السياسية: عبد الله علي إبراهيم*

 

ستتوقف الأوساط الثورية في السودان أمام عشرية أكتوبر (تشرين الأول) الأخيرة عند مناسبتين اتصلتا بالتغيير السياسي.

الأولى مرور الذكرى الـ58 لثورة 21 أكتوبر 1964 التي أزاحت أول النظم العسكرية بعد الاستقلال وهو نظام الفريق إبراهيم عبود الذي تولى الحكم بعد انقلاب وقع في نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، هذه الثورة هي أم الثورات للديمقراطية، حيث تنسب ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 وثورة أبريل (نيسان) 1985 نفسيهما إليها.

أما المناسبة الثانية، فهي انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي أزاح الحكومة الانتقالية التي نشأت بعد ثورة 2018 بشراكة بين قوى الحرية والتغيير والعسكريين في أغسطس (آب) 2019.

وهو انقلاب يسميه أربابه “حركة تصحيحية” تلافت عجز الحكومة الانتقالية وحدت من تطرفها بنقض غزلها مسحاً بـ”الأستيكة” في وصف أحدهم.

التوقف عند ذكرى ثورة أكتوبر 1964 وانقلاب 25 مايو (أيار) بمثابة عظة حسنة للمتوقفين عن التغيير السياسي صوب الديمقراطية والكوابح من دونه، لكن ثمة أخباراً سيئة لطلاب التغيير والديمقراطية رشحت من قريب عن إمكانية حصول كليهما.

جاء الخبر السيئ عن عسر حدوث التغيير من الديكتاتورية إلى الديمقراطية في مقالة للصحافي ماكس فيشر بصحيفة “نيويورك تايمز” خلال تعليقه على إمكانية نجاح الحراك الثوري الراهن في إيران.

فلم يتفاءل بنجاحه بحسب أبحاث لمركز في جامعة “هارفارد” يرصد الحركات الثورية، وقال بناء عليه إن مثل حراك إيران آيل للفشل الآن، كما لم يكن لحراك مثله منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

وعدد فيشر حركات شعبية قريبة العهد في بلاد كأميركا والصين وقال بفشلها وإن استثنى ثورة سريلانكا لنجاحها في إسقاط نظام لرئيس قوي وأغفل عن ثورة ديسمبر السودانية التي اقتلعت نظاماً مثله.

فمن رأي فيشر على ضوء أبحاث مركز “هارفارد” أنه حتى نهاية القرن الـ20 كان حراك الشعب قوة عظمى في نشر الديمقراطية واختلف الأمر ببداية القرن الـ20، بحيث لم ينجح سوى حراكين من ثلاثة أرادت تغييراً جذرياً في الحكم.

وزاد أمر التغيير للديمقراطية حرجاً منذ 2010، فمع تزايد حركات الاحتجاج ضد الاستبداد فإنه لم ينجح سوى نصفها من بلوغ غايته. وتحرج أمر هذه الحركات أكثر ببداية العقد الثاني من القرن. فنقص نصف آخر من الحركات من دون النجاح. وقال إن عامي 2020 و2021 هما الأسوأ في سجل قدرة الحركات الشعبية على  تغيير ما بها.

غير خاف أن ثورة ديسمبر 2018 بنجاحها في إسقاط نظام ديكتاتوري من الناجيات من سيناريوهات “هارفارد”، إلا إذا كان معيار النجاح ليس في هذا الإسقاط فحسب، بل في بناء نظام انتقالي ثم ديمقراطي مستدام.

واضح من توقف دعاة التغيير الثوري عند انقلاب 25 أكتوبر ومواصلة الاحتجاج ضده أنهم قصروا عن الغاية. وعليه صح القول إنه لربما انطبق خبر فيشر القاتم عن مآل التغيير الشعبي على ثورة ديسمبر بعد نجاحها لا قبلها.

ومع ذلك فبعض الأسباب التي ذكرها فيشر في معرض بيان فشل الحركات الشعبية مما سننتفع به في تحليل قصور ثورة ديسمبر عن بلوغ الغاية منها حتى بعد نجاحها في إزاحة دولة قابضة.

نجد فيشر وغيره يرد فشل الثورات عن زحزحة النظم القابضة إلى ما سماه “الاستبداد المرقمن” وهذا عجيب. فكانت الوسائط الاجتماعية المرقمنة ربما هي التفسير الراجح لاستثارة الثورات ونجاح بعضها في الربيع العربي مثلاً، فكيف انقلبت هذه الوسائط لتكون آفة الثورات وسبب هلاكها؟

فمن ضمن أسباب عددها لفشل الثورات جراء الاستبداد المرقمن جاء فيشر بمكر النظام القديم في ضخ إعلام يشكك في قوام الاحتجاج وغزارته. فيظل يوحي للجمهور بخلو المحتجين من الدعم الجماهيري الحاسم الذي يؤهلهم للحكم.

ولم يكن بوسع نظام الإنقاذ في السودان الإيحاء بضآلة حجم جمهور الثورة وهي في حالة الهجوم عليه لأن الأرقام كانت تحدث عن نفسها، لكن ما جاءت قوى الحرية والتغيير لكرسي الحكم ومتاعبها فيه حتى كانت أكثر حجج النظام القديم ذيوعاً عنها أنها أحزاب قلة لا سبب لها لتزعم تمثيل الشعب جميعاً.

فقالوا عنها في معرض الازدراء بقلة نفرها إن الحزب منها لا يملأ حافلة ركاب في خط المواصلات وسموهم “أربعة طويلة” في إشارة إلى أنهم عصابة من أربعة أحزاب صغيرة و”طويلة” من اسم عصابة للنهب هي “تسعة طويلة” طفت على السطح بعد الثورة وروعت الناس، فنجح النظام القديم بالوسائط في الخصم من غزارة الحراك الثوري بل وبذر الخلاف بين أطرافه بعد نجاحه في إطاحته لا قبلها.

ويربط فيشر بين الوسائط الاجتماعية وفشل الهبات الشعبية من دون إطاحة الحاكم القوي، فقال إن هذه الوسائط مكنت الناشطين من بناء هياكل تنظيماتهم والتواصل مع الشعب لإطلاق عنان الاحتجاج، لكن نجاح الثورة في التغيير برأيه رهين بوجود بنية تحتية تقليدية كالحزب السياسي أو الجبهة لها قدرة البقاء في وجه عسف النظام القديم سقط أو لم يسقط ولينمي الضبط والربط بين أطراف الحراك ولتنعقد به سلسلة القيادة فيكون لها زمام إدارة استراتيجية التغيير. فيمكن لبوست واحد في الوسائط الاجتماعية أن يذيع بين الناس ويحشد الآلاف بليل، لكن حركة التغيير بالوسائط، الموصوفة بخلوها من قيادة معلومة، ذات عمر افتراضي يتربص بها النظام القديم فيشققها ويجعلها كعصف مأكول.

فالاحتجاج في الشارع واحد من أدوات حملات تغيير ما بالناس، لكن للتغيير رافعات أخرى لا نجاح للتغيير إلا بها في المفاوضات وعقد التحالفات مع أطراف شعبية غير التي في الميدان واستنفار التضامن الإقليمي والعالمي للحراك.

ومما أقعد بثورة ديسمبر من دون بناء البنية التحتية التقليدية التي وصفناها الإسفين المدقوق، في قول فيشر، بين الصفوة والجمهور، فاعتزل كثير من الناس الليبرالية لأنها مجرد حلبة لنخب متصارعة حول عقائدها ومشاريعها وآية ذلك سوء ظنهم المقيم في الصفوة.

وتمثل هذا الخصام في ثورة ديسمبر في الجفوة التي قامت بين لجان المقاومة التي سادت في الشارع إلى يومنا هذا وبين الأحزاب السياسية التي مثلتها في مفاوضات قيام الحكومة الانتقالية مع العسكريين.

وكانت سارت بين شباب السودانيين عبارة موروثة من الدكتور منصور خالد المفكر والسياسي وهي “فشل الصفوة وإدمان الفشل”، فاعتزلت لجان المقاومة الصفوة الحزبية فصارت طاقة احتجاج عظيم بلا نافذة لتشكيل السياسات في الدولة التي أوجدوها من عدم واستدبرت أحزاب الصفوة لجان المقاومة فصارت جنرالات بلا جيش.

ولاحت، من الجهة الأخرى، نذر شؤم عن مآل الديمقراطية في عالم اليوم. وستلبد هذه النذر الواقفين عند ذكرى ثورة أكتوبر 1964 وانقلاب 25 أكتوبر. فكانت أكتوبر عن استرداد الديمقراطية من نظام ديكتاتوري وكان انقلاب 25 أكتوبر ردة عن طريق التحول الديمقراطي.

ومن هذه النذر إحصاءات تتحدث عن انكماش رقعة البلاد الديمقراطية في العالم (13 في المئة من سكان العالم)، بينما غطت الأوتوقراطيات (الانتخابية والمغلقة) الباقين.

ولعل أفجع هذه النذر قاطبة لمصير الانتقال الديمقراطي في السودان هو لجلجة أميركا حول ما تريده للديمقراطية في العالم. فما نشره رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية منذ 2003 ريتشارد هاس في “فورين أفيرز” أخيراً “مو بشارة” كما نقول في السودان.

فخلافاً لما تذيع أميركا عن جعلها الديمقراطية أسبقية في سياستها الخارجية فإن هاس، والعالم على الصراعات التي تكتنفه، طلب حتى ألا تعرض أميركا للصراع في أوكرانيا كصراع بين الاستبداد والديمقراطية، فهاس لا يريد للناس أن ترى أميركا خارجة لتغيير العالم أو تجاهله.

وقال إن الاستراتيجية الأوفق هي أن تمتن أميركا الديمقراطية في بلدها ولا تحفل بأشياء أخرى، وهي نظرية غلبت ضبط النظام العالمي على نشر الديمقراطية.

مما قد يدعو إلى يأس الثوريين احتفالهم بثورة وقعت منذ نحو 60 عاماً مقروناً بوقفة عند انقلاب على ثورة مثلها للديمقراطية حدثت منذ ثلاث سنوات. ومما قد يضاعف من هذا اليأس أن ما جئنا به عن التغيير السياسي والديمقراطية في العالم المنفلت لا يدعو إلى التفاؤل لطالبهما، لكن هذا الطالب ربما وجد العزاء في استماتته عند مطلوبه، لم يفت تطاول الزمن وتوالي النكسات من عضد عزائمه.

 

المصدر: اندبندنت عربية
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع