السياسية: نجم الهاشم*

ينتظر لبنان انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال عون، ومع هذا الاستحقاق تفتح “اندبندنت عربية” ملف رؤساء الجمهورية في لبنان على مرحلتين قبل الطائف وبعده، وهذه الحلقة من حلقات رؤساء ما قبل “الطائف” مع عهد الرئيس سليمان فرنجية.

في الـ 17 من أغسطس (آب) 1970 التأم مجلس النواب اللبناني في مقره وسط بيروت لانتخاب رئيس للجمهورية. حضر النواب جميعهم، 99 نائباً، ولم يتغيب أحد ولم يتم تعطيل النصاب.

جلسة واحدة كانت تكفي لانتخاب رئيس قبل انتهاء ولاية الرئيس المنتخب، وكان سليمان فرنجية وزير الاقتصاد في آخر حكومة على عهد الرئيس شارل حلو مرشح الحلف الثلاثي والمعارضة، وكان إلياس سركيس مرشح النهج الشهابي المؤيد للرئيس الأسبق فؤاد شهاب.

في الدورة الأولى حصل سركيس على 45 صوتاً وفرنجية على 38 والشيخ بيار الجميل على 10 أصوات، وصوت واحد ذهب إلى عدنان الحكيم.

في الدورة الثانية كانت هناك 100 ورقة اقتراع، وهناك من تعمد وضع ورقتين معاً، فألغيت الدورة ولم يتم فرز الأصوات، وخلال الدورة الثالثة نال سليمان فرنجية 50 صوتاً وسركيس 49 وصار فرنجية الرئيس الخامس للجمهورية اللبنانية.

رئيساً في جريدة “النهار”

تم حسم الاتفاق على ترشيح فرنجية في مكتب رئيس تحرير جريدة “النهار” النائب السابق غسان تويني الذي كان قريباً من كميل شمعون وإلى جانبه في الحلف الذي أسقط الرئيس بشارة الخوري، وكان كميل شمعون وريمون إده وبيار الجميل يريدون أن يترشحوا، لكن لم تكن مع أي منهم الأكثرية، وكان فرنجية في كتلة وسطية مع كامل الأسعد وصائب سلام، ونتيجة اتصالات مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط أجراها تويني، قال جنبلاط إنه يقسم أصوات كتلته بين فرنجية وسركيس، فتم الاتفاق على ترشيح فرنجية وتنازل له شمعون والجميل وإده.

أما حسم ترشيح إلياس سركيس فتم في منزل الرئيس فؤاد شهاب في جونيه. مؤيدو الرئيس السابق حاولوا ترشيحه لأنه يمكن أن يربح، لكنه رفض وأشار بترشيح “ابن سركيس” كما كان يسميه، وذهب موفدون من قبله إلى مصر والتقوا الرئيس جمال عبدالناصر فقال لهم إنه لا يعرف سركيس ولا يدعم إلا فؤاد شهاب.

قبل عامين نجحت الشعبة الثانية في إفشال محاولة الاستخبارات السوفياتية خطف طائرة ميراج عسكرية واعتقلت الدبلوماسيين الروس الضالعين فيها، ونتيجة ذلك لم يعط الاتحاد السوفياتي توجيهات بانتخاب مرشح الشعبة الثانية إلياس سركيس ففاز سليمان فرنجية نتيجة هذه المعادلات التي أثرت في تصويت عدد من النواب.

بين عبدالناصر والأسد

في الـ 17 سبتمبر (أيلول) وقبل أسبوع من تسلم فرنجية الرئاسة رسمياً في الـ 23 من سبتمبر، اندلعت اشتباكات في الأردن بين الجيش الأردني والمسلحين الفلسطينيين الذين تحركوا ضد حكم الملك حسين. ولتطويق هذه الحوادث دعا الرئيس جمال عبدالناصر إلى قمة عربية في القاهرة في الـ 23 من سبتمبر، وقبل يوم واحد وفي آخر يوم من ولايته، ذهب الرئيس شارل حلو إلى القاهرة ليشارك في الجلسة التحضيرية وعاد في اليوم التالي إلى لبنان ليسلم الرئاسة إلى خلفه وليتوجه فرنجية في أول يوم من حكمه إلى القاهرة ويحضر القمة، وبعد عودته توفي الرئيس المصري جمال عبدالناصر في الـ 28 سبتمبر.

على مدى أكثر من 15 عاماً شكل عبدالناصر نقطة قوة للتأثير في الوضع اللبناني، فغيابه سيترك فراغاً على هذا الصعيد، وفي الجانب الآخر من المشهد العربي كان نجم حافظ الأسد يصعد في سماء سوريا بعد الانقلاب الذي قاده ضد خصومه في الحكم بحزب البعث قبل أن ينتخب رسمياً رئيساً للجمهورية السورية عام 1971 بعد أشهر على انتخاب فرنجية، لكنه منذ عام 1969 أصبح الرجل الأقوى في النظام.

التسوية التي حصلت في قمة القاهرة وأنهت أحداث الأردن فتحت طريق الفلسطينيين إلى لبنان عبر سوريا، فتدفقت أعداد كبيرة منهم مع كميات كبيرة من الأسلحة، وبدلاً من أن تكون قواعدهم الأساس في الأردن صارت في لبنان مستفيدين من اتفاق القاهرة الذي أعطاهم حق الحركة ومن دعم قسم من اللبنانيين.

بدأ سليمان فرنجية عهده بقوة، ففوزه في الانتخابات كان انتصاراً وانقلاباً في الموازين الداخلية، ودعا اللبنانيين إلى أن يناموا وأبوابهم مفتوحة تعبيراً عن الأمن الذي سيتحقق وعن الاطمئنان الذي سيعيشون فيه، وأطلق شعاراً لا يزال ملتصقاً به وهو “وطني دائماً على حق”.

بداية نهاية عهد القوة

سدد فرنجية بدعم من رئيس الحكومة ضربة قاسية لضباط الشعبة الثانية، وتمت مداهمة مركز التنصت على المكالمات الهاتفية وأقيل الضباط الذين كانوا في مواقع رئيسة بتهمة تدخلهم في الانتخابات وتجاوز صلاحياتهم، وتم إبعاد عدد منهم إلى الخارج كملحقين عسكريين، بينما أحيل آخرون إلى المحاكمة، ونتيجة هذا الأمر حصل بعض الضعف في معنويات الضباط والمؤسسة العسكرية ومديرية الاستخبارات واستطاع عدد من الضباط اللجوء إلى سوريا بينما زادت في المقابل تحركات وعمليات المنظمات الفلسطينية انطلاقاً من لبنان وزاد التأثير الفلسطيني في الشأن اللبناني الداخلي بعد أن صار لبنان مقراً لمنظمة التحرير الفلسطينية ولرئيسها ياسر عرفات.

ونظمت أول انتخابات نيابية في عهد فرنجية عام 1972 وعكست تحولات مرحلة ما بعد انتهاء فترة الحكم الشهابي وأتت بأكثرية تدور حول العهد الجديد، ولم يكن وارداً في تفكير أحد أن هذا المجلس سيستمر حتى عام 1992 وينتخب خمسة رؤساء للجمهورية ويقر “اتفاق الطائف”.

ولكن عام 1973 لاح ما بدا وكأنه نهاية عهد القوة والازدهار.

في الـ 10 من أبريل (نيسان) من ذلك عام نفذ الموساد الصهيوني عملية أمنية في شارع فردان ببيروت تمكن خلالها من اغتيال ثلاثة مسؤولين فلسطينيين، كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار.
وطالب الفلسطينيون بتغيير قائد الجيش وسرعان ما اندلعت اشتباكات في الثاني من مايو (أيار) بينهم وبين الجيش اللبناني استمرت أياماً وانتشر فيها المسلحون الفلسطينيون في الشوارع.

ونتيجة التدخلات العربية والضغط السوري المباشر أوقف الجيش العمليات وأيقن رئيس الجمهورية أن حكمه بات مهدداً، وأن الجيش بات عملياً خارج المعادلة وبالاتفاق مع كميل شمعون وبيار الجميل ومدير الاستخبارات الجديد العقيد جول بستاني بدأ تدريب الأحزاب المسيحية على حمل السلاح للدفاع عن النفس.

بعد ستة أشهر على تلك الحوادث حصلت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بين مصر وسوريا وبين كيان إسرائيل، ونجحت المحاولة في كسر الخطوط الصهيونية في الأيام الأولى قبل أن تنفتح جبهتا الجولان في سوريا وسيناء في مصر أمام الجيش الصهيوني.

صحيح أن لبنان لم يشارك في تلك الحرب وأمن دعماً لوجستياً وطبياً للجيش السوري، لكنه لن يبقى بمنأى عن تأثيراتها نتيجة توقيع اتفاق الهدنة بين سوريا وكيان إسرائيل في مايو (أيار) 1974، واتفاق سيناء بين مصر وكيان العدو.

انفجار الأزمات: الحرب

في الـ13 من أبريل (نيسان) 1975 عندما حصلت حادثة البوسطة في عين الرمانة، كان الرئيس فرنجية في المستشفى يخضع لجراحة، بينما كان يخرج من المستشفى ويتلقى التهاني بالشفاء كان لبنان ينزلق سريعاً إلى حرب قاسية ومدمرة وطويلة، وكانت تلك الحادثة إيذاناً بحرب طويلة ستشتعل وبتفكك أوصال الدولة اللبنانية وتفكيك السلطة ونشوء خطوط التماس بين المتقاتلين.

بقي رئيس الجمهورية في قصر بعبدا عاجزاً عن وضع حد للأحداث التي كانت تجاوزت أية قدرة داخلية على لجمها نتيجة تغذيتها بعوامل خارجية، وانهارت أكثر من حكومة شكلها الرئيس وبدأ دخول الجيش السوري إلى لبنان تحت غطاء جيش التحرير الفلسطيني عندما كان نظام الرئيس حافظ الأسد يدعم الفصائل الفلسطينية وحلفاءها اللبنانيين، وتشكلت في المقابل الجبهة اللبنانية التي ضمت الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل وعدداً من الشخصيات المسيحية وانضم إليها رئيس الجمهورية.

وفي فبراير (شباط) 1976 التقى الرئيس فرنجية الرئيس السوري حافظ الأسد وتم الاتفاق على تعديلات دستورية لعلها توقف الحرب، لكن الحرب استمرت بسبب رفض هذه التعديلات، ولأن الفلسطينيين مع حلفائهم كانوا يعتقدون أن بإمكانهم تحقيق نصر عسكري.

الخروج من القصر

في بداية عام 1976 حصل انشقاق كبير في الجيش كان بدأ مع فرار أحد الضباط مع جنوده، لكن في الـ 11 من مارس (آذار) وبعد الحركة الانقلابية التي نفذها العميد الركن عبدالعزيز الأحدب صار الانقسام كاملاً، فسقطت الثكنات العسكرية تباعاً في المناطق الواقعة تحت السيطرة الفلسطينية، وتعرض القصر الجمهوري للقصف فاضطر الرئيس فرنجية إلى مغادرته إلى مقر موقت بمنطقة الكفور في كسروان، حيث تابع عقد اللقاءات مع الجبهة اللبنانية.

وللخروج من الأزمة وفي محاولة لوضع حد لها عمل بعضهم على توقيع عريضة نيابية تطالب رئيس الجمهورية بالاستقالة، لكن هذه المحاولة فشلت نتيجة عدم دستوريتها وعدم قبول الرئيس أن يستقيل طوعاً.

المحاولة الثانية جرت بالتنسيق مع النظام السوري وعدد من الدول المؤثرة وتمثلت في تعديل الدستور لانتخاب رئيس للجمهورية قبل ستة أشهر من انتهاء ولاية الرئيس فرنجية، وعند هذا الحد كانت حصلت عمليات تهجير ومعارك ضارية وتحول كبير في الموقف السوري من الصراع القائم في لبنان، وبدلاً من أن يكون النظام السوري مستمراً في دعم الفلسطينيين وحلفائهم في لبنان حصل خلاف كبير بين رئيس النظام السوري حافظ الأسد ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وحليفه رئيس الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط عندما رفض الأسد مماشاتهما في حسم الحرب عسكرياً، وإنهاء الحكم القائم في لبنان في إشكال يخفي صراعاً بين الطرفين على الجهة التي ستتحكم بالوضع اللبناني، إذ كان الأسد يرفض أن يكون عرفات هو المتحكم ويهدف إلى الإمساك بهذه الورقة، ونتيجة هذا الخلاف حصلت اشتباكات بين الجيش السوري والفلسطينيين في بيروت وصيدا وصوفر على طريق بيروت – دمشق.

وفي ظل هذه الأجواء تم الاتفاق على ترشيح إلياس سركيس لرئاسة الجمهورية فتم انتخابه في الثامن من مايو، لكن الرئيس فرنجية استمر في الحكم حتى اليوم الأخير من ولايته في الـ 23 من سبتمبر.

المصدر: اندبندنت عربية
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع