السامبا تتراقص يسارا ويمينا
يعتبر الرئيس المنتخب أن معركته من أجل الديمقراطية واجهت الماكينة التعبوية للدولة التي وقفت مع بولسونارو
السياسية: خالد اليماني *
الانتخابات الرئاسية البرازيلية التي انتهت في الأسبوع الماضي، وأفضت إلى سقوط الضابط السابق، اليميني الشعبوي المتطرف جايير بولسونارو، وعودة القيادي العمالي اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إلى رئاسة البرازيل بعد 11 عاماً من مغادرته الرئاسة في يناير (كانون الثاني) 2011، أعادت إلى الأذهان تلك الطبيعة “الواقعية السحرية” التي تكون فرادة المشهد الأميركي اللاتيني، وفي القلب منه تقع البرازيل القارة داخل القارة الأميركية الجنوبية.
ما بين رجل ينتظر أن يتلقى الأمر الإلهي بالرحيل وإلا لن يفعل، وآخر متهم باللصوصية يخرج من سجنه بعد عام ونصف العام بريئاً براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وبين اتهامات لنظام التصويت الإلكتروني والمستخدم في الانتخابات البرازيلية منذ عام 1996، لأنه يتقصد إلغاء أصوات أنصار “رجل الرب” الإنجيلي وهزيمته، ومن يتحالف مع خصم الأمس اللدود لتحقيق نصر طفيف للعودة إلى سدة الحكم لإنقاذ الديمقراطية البرازيلية من “أكبر كذاب في تاريخ البرازيل” يرفض الإقرار بهزيمته.
وبين كل هذا المشهد الساحر، ترقص الخلاسيات البرازيليات على أنغام السامبا، وهن يرقبن مرشحيهن بزي منتخبهن الكروي الرائع، الوحيد القادر على توحيد أمة السامبا المنقسمة ذات اليسار وذات اليمين.
المشهد السياسي البرازيلي يبدو وكأنه صفحات منزوعة من روايات “الواقعية السحرية” مثل “مئة عام من العزلة”، لغابرييل غارسيا ماركيز، حيث يستمر القتال مئات السنين بين الليبراليين والمحافظين، تحت مسميات مختلفة في سبيل القفز إلى السلطة. منع لولا من التقدم للانتخابات في عام 2018، بسبب حكم القضاء في يوليو (تموز) 2017 ودخوله السجن لعشر سنوات بتهم الفساد وغسل الأموال، ليعود القضاء ويكتشف بعد سنة ونصف السنة من بقائه خلف القضبان أنه بريء ويطلق سراحه. المصير نفسه الذي واجهته ديلما روسيف وزيرة شؤون الرئاسة في إدارة الرئيس لولا، ورفيقته في حزب العمال، والتي انتخبها الشعب البرازيلي خلفاً له في رئاسة البرازيل، وعاد لينتفض ضدها مطالباً بخروجها. ولكنها عزلت من منصبها من قبل مجلس النواب بتهم تتصل بخرقها القوانين المالية.
كذلك هو حال الرئيس اليميني بولسونارو، فقبل إسقاطه في الجولة الثانية من الانتخابات كان أعضاء مجلس النواب قد جمعوا أكثر من 130 طلباً لعزله. هكذا هي الحال في الثقافة السياسية البرازيلية واللاتينية عموماً، صراع مميت بين الليبراليين والمحافظين وبينهما أحزاب صغيرة تقتات من هذا وذاك، فيما العسكر يمارسون لعبتهم التاريخية.
الخروج من القبر
“حاولوا جاهدين دفني حياً، ومع هذا، ها أنا ذا هنا مجدداً لأحكم هذه البلاد في ظروف صعبة. حتماً سنجد مخرجاً. البرازيل قضيتي… في هذه الأمسية أقول لكم إن المنتصر الوحيد هو الشعب وحركته الديمقراطية التي انتصرت على حملات الترهيب”. وفي الواقع فإن انتصار لولا (50.9 في المئة من الأصوات)، وهزيمة بولسونارو (49.1 في المئة) هي تكرار للمشهد الاجتماعي المنقسم والاستقطاب السياسي الحاد في المجتمع البرازيلي. إلا أن فوز لولا يضعه في قائمة الاستثناء في تاريخ الجمهورية البرازيلية، فللمرة الأولى يتمكن رئيس من الفوز بفترة رئاسية ثالثة، كما أنها المرة الأولى في حالة بولسونارو، التي لم يتمكن فيها رئيس من الفوز بالفترة الرئاسية الثانية.
ففي ماذا أخطأ بولسونارو، وأين أصاب لولا؟ لا يتسع المجال لشرح الخلفية التي أدت إلى إقصاء اليسار من السلطة في عام 2016 بعد ثلاثة عشر عاماً من حكم لولا ورفيقته ديلما، فهناك الكثير من التحليل السياسي حول مؤامرة اليمين للتخلص من “الرعاع”، كما أطلق عليهم عضو مجلس الشيوخ اليميني جورجي بورنهاوزن، بتحالف قوي من القطاع الخاص، ومجموعات مختلفة من القوى المحافظة، والعسكريين، والعديد من الكنائس الإنجيلية، وشركات الإعلام الخاص المملوكة لخمس من أغنى الأسر البرازيلية.
ومع وصول النقيب السابق في الجيش جايير بولسونارو إلى الحكم، تزايدت مكاسب الفئات الأغنى، وتزايدت الفوارق الطبقية في مجتمع منقسم أصلاً. وتشير البيانات الاقتصادية للنصف الأول من العام الماضي إلى أن مكاسب الشركات الكبرى في سوق الأسهم البرازيلية نمت بعشرة أضعاف خلال عام واحد فقط. وعلى رغم شعارات بولسونارو الفضفاضة حول مكافحة الفساد، فإن الرجل شرع منذ يومه الأول في إقامة إمبراطوريته الخاصة وفتح جبهة المواجهة مع مجلس النواب والسلطة القضائية، مهدداً صروح الديمقراطية البرازيلية الرئيسة.
وجاءت الضربة القاصمة لحكم بولسونارو من خلال سياسته التي لم تقر بالحاجة إلى مكافحة تفشي وباء كورونا والتي أدت إلى وفاة أكثر من 600 ألف نسمة، وقراره الخاص بإنهاء برنامج المساعدات الطارئة في بلد يعيش فيه 125 مليون نسمة، الذي يطال أكثر من 58 في المئة من سكان البرازيل، باتوا يعانون انعداماً للأمن الغذائي، فيما 20 مليوناً منهم يواجهون المجاعة الحقيقية في عاشر أكبر اقتصاد في العالم.
اليوم اختارت البرازيل العودة إلى لولا ولو بفارق ضئيل، الأمر الذي يفسره لولا بأن معركته من أجل الديمقراطية واجهت الماكينة التعبوية للدولة التي وقفت مع بولسونارو. وفي الواقع ينظر البرازيليون إلى لولا كمخلص من خطر الخطاب الشعبوي الذي لا يشبع ولا يغني من جوع. ويقول غالبية المراقبين إن البرازيليين من اليمين واليسار يرون أن بولسونارو يشكل خطراً مستداماً على الديمقراطية البرازيلية حتى مع مغادرته المشهد السياسي، لأن البولسونارية به أو من دونه صارت ظاهرة قد تخرج عن السيطرة نظراً إلى انتشار الجريمة والفقر والعصابات المنظمة، مما قد يؤشر إلى دخول البرازيل في فوضى عارمة لا تريدها حتى الطبقات الغنية التي أوصلت بولسونارو إلى سدة الحكم.
وبعودة لولا تعود العناصر ذاتها والمستشارون والبرامج التي حكم من خلالها في العقد الأول للألفية. ففي رده على وسائل الإعلام حول برنامجه لإنقاذ البرازيل، يقول لولا “انظروا إلى ما حققناه معاً، وهو ما سنواصل السير فيه”. ولكن خبراء الاقتصاد يشككون في جدوى خطاب كهذا، بخاصة أن ظروف ما قبل 20 عاماً ليست هي ظروف اليوم.
لولا، حكاية الفقير الذي لم يتلق قدراً كافياً من التعليم، ووصل إلى حكم البرازيل وأحدث المعجزات، حكاية من حكايات “الواقعية السحرية” التي ما زال يؤمن بها الملايين من البرازيليين، إلا أن الطفرة التي حققها لولا في الفترة الماضية كانت تعتمد على عقد شهد ازدهار تصدير السلع والمواد الأولية، كما أن فكرة عودة “الرئيس المنقذ” تكررت كثيراً في أميركا اللاتينية، مثل عودة الرئيس خوان بيرون في الأرجنتين، وكارلوس أندريس بيريز في فنزويلا، وألفارو أوريبي في كولومبيا، إلا أن العودات كانت دائماً مخيبة لآمال شعوب أميركا اللاتينية، فالفرص التاريخية لا تتكرر، كما أن الصين التي كانت سخية في ما مضى في تجارتها مع أميركا اللاتينية والتي قفزت من 6.5 مليار في 2002 إلى 67.8 مليار في 2010، غيرت كلياً مقاربتها الاقتصادية عبر الالتفات إلى الداخل.
لقد حقق لولا أكبر إنجازاته في مجال مكافحة الفقر، فقد قلص نسبة الفقراء من 40 إلى 25 في المئة خلال سنوات إدارته، ولكن الفقر سرعان ما عاد إلى الصعود ليصل اليوم إلى 58 في المئة. الطبقة الرأسمالية واليمين البرازيلي أيضاً ينظرون إلى لولا كمنقذ، من منطلق أنه أفضل الخيارات لعودة الهدوء إلى البلد. وهناك روايات مختلفة حول توافقات أدت إلى خروج لولا من السجن وهزيمة بولسونارو، ووعود باستمرار شهر العسل مع الأوليغارشية التي تستحوذ على كل شيء في البرازيل. كما أن اليمين يتطلع إلى خلق بيئة مواتية لبروز مرشح يميني معتبر يحظى بصدقية واحترام في المنظومة الديمقراطية البرازيلية. وفي ظل غياب البديل يبقى الأمل معقوداً على لولا.
رقص على أنغام الانتصار
حينما زرت برازيليا في بداية يناير 2015، ممثلاً للحكومة اليمنية، للتهنئة بفوز الرئيسة ديلما روسيف لفترة رئاسية ثانية، شهدت مظاهر فرائحية، وكرنفالات ريو دي جانيرو مصغرة في كل مكان من العاصمة، وفيما كانت الرئيسة ترقص بصحبة طاقمها الرئاسي، كانت البرازيل منتشية بإنجازات تنظيمها الناجح لكأس العالم في الأشهر الماضية، واستعداداتها لتنظيم الألعاب الأولمبية 2016. استمعت إلى المسؤولين البرازيليين وهم يتحدثون عن برازيل المستقبل حيث لا فقر، وتنمية مستدامة، وتطور تكنولوجي غير مسبوق.
وحينما جلست إلى زملاء المهنة، رؤساء البعثات العربية المعتمدين في برازيليا، في منزل السفير العماني، علمت الكثير عن بيوتات المال والأعمال من ذوي الأصول العربية، وعن فساد النخب السياسية، وتبخر إنجازات عقد الطفرة التي قادها لولا، وتفشي الجريمة المنظمة. وأدركت أن محاولات ديلما روسيف لاعتماد آليات التدخل الحكومي القوية ذاتها التي اتبعها لولا لكبح الانهيار الاقتصادي أتت بنتائج عكسية، لأنه كما يقول المثل “كل وقت وله أذان”. ونتيجة لفشلها خرج الشعب بعد أشهر من تلك الزيارة للمطالبة برحيلها. وبعد عام من ذلك اللقاء الودي مع الرئيسة روسيف قرر مجلس النواب البدء بإجراءات عزلها، لتترك الرئاسة بيد نائبها، اللبناني الأصل، ميشال تامر، الذي اتهمته بقيادة مؤامرة عزلها، والذي كثرت الروايات عن مشاركته في عمليات فساد وتلقي رشى مليونية.
هذه هي البرازيل، البلد الذي يسير ببركة الرب “البرازيلي” كما يعتقد سكانها، بلد لولا وملايين الفقراء الذين يتطلعون إلى الأعلى وسبيلهم إلى ذلك الشهرة عبر ملاعب كرة القدم، وراقصات الكرنفال، ونجوم السوشيال ميديا، والتنافس على مقاعد مجلس النواب، والحياة السياسية. البرازيل حيث يستحوذ 10 في المئة من السكان على الجزء الأعظم من الثروة الوطنية البرازيلية. فهل يفعلها لولا، أم سيعود قريباً إلى السجن؟
المصدر : اندبندنت عربية
المادة الصحفية تعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع