بالشباب الفلسطينيين وسفكوا دمهم عند كلّ مفرق وقرية وحارة والذين جلبوا معهم إلى منطقتنا وشعوبنا الحروب والإرهاب والمجازر والمعتقلات والعنصرية والفتن التي لا تنتهي منذ سبعين عجاف من السنين.
حين عرف سائق التاكسي أنّ الذين يقلهم في سيارته إسرائيليون أنزلهم من السيارة وقال لهم: “لا آخذ أموالاً من أيدٍ تقتل أهلنا وأبناءنا في فلسطين”.
وحين سأل صاحب المطعم عن جنسية الذين يعتزمون دخول مطعمه، وعلم أنهم إسرائيليون لم يسمح لهم بالدخول لأنهم قتلة الأطفال العرب.
وحين علمت الشابة أنّ الذي يطلب مقابلة هو من قتلة أهلها في فلسطين رفضت التحدث إليه، وأمثلة أخرى مؤكّدة لم تصل إلينا، ولم تنقل إلى المشاهدين والقرّاء العرب.
هذه النماذج من التصرّفات، التي تنم عن استمرار النبض في الدم العربيّ الأصيل، تنضوي أولاً في تكذيب الدعاية الإسرائيلية التي تعمل جاهدة لإيهام العالم بأنّ العرب جميعاً سائرون في التطبيع مع الكيان الغاصب، وأنّ القضية الفلسطينية إلى زوال، وأنّ الشباب المقاتلين والأسرى الذين يضحّون بأنفسهم كي تبقى شعلة القضية مضيئة، إنما هم حالمون ولن تؤثّر تضحياتهم شيئاً في مستقبل القضية.
ومن المهمّ جداً التوقّف عند هذه النماذج من التصرّفات، لأنّ الإعلام الصهيونيّ، الذي يشكّل مصدراً لا يستهان به للأخبار، قد مرد على النفاق وعلى تصوير الأمور كما يحلو له، وقد اعتاد شنّ حروب نفسية كاذبة ووهمية كي يلحق الهزيمة بأصحاب القضايا قبل أن يحرّك ساكناً أو يخوض معركة حقيقية من أيّ نوع كانت، وقلما ينتبه أصحاب القضايا إلى حجم وأثر هذه الحملات الإعلامية والنفسية المضلّلة لأنها تجد من يتلقّفها ويروّجها من ضعاف النفوس.
ومن الذين ما زالت عقولهم مستعمرة بقوّة الغرب وبكونه لا يُقهر مهما اشتدّت التضحيات، مع أنّ أمثلة تحرير فيتنام والجزائر وجنوب أفريقيا وبلدان أخرى كثيرة وتشهد على أنّ الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه، وأنّ الشعوب التي تعمل لتحرير أرضها وتواظب على التضحية والفداء تصل إلى أهدافها مهما عتت قوّة المستعمرين، ومهما طغى جبروتهم إلى حين.
المشكلة التي نعانيها في الوطن العربي مشكلة مركبة؛ فمن ناحية لم يجرِ استمرار العمل لتحقيق وضمان الاستقلال الفكري والعقائدي والمجتمعي بعد نيل الاستقلال السياسي من خارج الكفاح العسكري.
إذ رأت الدول العربية بمعظمها أنّ المهمّة انتهت بإعلان يوم الاستقلال ورفع العلم، فيما يجب أن تكون قد بدأت مهمة أخرى أصعب وأكثر تعقيداً، ألا وهي البحث في كلّ التجارب التي خاضها المقاتلون والمناضلون في العالم، واستنتاج الدروس المستفادة، وتصميم المناهج والرؤى السياسية والمجتمعية، بما يتلاءم وهذه التجارب العظيمة التي آتت أكلها بعد سنوات من التضحية والعمل المؤمن بالأرض والأوطان.
ولنأخذ مثالاً من عالم اليوم، الشعب الفلسطينيّ البطل والشعب السوريّ المقدام في الجولان يخوضان أنبل المعارك في وجه عدوّ صهيونيّ يستخدم أحدث الأساليب والأسلحة لتحقيق أطماعه في أرضنا وسرقة هويتنا، ولكنّ العمل التأريخيّ، الذي يستخدم كلّ هذه التجارب ليعطي الأجيال دروساً في فنون المقاومة وجدواها، ما زال متواضعاً مقارنةً بالتضحيات الكبيرة التي يقدمها المتجذرون بأرضهم وهويّتهم، والمؤمنون بالانتصار النهائي المؤكّد.
ومثال آخر على هذه الحال، أي حال الترهّل وعدم الارتقاء إلى مستوى المواجهة المطلوبة، ما يردّده الإعلام العربيّ في أغلبيته عن الخطوات التطبيعيّة التي يسير بها بعض حكام الأنظمة مع العدوّ الصهيونيّ، من دون إيلاء التجارب التطبيعيّة السابقة أي اهتمام، ومن غير إلقاء الضوء على أثرها في البلدان والشعوب التي فُرِضَ عليها هذا الخيار.
وفي الناحية الأخرى قلما نرى أو نقرأ أيّ دراسات عن رأي الأغلبية، حتى في الدول التي اختارت التطبيع مع العدو المتغطرس الذي عرف بالغدر ونقض العهود، ولا يجري أيضاً إلقاء ضوء على الغالبية المعارضة لهذا التوجّه، ولا على المواقف والتعبير عن هذه المواقف، فتبقى أمثلة فردية ومعزولة بدلاً من أن تسلّط الأضواء عليها لتشكل جزءاً أساسياً من الواقع الراهن، ولا تترك الساحة مشغولة فقط بما يصمّمه العدوّ ويروّجه هو وأعوانه من ضعاف النفوس.
منذ عقود وأنا أكتب عن ضرورة تحرير الخبر الصادر عن العدوّ الصهيونيّ، أو عن وكالات أنباء مؤيّدة تماماً له، وقد أجريت أبحاثاً أثبتُ بها كيف تمكّن العدوّ من النيل من الحقّ العربيّ من دون أن يخوض معركة سوى المعركة اللغوية والتحريرية، ونتيجة انسياق معظم الإعلام العربيّ وراء مصطلحاته، فقد ثبّت هذه المصطلحات في أذهان النّاشئة وكأنّها حقيقة على الأرض، ولهذا يعمل العدوّ أولاً، وقبل كلّ شيء، لتغيير المناهج المدرسيّة في الدول المُطبّعة، وفي المدارس العربية الواقعة تحت احتلاله لأنه يعمل لصوغ الفكر والعقل والموقف قبل صوغ الحقائق على الأرض، وهذا ما يحدث فعلاً في كثير من الأحيان، والأمثلة أكثر من أن تُحصى.
هل يُعقل مثلاً أن يصدر عن مكتب إعلام الأسرى في فلسطين أنّ “محكمة الاحتلال توافق على طلب تجديد عزل الأسير أحمد مناصرة لمدة 4 أشهر أخرى في معتقل عسقلان”؟! بدلاً من القول: يرتكب الاحتلال العنصريّ جريمة أخرى بحقّ الأسير أحمد مناصرة، وذلك بتجديد عزله 4 أشهر أخرى في معتقل عسقلان.
لم تعد الأولوية في كثير من الحروب تعتمد على عدد الطائرات والدّبابات والقوّات المقاتلة؛ فالحروب النفسية والإعلامية والفكرية والتربوية أصبحت حروباً ضروس تخوضها أطراف كثيرة ببراعة، وتوفر لها الأسلحة والإمكانات، وأمتنا العربية بأدبها وتاريخها وتراثها قادرة على مناصرة حقيقية وفعّالة لا تكلّفهم سوى اتخاذ موقف واضح وجريء ومعلن من قضاياهم العادلة.
انصروا شعبنا وقضايانا وأسرانا ومجاهدينا بالكلمة والموقف، واعلموا أن كلّ إشارة تصدر منكم لنصرتهم يحسب لها العدو ألف حساب، إن تنصروا بما تستطيعون ينصركم الله وإياهم.
* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع