السياسية – متابعات:

بثينة شعبان

 

بعد أن أصبح واضحاً أن حقيقة الحرب في أوكرانيا هي في جوهرها حول مستقبل العالم والتوجهات القيمية التي سوف تحكم هذا المستقبل عزّز الرئيس فلاديمير بوتين خطواته ليس لتغيير الديناميكية على الأرض في أوكرانيا وحسب، وإنما لإرساء أسس جديدة لشكل العالم الجديد تترجم تصوراته وطموحاته لمستقبل لا يتمكن الغرب فيه من الهيمنة على قرارات الدول ذات السيادة ولا إخضاع عملات هذه الدول لحكم الدولار أو فرض عقوباته اللاشرعية واللاقانونية على مقدرات الشعوب وحرمانها الحياة الكريمة وحقوق الإنسان الأساسية.

 

فبعد الاجتماعات التي عقدت لدول البريكس ومنظمة شنغهاي والقرارات المهمة والاستثنائية التي اتخذت في كلتا الحالين، وبعد تطوير علاقاته بالصين وإيران على نحو غير مسبوق التقى الرئيس بوتين في الـ7 من الشهر الجاري في مدينة سانت بطرسبورغ بصورة غير رسمية عدداً من زعماء الدول الآسيوية تمهيداً لحضور “قمة مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (سيكا)”.

وكانت لغة بوتين في هذا اللقاء مختلفة نوعياً عن لغته سابقاً، ومؤشّراً حقيقياً إلى تصديه لمهمة عالمية تتجاوز حدود روسيا، وحتى آسيا في طموحاتها وأهدافها البعيدة؛ إذ رحّب بوتين بالزعماء الآسيويين كأصدقاء قريبين جداً، وحلفاء يشاطرهم شراكة استراتيجية، قائلاً “أننا جميعاً ملتزمون بالعمل بروح الجيرة والمنفعة المتبادلة والاحترام لمصالح كل منا”.

إن مجرّد عقد هذا اللقاء غير الرسمي قبل أيام من اللقاء الرسمي لهؤلاء القادة في كازاخستان يؤشر إلى آليات عمل تهدف إلى صوغ وحدة في الموقف واستثمار أنجع لهذا الموقف في المحفل الرسمي. وقال بوتين في الوقت الذي يعالج فيه الخبراء نصوصاً مهمة ستصدر عن الاجتماع فإن الهدف من هذا اللقاء واللقاء في أستانا هو “اكتشاف طرق لتوحيد جهودنا لجعل اقتصاداتنا أكثر مناعة من خلال توسيع التعاون الثنائي وضمان السيادة التكنولوجية وتعزيز السيادة لبلداننا وتطوير أسواقنا الداخلية وتعميق الاندماج الاقتصادي الإقليمي، ودعا الرئيس بوتين وبشدّة إلى ضرورة التعامل بالعملات المحلية وخلق منظمة دولية في إطار سيكا لدعم ونشر اللغة الروسية”.

هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها زعيماً يتحدث عن”السيادة التقنية” و”السيادة المالية” وإن يكن مضمون هاتين العبارتين مطروقاً إلى حدّ ما، ولكن أن تُستخدم صفة “السيادة” فهذا يدل على التطور الجديد في المفهوم والرؤى والتخطيط. وأن يجري عقد لقاء تشاوري غير رسمي قبل أسبوع من الاجتماع الرسمي فهذا أيضاً مؤشر واضح إلى الجِدّة في مقاربة التوصل إلى عقل جمعي يشكل ركيزة لاستقلال القرار في هذه الدول من جميع أوجهه، ويجعل من آسيا ركيزة لتشجيع ودعم الدول الأخرى لنفض غبار الهيمنة الغربية عن كاهلها والانضمام إلى عالم جديد، يعمل بوتين مع الصين ودول أخرى للتبشير به ووضع منهجياته وأسسه ورؤاه والعمل لتنفيذ هذه الرؤى على أرض الواقع سياسياً واقتصادياً ومالياً وثقافياً ومجتمعياً.

تأتي أهمية هذا التحرك من إدراك الرئيس بوتين أن قوة الغرب تكمن في تحالفاته التي شكلها وعزّزها على مدى عقود، والتي تمكّن من خلالها من الهيمنة على ثروات البشرية، وهنا يريد بوتين أن يستخدم هذه الآلية لأهداف مغايرة تماماً: لأهداف تضمن السيادة السياسية والمالية والتقنية والعلاقات بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة.

وفي الصين تعبّر اجتماعات ومؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني عن آلية عمل لعقل جمعي تشارك فيه النخبة من الأمة الصينية وتقرر شؤون البلاد وتخطط لمستقبل أفضل حيث يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره في 16 من الشهر الجاري ويعمل لتغيير دستور الحزب بما يتوافق ومتطلّبات العصر وتحقيق التنمية المتوازنة في جميع أنحاء الصين والاستمرار في مشروع “حزام واحد طريق واحد” على مستوى العالم. وهنا تكمن خلاصة سنوات من النقاشات والحوارات على مستوى الصين يشارك فيها قرابة مئة مليون من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني وتتوصل إلى أفضل المخرجات لمصلحة البلاد والعالم.

والعقل الجمعي لا يعني أبداً التطابق في الرؤى والمفاهيم ولكنه يعني الاشتراك والاتفاق على الأساسيات في التوجهات والعمل للتوصل إلى نقاط توافق حول المسائل الخلافية، بما يضمن مصلحة المسار العام والرأي الأوزن لما يمثل خدمة القضايا العامة والمصالح المستقبلية المشتركة للشعوب.

ويُري التاريخ أن الدول التي أمكنها العمل على مبدأ الرؤى المشتركة للأساسيات والانطلاق منها إلى تسوية الأمور الأقل أهمية هي الدول التي أمكنها وضع بصمتها على المسار التاريخي للأحداث. أما الدول التي تريد أن تنجز اتفاقيات كاملة حول كل صغيرة وكبيرة فهي التي بقيت تعمل على نحو منفرد، ولم تتمكن من إحداث أي أثر إقليمي أو دولي أو إحراز مكانة لها في التحولات العالمية.

وفي مثال أقرب إلينا، وعلى الرغم من فشل الدول العربية المؤسف في التوصل إلى عقل جمعي حقيقي مبني على أسس ومنهجيات، ما أضعف الجميع على الساحة الإقليمية والدولية، مع ذلك، وعلى الرغم من كون الحركة الأسيرة مكبلة بالأصفاد ومسجونة في الزنازين الظالمة والمظلمة فقد أمكن هذه الحركة، وعلى الرغم من كل إجراءات الاحتلال، تسجيل انتصارات تعد محطات تاريخية وعالمية في مقاومة الاحتلال، لأنها توصلت إلى عقل جمعي وإرادة جماعية ووضعت الرؤى والخطط، وبذلت التضحيات الغالية والنفيسة في سبيل تحقيق الأهداف، وتميزت بالإيثار ونكران الذات والبذل والعطاء اللامحدودين من أجل خدمة الهدف الوطني الأسمى.

وفي أي مجتمع، وفي أي دولة، وفي أي حقبة، فإن الإصغاء إلى العقل الجمعي والعمل لتوضيح رؤاه ومفاهيمه وترجمته بعفويته وصدقه إلى خطط عمل ومشاريع، هو الطريق الأسلم لضمان تحقيق المصلحة المجتمعية العليا ولتعزيز مناعة الشعوب والدول وتحصينها داخلياً وإقليمياً ودولياً. وقد يكون من الملائم التذكير هنا بأن الرئيس بوتين اختير كرجل العام في مجلة “التايم” الأميركية لعام 2007، على الرغم من كل سياساته ومواقفه المزعجة للإدارة الأميركية، وجواباً عن السؤال لماذا جرى هذا الاختيار يجيب ريتشارد ستينغل بالتالي:

“رجل العام بالنسبة إلى مجلة “التايم” ليس شرفاً، ولا مصادقة، ولا مسابقة شهرة. في أفضل حالاته هو اعتراف واعٍ ومسؤول بالعالم كما هو، واعتراف بأقوى الأفراد والقوى التي تصوغ هذا العالم، وهو بالنتيجة حول قيادة جريئة شجاعة، قيادة تغيّر العالم”. ويضيف الكاتب: “على حساب الرؤى والمبادئ التي يتبناها العالم الغربي فقد أظهر الرئيس بوتين قيادة استثنائية في تحقيق استقرار لبلد قلما عرف الاستقرار، وأعاد روسيا على الطاولة كقوة دولية”. فهل يذكره التاريخ قائداً أدى دوراً حاسماً في دقّ إسفين حاسم في نعش الهيمنة الغربية على العالم ومقدراته؟.

 

  • المصدر: الميادين نت
  • المقالة الصحفية تم نقلها من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع