“الطابور الخامس” بين واقع يستغله الشعبويون وخيال يؤججه الساسة
تصاعد القلق منه في السنوات الأخيرة وعدم الاستقرار السياسي يزيد من احتمالية تدخل الدول في شؤون منافسيها
السياسية :
طارق الشامي*
على الرغم من أن مصطلح “الطابور الخامس” لم يظهر حتى ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أن ممارسة التهديدات المرتبطة به سجلها التاريخ قبل أكثر من ألفي عام، ومع ذلك ارتفع القلق والحديث عنه خلال السنوات الأخيرة في الخطاب السياسي حول العالم، من الولايات المتحدة إلى روسيا والصين ومن فرنسا والمجر إلى تركيا وصربيا واليونان وعديد من البلدان الأخرى، فما المقصود بالطابور الخامس؟ ولماذا تزايدت المخاوف منه في الحقبة الأخيرة؟ وما السبب وراء خشية الباحثين من تغلغله في السياسة الداخلية للعديد من البلدان وفي تأثيره في العلاقات بين الدول؟
أحدث مثال
خلال الأسابيع التي تلت الهجوم الروسي على أوكرانيا، نفذت حكومة موسكو حملة واسعة النطاق ضد المواطنين الذين ينظر إليهم على أنهم يعارضون الحرب. وحذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب ألقاه في مارس (آذار) الماضي، من أن الغرب سيحاول الرهان على ما يسمى الطابور الخامس، ثم تحول خطاب بوتين إلى سياسة رسمية للدولة، حيث وجهت اتهامات لعدد من المنشقين وبعض المستقلين بالترويج للمصالح الغربية والعمل على تقويض روسيا من الداخل، فتم تغريم بعضهم أو سجنهم ضمن حملة ضد الخونة المفترضين، لم يشنها الكرملين فقط بشكل مباشر، لكن شارك فيها مواطنون عاديون اعتقدوا أنهم يتصرفون بشكل وطني عبر الانقلاب على جيرانهم وزملائهم.
وبصرف النظر عن مدى صدق الاتهامات أو كذبها، إلا أن هذا النموذج الذي يستخدم لتحديد أو تشويه مجموعات محلية، يزعم أنها تعمل مع أعداء خارجيين لتقويض المصلحة الوطنية ثم تحريض الجمهور على استهدافهم، أصبح متكرراً ومتزايداً في عدد من البلدان، حيث تستغل التحيزات الموجودة مسبقاً مع مخاوف الأمن القومي، والمنافسات الجيوسياسية لإضعاف المعارضين السياسيين المحليين، ولكن ما المقصود بمصطلح “الطابور الخامس” وأين نشأ أول مرة؟
ماهية الطابور الخامس
وفقاً للموسوعة البريطانية فإن الطابور الخامس هو مجموعة سرية أو فصيل من العملاء التخريبيين الذين يحاولون تقويض تضامن الأمة بأية وسيلة يمتلكونها، ويعتمد الأسلوب الأساسي للطابور الخامس على تسلل المتعاطفين إلى نسيج الأمة بأكمله تحت الهجوم، وبخاصة في مواقف القرار السياسي والدفاع الوطني، من خلال استغلال مخاوف الناس ونشر الإشاعات والمعلومات المضللة، وكذلك من خلال استخدام تقنيات التجسس والتخريب الأكثر شيوعاً.
ووفقاً لقاموس ويليام ويبستر، فإن أصل هذا المصطلح نشأ خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، وهو ترجمة لمعنى (لكوينتا كولومنا) باللغة الإسبانية الذي يعني الطابور الخامس أو الكتيبة القتالية الخامسة، وينسب المصطلح إلى إميليو مولا فيدال، وهو جنرال متمرد نطق بهذه العبارة عندما كان على وشك مهاجمة مدريد باستخدام أربع من كتائب الجيش، ووفقاً لبول بريستون أستاذ التاريخ في كلية لندن للاقتصاد، فقد تحدث الجنرال مولا بأن لديه أربعة طوابير أو كتائب من القوات مستعدة للقتال، لكن الهجوم سيبدأ من قبل “طابور خامس” متعاطف مع الجنرال مولا وموجود بالفعل داخل المدينة.
وفي مقالة نشرت في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1936 في صحيفة “نيويورك تايمز”، وصف الصحافي ويليام كارني المؤيدين السريين للمتمردين بأنهم “الطابور الخامس”، لكن المصطلح اكتسب شعبية واسعة لدى الناطقين بالإنجليزية بعد أن استخدمه الروائي الأميركي الحائز على جائزة نوبل في الأدب إرنست همنغواي في عنوان كتاب عام 1938، لذلك أصبح الطابور الخامس يعرف تقليدياً على أنه مجموعة من المتعاطفين مع الخصم أو متسللون ينشرون معلومات مضللة وإشاعات، فضلاً عن استخدام القوة أحياناً استعداداً لهجوم خارجي.
تكتيك عسكري
غير أن استخدام هذا الأسلوب كتكتيك عسكري، عبر استغلال وجود قوى متعاطفة داخل مجتمع تعمل نيابة عن أعدائه يعود إلى الحرب البيلوبونيسية، التي دارت رحاها في اليونان القديمة بين أثينا وإسبرطة، حيث أدت الثورات التي بدأها المتعاطفون من الطرف الآخر إلى تغيير التوازن لكلا الجانبين.
وامتد هذا الأسلوب عبر التاريخ وصولاً إلى الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، حيث لم يكن الطابور الخامس مخيفاً فحسب، بل كان يعمل بنشاط، إذ استولى النازيون على إقليم سوديتنلاند في تشيكوسلوفاكيا عام 1938 بمساعدة الأقلية الألمانية المحلية، واستخدم النازيون الطابور الخامس مرة أخرى عندما ساعد السياح الألمان الجنود المتخفين في الاستيلاء على لوكسمبورغ عام 1940.
وبحسب مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، أدى نجاح ألمانيا في استخدام الطابور الخامس إلى إثارة المخاوف داخل الاتحاد السوفياتي، وألهم ذلك جوزيف ستالين فعمل على ترحيل الألمان العرقيين من غرب الاتحاد السوفياتي قرب الحدود الألمانية إلى آسيا الوسطى وسيبيريا.
وعلى الرغم من المخاوف المشروعة من الطابور الخامس، قدمت اللغة التي استخدمت في الداخل، طريقة ملائمة للتخلص من قطاعات ضخمة من السكان، كان ستالين يخشى أن تقوض سلطته، وتحت ستار القضاء على الأعداء الداخليين، قام ستالين بترحيل الشيشان والكوريين وتتار شبه جزيرة القرم وعديد من الأقليات الأخرى، ونقلهم إلى السهوب السوفياتية، ما أدى في كثير من الأحيان إلى ارتفاع عدد القتلى.
متجذرة في التاريخ
القلق من وجود طابور خامس يمكن أن ينبع من الشك في أن المطلعين على بواطن الأمور الذين يكون بوسعهم تقويض المصلحة الوطنية، تكون لديهم في الغالب أيديولوجية أو هوية عرقية أو ثقافية أو دينية، تميز مجموعة ما على أنها مختلفة عن الأغلبية الوطنية، بالتالي تصبح مشكوكاً في ولائها.
وقد شهد النصف الأول من القرن الـ20 تركيزاً على الطوابير الخامسة المحددة عرقياً، عندما بدأت إمبراطوريات أوروبا في الانهيار والتفكك، إذ استهدف القادة الذين شاركوا في بناء الدول الناشئة بتشويه سمعة مجموعات معينة، غالباً ما أشاروا إليهم على أنهم “أقليات قومية”، واعتمدوا سياسات إقصائية تجاه هذه المجموعات المحتملة أو الفعلية من الطابور الخامس، ما أسفر عن حملات من التطهير العرقي والتبادل القسري للسكان، بما في ذلك الإبادة الجماعية للأرمن في العقد الأول من القرن الماضي.
وأدت الحرب العالمية الثانية وتهديد وحدة الأراضي إلى زيادة المخاوف في شأن الطابور الخامس من الأقليات العرقية خلال هذه الفترة، حيث نظم الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين ترحيل مجموعات عرقية بأكملها، وشمل ذلك الشيشان وتتار القرم والإنجوش والأتراك المسختيان (نسبة إلى منطقة مسخيتي في جورجيا) لمعاقبة ما وصفهم رئيس الشرطة السرية لستالين، بالمتعاونين مع الفاشيين المحتلين الذين خانوا الوطن الأم وانضموا إلى صفوف المخربين والجواسيس.
وفي أعقاب الهجوم على بيرل هاربور، اعتقلت الحكومة الأميركية أكثر من 100 ألف أميركي من أصل ياباني، على الرغم من حقيقة أن التقارير الاستخباراتية في ذلك الوقت لم تجد أي دليل موثوق به على التجسس أو التخريب على نطاق واسع.
الأساس الأيديولوجي والعرقي
وبعد الحرب العالمية الثانية وانتشار الشيوعية حول العالم واشتداد المنافسة في الحرب الباردة، اتسعت المخاوف من الطابور الخامس على أساس أيديولوجي، إذ تفاقمت مخاوف ستالين من “تطويق الرأسماليين”. وحذر من أن خصومه الغربيين كانوا يتصرفون من خلال “جواسيس ومخربين وقتلة في الداخل”، في حين اتهم السياسيون اليمينيون في الولايات المتحدة، عديداً من موظفي الخارجية الأميركية والحكومة والمثقفين والفنانين في هوليوود بالتعاطف سراً مع الشيوعية والاتحاد السوفياتي في حملة الخطر الأحمر التي عرفت أيضاً باسم “الماكارثية” نسبة إلى عضو مجلس الشيوخ جوزيف ماكارثي الذي قاد الحملة التي أدت إلى اعتقال ومحاكمة المئات، خشية أن يمثل هؤلاء “الطابور الخامس” المهدد للوحدة الوطنية.
ومع نهاية الحرب الباردة تضاءل التركيز على الأيديولوجيا كأساس لاتهامات الطابور الخامس وحل محلها القلق المتجدد في شأن الولاءات العرقية والوطنية، فقد أدى تفكك الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا إلى ترك الأقليات القومية عالقة داخل أغلبية تسعى لتوطيد دولتها القومية الخاصة بها، وكان من بينهم السكان الناطقون بالروسية في دول ما بعد الاتحاد السوفياتي الذين كان يخشى أن يكونوا مخلب قط محتملاً لادعاءات الوحدوية الروسية. وعلى الطريقة نفسها، تم تصوير صرب كرايينا في كرواتيا بالمثل على أنهم متعاطفون في الطابور الخامس مع الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش بناء على عرقهم، على الرغم من أن معظمهم لم يشارك بآرائه في ذلك الوقت.
وكانت هذه المرحلة من السياسات المتعلقة بالطابور الخامس مدفوعة بالمخاوف من الأقليات العرقية حتى في آسيا أيضاً، فبعد أن طالب المتظاهرون الإيغور بوقف الهجرة الجماعية للصينيين الهان إلى مقاطعة شينغيانغ ذات الأغلبية المسلمة عام 1990، قمعت الصين المتظاهرين وبدأت في تصوير الإيغور على أنهم تهديد قومي عرقي وديني، واستمر هذا التأطير حتى الوقت الحاضر، إذ صورت الصين العنف السياسي في شينغيانغ على أنه نتاج تسلل تخريبي من قبل الشبكات الإسلامية المتطرفة العابرة للحدود الوطنية.
عوامل عودة القلق
خلال السنوات الأخيرة، لوحظ ارتفاع نبرة الخطاب السياسي حول الطابور الخامس في أرجاء مختلفة من العالم، ويعزى ذلك إلى عوامل عدة متقاربة بحسب هاريس مايلوناس أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في كلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، وسكوت رادينتز أستاذ الدراسات الروسية والأوروبية الآسيوية في مدرسة جاكسون للدراسات الدولية بجامعة واشنطن، في مقالة لهما بموقع فورين أفيرز.
أبرز هذه العوامل زيادة عدم الاستقرار الجيوسياسي الذي يزيد من احتمالية تدخل الدول في الشؤون الداخلية لمنافسيها، وانتشار القومية كمعتقد منطقي، ما يعزز صدى الادعاءات المنتشرة حول الطابور الخامس، والنجاح الانتخابي للحركات الشعبوية والعرقية التي غالباً ما تضخم مثل هذه المخاوف، فضلاً عن الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، التي تسهل الانتشار السريع لخطاب الطابور الخامس. وطالما استمرت هذه الاتجاهات، سيزداد التركيز على “الأعداء الداخليين” المدعومين من الخارج، وسيشكل الطابور الخامس، سواء كان حقيقياً أو متخيلاً ليس فقط السياسة الداخلية لعدد من البلدان، لكن أيضاً العلاقات في ما بينها في الوقت الذي تكافح فيه من أجل الهيمنة على المسرح الدولي.
في عالم اليوم، تنتشر سياسة الطابور الخامس في كل مكان، فمنذ نهاية اللحظة الأحادية القطب للولايات المتحدة، ومع تطلعات روسيا والصين لدور أكبر في الساحة الدولية، تزايد مناخ عدم الاستقرار الجيوسياسي، فقد هاجمت روسيا جورجيا عام 2008 وكذلك هاجمت أوكرانيا مرتين، بدعوى أن الانفصاليين الناطقين بالروسية مضطهدين، كما سعت قوى إقليمية أخرى، مثل البرازيل والصين والهند وإيران واليابان وجنوب أفريقيا وتركيا، إلى ممارسة نفوذها داخل أنظمة إقليمية غير مستقرة، حيث دعمت هذه الدول مجموعة قومية أو عرقية صديقة في دولة مجاورة تطمح إلى تقرير المصير أو الحكم الذاتي. ورداً على ذلك، يلجأ السياسيون في البلد المستهدف إلى إظهار الروابط بين الطابور الخامس المزعوم وداعميهم الأجانب، سعياً منهم للحصول على دعم من الأغلبية الوطنية.
وتستخدم القوى الإقليمية أيضاً سياسة الطابور الخامس للحصول على دعم محلي في البلدان ذات الأهمية الاستراتيجية، فعلى سبيل المثال اتهم السياسيون الغربيون روسيا بدعم الحلفاء الأيديولوجيين في عديد من دولهم عبر شراء ولاء السياسيين كما حدث في فرنسا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة بالمثل. وفي وقت سابق من هذا العام، حذر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي كريستوفر راي، من أن المسؤولين المنتخبين في الولايات المتحدة المؤيدين للصين قد تأتي اللحظة التي تأمرهم فيها بكين عندما تنمو قوتهم ونفوذهم. وبالأسلوب نفسه، تنخرط قوى غربية أخرى بما في ذلك الولايات المتحدة، في أنشطة مماثلة من خلال دعم الحركات الموالية للغرب في جميع أنحاء العالم.
فرصة الشعبويين
استخدم كثير من القادة أيضاً سياسات الطابور الخامس للاستفادة من النزعة القومية المحلية المتزايدة، حيث يلعب السياسيون اليمينيون على الاستياء العرقي والثقافي، مستخدمين شبح عدم ولاء مجموعات محلية معينة للوطن، كأساس لكسب ود الحركات السياسية الشعبوية، فعلى سبيل المثال صور سياسيون وأحزاب يمينية متطرفة في أوروبا المواطنين المسلمين، على أنهم تهديد للحضارة المسيحية، واستخدم السياسيون المحافظون في الولايات المتحدة خطاباً مماثلاً في ما يتعلق بالأميركيين المسلمين. وفي المجر، جسد رئيس الوزراء فيكتور أوربان هذا النهج عندما صور الممول جورج سوروس كقائد للطابور الخامس في الحملات التي لعبت على الصور النمطية المعادية للسامية.
ومع ذلك، ظهر تأطير آخر لاتهامات الطابور الخامس وهو الولاء المفترض من السياسيين للمؤسسات فوق الوطنية على حساب المصالح الوطنية، ففي أعقاب الأزمة المالية لعام 2008 رأت أحزاب وحركات المعارضة في أوروبا فرصة لنزع الشرعية عن الأحزاب الحاكمة التي كانت على استعداد للتفاوض في شأن اتفاقات القروض مع جهات خارجية مثل صندوق النقد الدولي، ووجهت اتهامات بعدم الولاء من قبل كل من الحركات الشعبوية ذات الميول اليسارية واليمينية، بل ذهبوا إلى تقسيم المجتمع إلى مواطنين وطنيين “نقيين” ونخبة “فاسدة”، كما تفعل الحركات الشعبوية في كثير من الأحيان، إذ نجحوا في ربط تلك النخبة بجهات فاعلة خارجية محددة يفترض أنها خبيثة، مثل صندوق النقد الدولي وألمانيا والاتحاد الأوروبي.
وعلى هذه الأسس، هاجم رئيس الوزراء اليوناني السابق أليكسيس تسيبراس الأحزاب التي صوتت لاتفاقي إنقاذ اقتصادي وسياسات تقشف، قبل وصول تحالف اليسار الراديكالي إلى السلطة، لكن هذه المزاعم النارية فقدت قوتها بنهاية فترة رئاسته للوزراء عام 2019، بخاصة بعد أن صوت ائتلافه لصالح ثالث اتفاق إنقاذ اقتصادي، على الرغم من أن الفكرة القائلة إن النخب السياسية تواطأت مع المفوضية الأوروبية في بروكسل أو صندوق النقد الدولي في واشنطن، وحولت اليونان إلى مستعمرة ديون، استمرت قائمة.
انتشار الأفكار الخطرة
ويبدو أن أكبر المستفيدين من خطاب الطابور الخامس في السنوات الأخيرة هم القوى الشعبوية، إذ استخدمه عدد من القادة كوسيلة لتحقيق نجاح انتخابي وتوحيد تحالفات الأغلبية حول تهديدات ثقافية وأمنية متصورة انتشرت على نطاق واسع بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهذا تبنت بعض الأحزاب في الديمقراطيات القديمة تكتيكات مماثلة، إذ تصور أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا الإسلام والمسلمين كتهديد وجودي لأسلوب الحياة الفرنسي، وفي الولايات المتحدة ازدهر في اليمين الأميركي ما يسمى نظرية الاستبدال، التي تفترض أن النخب (وبخاصة اليهود) تروج بشكل متعمد للهجرة من الجنوب العالمي، لتخفيف القوة السياسية للأميركيين البيض.
ويتوقع موقع فورين أفيرز أن يزدهر هذا الخطاب في الدورات الانتخابية المقبلة، وأن يكون له آثار سياسية مهمة على الصعيد المحلي، إذ يمكن أن يؤدي الخوف من وجود الطابور الخامس، إلى مزيد من تآكل الثقة بين مختلف الجماعات العرقية والاجتماعية والحزبية، ما يؤدي إلى تضخيم الاستقطاب وتقويض التماسك الوطني، لأنه حيثما تنتشر مثل هذه الادعاءات، تصبح المجتمعات أكثر هشاشة وعرضة للتدخل الخارجي والعنف.
وعلى الصعيد الدولي، يمكن أن يصبح الاعتقاد أن بعض الدول تسعى إلى مساعدة أو تنشيط الجماعات الأجنبية الصديقة، لتقويض خصومها نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها، ما يدفع الجماعات المضطهدة إلى السعي للحصول على الحماية الخارجية من حكوماتها، كما يمكن لهذا الخطاب أو الدعم الفعلي من قبل الجهات الخارجية للطابور الخامس المفترض أن يزيد من التهديد المتصور في البلدان المستهدفة، ما يزيد من احتمالية نشوب صراع بين الدول، والأخطر من هذا أن تؤدي الإساءة المتبادلة للفئات الضعيفة من قبل الدول المتحاربة إلى التطهير العرقي، كما حدث في اليونان وتركيا في بداية القرن الماضي وفي البوسنة وصربيا في نهايته.
وجدت لتبقى
إذا استمرت الاتجاهات الحالية، قد تصبح سياسة الطابور الخامس سمة مميزة للجغرافيا السياسية والدبلوماسية وكذلك السياسة الداخلية، ولهذا ينصح الخبراء بضرورة تعرف ممارسي حل النزاعات على علامات الحملات ضد الطابور الخامس المزعومة عند ظهورها، وفهم كيف يمكن أن يتلاقى الاستقطاب الداخلي وأزمات الأمن الدولي ويؤديان إلى عواقب وخيمة. ومثلما يفهم السياسيون أن اتهام المجموعات المهمشة بعدم الولاء يمكن أن تبدأ معه حلقة من الاغتراب والعدوان، يجب على صانعي السياسات ذوي النوايا الحسنة أن يكونوا مدركين للكيفية التي قد يؤدي بها خطابهم عن الأمن إلى تفاقم الشكوك تجاه السكان المنبوذين، كما يجب على المنظمات الدولية وضع أنظمة إنذار مبكر لتتبع اتهامات الطابور الخامس.
وبقدر ما يهدف الخطاب السياسي التحريضي إلى إثارة رد فعل من الطابور الخامس المتهم، فإن فضح هذه الاستراتيجية والرد على هذه الروايات من خلال الحملات الإعلامية المحلية قد يسهل مقاومة مثل هذه الاستفزازات.
ومع ذلك، فإن القوى الدافعة لسياسة الطابور الخامس لا تزال قوية، ولن تهدأ حتى يتلاشى الاستقطاب السياسي وعدم المساواة في الدخل، والمعلومات المضللة التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، ومن غير المرجح أن يتغير أي منها في وقت قريب.
المصدر : الاندبندنت
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع