ليلى نقولا

 

فرضت واشنطن عقوبات على دوغين عام 2014 بعد ضمّ القرم، وأخيراً أضيفت ابنته إلى قائمة العقوبات الأميركية بسبب “دورها الإعلامي في تأييد العملية العسكرية في أوكرانيا”.

يعود الحديث عن المفكر الروسي ألكسندر دوغين وتناول دوره في التفكير الاستراتيجي والسياسة الخارجية الروسية، إلى مناسبة اغتيال ابنته في موسكو، اغتيالٌ يقول عدد من الوسائط الإعلامية إنه كان يستهدف دوغين نفسه، لدوره في صياغة العقيدة العسكرية الخاصة بالجيش الروسي.

وبصرف النظر عن الاغتيال، ومن يقف وراءه، لا شكّ في أن هناك سلسلة من المغالطات التي سوّقها الإعلام الغربي عن روسيا، التي انتشرت عالمياً من دون التدقيق في صحتها. ومن بين تلك الأساطير، ما سمّي “عقيدة جيراسيموف”، الذي يشير الغرب إلى أنه المبدأ العسكري المؤسّس “للحروب الهجينة” التي تعتمدها روسيا، وذلك استناداً إلى خطاب نقلته مجلة عسكرية روسية عن فاليري جيراسيموف (قائد الأركان الروسي منذ عام 2012)، وفيه يتحدث عن “دروس الربيع العربي”، ويشرح كيف تزيل الولايات المتحدة والغرب الحواجز بين العسكري والمدني في الحروب الجديدة التي سمّاها “حروباً هجينة”.

وعلى الرّغم من اعتذار مطلق شعار “عقيدة جيراسيموف”، الكاتب الأميركي مارك غاليوتي، في مقال نشره في “فورين بوليسي”، وقوله أن لا شيء يشير فعلاً إلى وجود هذه العقيدة في روسيا، إلا أن الإعلام الغربي ما زال إلى الآن يستخدم هذا التوصيف لشرح العقيدة العسكرية الروسية.

وبالعودة إلى ألكسندر دوغين، يسميه الغرب “عقل بوتين” أو “بوتين-راسبوتين”، ويتهمه بأنه الملهم الروحي لبوتين وللقادة العسكريين الروس، وذلك انطلاقاً من كتاب لدوغين يتناول فيه الجيوبوليتيك باللغة الروسية عنوانه “أسس الجيوبوليتيك” ويدعو فيه روسيا إلى التحلّي بالقوة، والسعي للعودة إلى الساحة العالمية، وتقويض هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم.

واللافت أن الولايات المتحدة الأميركية فرضت عقوبات على دوغين عام 2014 بعد ضمّ القرم، وأخيراً أضيفت ابنته إلى قائمة العقوبات الأميركية بسبب “دورها الإعلامي في تأييد العملية العسكرية في أوكرانيا”.

المؤكد، أن مَن يتداولون مصطلح “عقل بوتين” للدلالة على دوغين، لم يقرأوا كتاب “أسس الجيوبوليتيك” باللغة الروسية، الذي يحتوي على مفاهيم أكاديمية عامة حول الجيوبوليتيك بداية، ثم بعض النصائح لعودة روسيا إلى الساحة الدولية التي تتطلب تقويض الهيمنة الأميركية على العالم، ومنها المساهمة في تقويض الولايات المتحدة الأميركية من الداخل (على الرغم من تأكيده أن ذلك صعب). كما أن معظمهم لم يصرف وقته في تدقيق مدى تطابق أفكار بوتين القومية، و”الأوراسية الجديدة” التي ينادي بها ألكسندر دوغين.

عملياً، أن إجراء دراسة مقارنة لكل من أفكار بوتين وأفكار دوغين، تعطي فكرة واضحة أن بوتين لا يؤمن بأوراسية دوغين (الذي لا يؤمن بالاتحاد الروسي كدولة)، بل إن بوتين ينتمي إلى التيار القومي الروسي الذي يؤمن بعظمة روسيا كحضارة قائمة بذاتها، وليست بالضرورة جزءاً من الحضارة الأوروبية أو الأوراسية كما تؤمن التيارات الفكرية الأخرى في روسيا.

أوراسية بوتين تنطلق من مصلحة اقتصادية وجيوبوليتكية (سياسة واقعية)، وليس من منطلق إيمان بهويةٍ أوراسية حضارية كالتيار الأوراسي الفكري في روسيا الذي لا يؤمن بالهوية الروسية باعتبارها مميّزة ومنفصلة بل باعتبارها جزءاً من أوراسيا.

أما “الأوراسية الجديدة” التي ينادي بها دوغين، فهي أيضاً لا تتطابق والتيار الأرواسي التقليدي في روسيا، بل إن أفكاره أقرب إلى اليمين المتطرف الذي يدعو إلى هيمنة روسيا على أوراسيا، أكثر مما هو داعم للاندماج الثقافي والحضاري الأوراسي.

وفقاً لدوغين، فإن “النظام الأطلسي” هو قوة متجانسة تعمل لإضعاف التنوّع الوطني والثقافي الذي يمثل قيمة أساسية لأوراسيا. ولأن أوراسيا تعاني “أزمة عرقية وبيولوجية وروحية حادة” يمكن أن يكون الحلّ بقيادة روسيا لأوراسيا على أن تخضع لـ”عملية عضوية ثقافية-عرقية” بقيادة روسيا لضمان الحفاظ على الدول الأوراسية وتقاليدها الثقافية.

في المقابل، حظيت أوراسيا باهتمام واضح لدى بوتين لاعتبارات عديدة، أهمها رفض أوروبا دمج روسيا في المنظومة الأوروبية، ثم التوجّه الأوروبي إلى قطع العلاقات بروسيا بعد الحرب في أوكرانيا، وفضلاً عن ذلك، يعتقد بوتين أن بلاده هي الدولة المحورية في أوراسيا، خصوصاً أنها دولة واسعة متعدّدة العرق، وهي تالياً تمثّل صورة مصغرة لأوراسيا.

يمكن تلخيص التصورات الفكرية لفلاديمير بوتين بعددٍ من التوجهات الرئيسة المتمثّلة في التالي:

 

– التوجّه المحافظ:

في مستهل حكمه، حاول بوتين أن يتبنّى سياسات ليبرالية ويتعاون مع الغرب، لكن تجربته غير المشجعة مع الغرب في ولايته الأولى، دفعته إلى الاتجاه المحافظ، وسرعان ما بدأ يتحدّث عن روسيا التي تعتمد على التقاليد والقيم الأساسية، وخصوصاً القيم المسيحية. وتبلورت هذه الفلسفة على نحو كبير في ولايته الرئاسية الثانية وما تلاها.

وقد توسّعت هذه السياسة المحافظة، من خلال التحالف مع الكنيسة الأرثوذكسية، وزاد استخدام بوتين للمفردات الدينية كآلية لمواجهة التطرف، ولكسب التأييد الانتخابي في الداخل. وكان لافتاً التعريف الذي أعطاه الرئيس الروسي للديمقراطية، إذ عرّفها بأنها “قوة الشعب الروسي في تقاليده الخاصة بالحكم الذاتي، وليست الوفاء للمعايير المفروضة على روسيا من الخارج”.

 

– طموحات القيادة العالمية:

لم يُخفِ بوتين رغبته في استعادة المكانة الروسية في النظام الدولي، وحاول القيام بذلك عبر القوة الصلبة، والتوسّع الخارجي، إضافة إلى أدوات القوة الناعمة وتسويق ما يعرف بالنموذج الروسي، الذي ينطوي على قيم الوطنية الروسية والمسيحية الأرثوذكسية.

 

– المجال الأوراسي:

شرع بوتين في بناء اتحاد اقتصادي أوراسي يهدف إلى منافسة القوى الاقتصادية الكبرى، ويعزّز النفوذ الروسي في الوقت عينه، ويخدم مصالح روسيا ومساعيها نحو المشاركة في قيادة النظام الدولي.

 

– إضعاف الخصوم ومنعهم من الانتصار على روسيا:

تتعاطى روسيا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف الناتو على أنها قوى مناوئة لها تسعى لتقويض نفوذها. فإذا لم يستطع بوتين أن ينتصر على هؤلاء، فعلى الأقل يضعفهم ويعرقل تحقيق أهدافهم العالمية، ويمنعهم من التدخّل في الحديقة الخلفية لروسيا. وما الحرب على أوكرانيا إلا تطبيق لمبدأ منع الخصوم من إضعاف روسيا وتطويقها.

 

  • المصدر: الميادين نت
  • المادة الصحفية تم نقلها من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع