البلقان.. برميل البارود الذي أوشك على الانفجار
السياسية:
صرب البوسنة يصعّدون الإجراءات الانفصالية عن الدولة وعودة حملات الكراهية ضد المسلمين
روسيا تدعم سياسات الصرب نكايةً في أوروبا والولايات المتحدة وانتقاماً من تفكيك يوغوسلافيا الشيوعية…
قبل نهاية 2021 بأيام، مرّر برلمان صرب البوسنة تصويتاً يلزم الحكومة المحلية بتنظيم الانسحاب من 3 مؤسسات بوسنية مشتركة أساسية، هي: الجيش، والنظام القضائي، والضرائب، خلال الأشهر الستة التالية.
هي مجرد واحدة من محاولات الإجهاز على سيادة البلاد الكاملة على أراضيها بموجب اتفاق دايتون سنة 1995.
والخطوة هي أيضاً “أخطر تهديد وجودي” بالعودة بالبلاد خطوة نحو الوراء، إلى مستنقع الاقتتال العرقي والطائفي مطلع التسعينيات.
بعد أيام ظهرت أشباح الماضي المخيفة أثناء احتفال الذكرى الثلاثين لتأسيس كيان صرب البوسنة المعروف باسم جمهورية صربسكا في الأيام الأولى من 2022.
على منصة الاحتفال في مدينة “بانيا لوكا”، وقف الرئيس الصربي البوسني المثير للجدل ميلوراد دوديك، ووراءه فينكو باندوريفيتش، قائد الكتيبة المسؤولة عن مجازر ارتكبت بحق البوسنيين المسلمين في مدينة “سربرنيتشا”، وصدر بحق الرجل حكم بالسجن 13 عاماً، وأطلق سراحه بعد قضائه 10 أعوام في السجن.
وها هو يحتفل بجرائمه بعد ثلاثة عقود.
نتحدث عن مخاوف جديَّة يعيشها مواطنو البلاد الذين، حسب تقارير، بدأوا في تخزين المواد الغذائية تحسباً لأي أعمال عنف قد تنشب في أي لحظة. علماً أن البوسنة والهرسك تعرف انتشاراً واسعاً للسلاح غير المرخَّص، إذ تحدَّثت تقارير الأمم المتحدة عن نحو 750 قطعة موروثة عن حقبة الحرب الأهلية ما بين 1992 و1995، إضافة إلى تزايد تهريب الأسلحة من صربيا نحوها، الأمر الذي لم تستطِع الحكومة البوسنية رغم جهودها الحدّ منه حتى اليوم.
لماذا تعود أشباح الدم والمذابح إلى اتحاد البوسنة والهرسك بعد ربع قرن؟ وكيف فشل اتفاق السلام في دمج الأعراق الثلاثة للبلاد، الصرب والكروات والبوشناق المسلمين؟ وما العلاقة بين تصعيد صرب البوسنة ضد شركاء الحكم، وبين الحرب الروسية على أوكرانيا؟.. وهل الحرب هي الاحتمال الأكبر؟
في هذا التقرير محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، في ملف لم تهدأ سخونته بتعاقب الليل والنهار وتوقيع الاتفاقيات الدبلوماسية.
ـ هكذا تغيرت البوسنة كثيراً بعد دخول الإسلام
ـكانت البوسنة والهرسك ذات مرة رأس الرمح العثمانية المصوبة نحو أوروبا.
ـ وأصبحت مع غزو النمسا عام 1878 رأس الرمح الألماني الذي يطعن دول البلقان.
ـ العثمانيون استولوا على البوسنة عام 1463 ، وعلى الهرسك بعدة سنوات.
حين سيطر العثمانيون على أغلبية مناطق البوسنة وجدوا بلداً منقسماً على نفسه بين كنيسة كاثوليكية رومانية وكنيسة أرثوذكسية وكنيسة محلية بوسنية، ليبدأ انتشار الإسلام فيها مدى أربعة قرون، ويعتنقه الآن نصف سكان البوسنة تقريباً البالغ عددهم 4.4 مليون.
وسمح العثمانيون للبوسنة بالحفاظ على هويتها كمقاطعة لا تتجزأ من الإمبراطورية العثمانية مع البقاء على اسمها التاريخي وسلامة أراضيها، وهي حالة فريدة من بين دول البلقان التي خضعت لهم.
تغيرت البلاد كثيراً تحت الحكم الإسلامي.
الطائفة المسلمة ذات الأصول السلافية أصبحت بالنهاية من أكبر الطوائف العرقية والدينية، وذلك نتيجة للارتفاع التدريجي في عدد الذين أسلموا.
وفي أواخر القرن 15 وصلت أعداد كبيرة من يهود سفارديون بعد طردهم من إسبانيا.
وعندما توسعت الدولة العثمانية داخل أوروبا الوسطى، خفف ذلك من الضغط على البوسنة كولاية حدودية، وشهدت نمواً وازدهاراً لفترات طويلة.
وشارك الجنود البوسنيون في معارك الإمبراطورية العثمانية، وارتقى بعضهم في المراتب العسكرية ليصبحوا قواداً وأمراء جيوش ووزراء.
لكن الضعف الذي كان يدب في جسد الامبراطورية العثمانية انعكس في ضعف قبضتها على البوسنة والهرسك، فشهدتا ثورات متتالية، ثم وقعت انتفاضة واسعة النطاق للفلاحين سنة 1875. وسرعان ما تطور هذا النزاع؛ لتدخل به العديد من دول البلقان والقوى العظمى، مما أجبر العثمانيين في نهاية المطاف على التنازل عن إدارة البلد.
حدث ذلك في مؤتمر برلين عام 1878 تقرر وضع البوسنة والهرسك تحت الاحتلال النمساوي، وحدث ذلك رسمياً عام 1908.
وهكذا أصبحت كرواتيا، وسلوفاكيا والبوسنة والهرسك تدريجياً تحت إمرة الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية. وقفت الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية ضد المد القومي السلافي الداعي إلى وحدة الشعوب السلافية في البلقان.
* التهجير القسري للمسلمين .. بدأ في القرن الـ19
الكثير من البوشناق، وهو الاسم المتعارف عليه لمسلمي النمسا، رفضوا وقتها الخروج من كنف السلطة العثمانيّة إلى الكنف النمساوي، واحتجوا بأن الفقه الإسلامي التقليدي يُحرّم العيش في أرض يحكمها غير المسلمين، وهاجر أكثر من مئة ألف منهم إلى تركيا.
لكن مفكرين مسلمين بارزين صاغوا حججاً جديدة أسهمت في وقف موجات هجرة البشناق.
من بين هؤلاء كان مفتي البوسنة محمد توفيق أزاباجيتش، الذي أكد خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر أنه “يُمكن للمسلم العيش تحت حكم دولة غير مسلمة متسامحة”.
في عام 1882، تمّ إنشاء “الجماعة الإسلاميّة في البوسنة والهرسك” بشكل رسمي، وتطوّرت هيكليّة المنظمة لتصبح بشكل تدريجي مؤسسة تعمل بدرجة من الاستقلالية عن الدولة. وكان الإنجاز المهم للمؤسسة بجانب وقف التهجير القسري للمسلمين، والعمل على دمجهم بالمجتمع عبر فتاوى لتوفيق الأوضاع وتضييق الفوارق الثقافية مع شركاء الوطن.
أصدر مفتي سراييفو حينها مصطفى حلمي هادزيوميروفيك فتوى دعا فيها البشناق لقبول التجنيد في جيوش غير مسلمة.
وفتوى أخرى بجواز تعيين القضاة من الحاكم غير المسلم.
وفي عام 1928 حين قال مفتي المجتمع البشناقي محمد جمال الدين جاوشيج، وهو مصلح ديني، إن النقاب كان نتيجة عادات تاريخية وليس بناء على تعاليم دينية، وهذا يعني أنه يمكن إزالة النقاب دون أن تكون في ذلك مخالفة للدين.
وعندما سُئل مفتي البوسنة حسين كافازوفيتش عام 2014 عن الخصائص التي تُميّز الإسلام هناك، كان جوابه: “بشكل أساسي، انتشاره منذ البداية عن طريق المؤسسات التي بناها العثمانيون، وليس بشكل دعوي عن طريق التجار كما حصل في دول أخرى”.
كان الإسلام منذ البداية مؤسساتياً، مرتكزاً على العلماء والمدرسة، بحسب كافازوفيتش، الذي أوضح كذلك دور الصوفية التي مارسها العديد من العلماء واعتُبرت أساسية. لذلك وجد الإسلام في البوسنة والهرسك جذوره دوماً في كتب العلماء ومركزها في المساجد والترابطات الصوفية.
* الإسلام والشيوعية في بلد.. كان اسمه يوغوسلافيا
بعد تحرير يوغوسلافيا من الاحتلال الألماني عام 1945 أُعلن في السنة نفسها قيام اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الشعبية وأصبح جوزيب تيتو رئيساً للاتحاد. ضم هذا الاتحاد كلاً من صربيا، وكرواتيا، وسلوفينيا، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود وجمهورية مقدونيا.
بقي تيتو رئيساً للاتحاد حتى مماته -الذي كان بداية النهاية للاتحاد اليوغوسلافي- عام 1980.
تحالفت يوغوسلافيا في البداية مع الاتحاد السوفييتي إلى حين ظهور خلافات، دفعت بلغراد لتبني سياسة عدم الانحياز، ولعبت تحت قيادة تيتو دوراً مهماً في السياسة الدولية.
في ظلّ النظام الاشتراكي، لعب الدين دوراً هامشياً، وبصورة قسرية أحياناً، في حياة المسلمين كغيرهم من أبناء الديانات الأخرى في جمهوريات يوغوسلافيا.
وهكذا رسم التيّار العلماني شكل الدين وحجم تأثيره في الحياة السياسية والاجتماعيّة لمسلمي البوسنة، الذين احتفظوا بجزء كبير من التراث الإسلامي، إلا أنه في منتصف الثمانينات مثلاً كان هناك 15% فقط منهم يصفون أنفسهم بالمتديّنين.
تضاعف هذا العدد بعد اندلاع حرب البوسنة عام 1992.
وجد المسلمون أنفسهم وقد أصبحوا هدفاً أول لعمليّة القتل المُمنهج، فتضاعف تشبثّهم بتعاليم الدين.
وبعد الحرب بدا أكثر من 90% منهم أشدّ تمسكاً بالدين الإسلامي، الذي لعب دوراً هاماً في بناء الدولة.
وهكذا، تعزّزت لدى الطائفة الإسلامية نزعة قوميّة سياسيّة، تساوي بين الهويّة الوطنية العرقية، والهوية الدينية والسياسيّة.
ويتحدث المسؤولون في المشيخة الإسلامية في البوسنة عن “مرونة” المذهب الحنفي هناك في التعامل مع علمانيّة الدولة، وعن هيكليّة المؤسسات التي نجحت في أقلمة المسلمين مع الحضور النمساوي في القرن الأسبق، وفي تمكينهم من التغلب على الاشتراكية التي فرضت الانفتاح عليهم بعدائيّة.
نجح المسلمون أيضاً في الاحتفاظ باستقلال مسلمي البوسنة عن أية سلطة دينيّة خارجيّة.
ولعبت كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو دوراً كذلك، بعدما أدخلت الإدارة النمساوية مدارس ونظماً مدرسية جديدة كانت عبارة عن مزيج من نظام التعليم الأوروبي والنظام الإسلامي.
وقد تمخّض عن هذا المزيج خريجون من الفقهاء المسلمين المتشربين من الثقافة الأوروبية في الوقت نفسه.
*مذابح الحرب الأهلية توقظ العالم.. بعد 3 سنوات
في بداية تسعينيات القرن الماضى اتجهت الأنظار نحو أكبر دول البلقان وهي يوغوسلافيا، الدولة الشيوعية سابقاً، والتي نجحت حتى ذلك الوقت في دمج 7 دول في دولة واحدة.
بوفاة الزعيم المؤسس تيتو تعالت الأصوات بالاستقلال عن يوغوسلافيا. انفصلت سلوفينيا عام 1991، وتبعتها كرواتيا، ثم مقدونيا.
وعندما أظهر مسلمو البوسنة النية فى الانفصال عارضهم صرب البوسنة الموالون للعاصمة الصربية بلغراد، وهددوهم بالإبادة إذا انفصلوا عن جمهورية يوغوسلافيا.
رغم ذلك، أعلنت البوسنة والهرسك الانفصال عن يوغوسلافيا في أكتوبر/تشرين الأول عام 1991.
وبدأ الصربيون في تنفيذ تهديدهم.
بعد فترة من التوتر المتصاعد وحوادث عسكرية متفرقة، اندلعت حرب مفتوحة في سراييفو في ربيع 1992.
هاجم الصرب مناطق عدة من البوسنة، سعياً لاحتلال المناطق ذات الأغلبية الصربية شرق وغرب البوسنة.
بينما سعى الكروات إلى تأمين أجزاء من البوسنة والهرسك، وتوسيع حدود كرواتيا على حساب البوسنة.
بعد ضغوط دولية انسحب الجيش اليوغوسلافي من مناطق البوسنة بشكل رسمي، لكن جنوداً من الصرب البوسنيين غيروا شاراتهم العسكرية، وشكلوا جيش جمهورية صرب البوسنة واستمروا في الحرب.
ودارت الحرب بين البوشناق ومعظمهم من المسلمين، والصرب الذين ينتمون إلى المسيحية الأرثوذوكسية، والكروات الكاثوليك؛ ما أدى إلى سقوط أكثر من 100 ألف ضحية، وتشريد الملايين.
خلال سنوات الحرب الرهيبة بين عامي 1992 و1995 حاصر جيش الصرب عاصمة البوسنة سراييفو. وشهدت البوسنة والهرسك إراقة دماء وقسوة ومعاناة لم يشهد أحد مثيلاً لها في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
ووقعت أسوأ الفظائع في سربرنيتسا في الشرق؛ حيث قتل جنود صرب البوسنة أكثر من 8 آلاف رجل وصبي من مسلمي البوسنة خلال بضعة أيام في يوليو/تموز 1995. ويقضي اثنان من قادة صرب البوسنة في تلك الحرب، رادوفان كارادزيتش وراتكو ملاديتش، عقوبة السجن مدى الحياة بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وكان ينبغي أن تكون تلك المذبحة البشعة نهاية هذه الحقبة الدامية.
وبالفعل انتهت الحرب في عام 1995 باتفاق تم التوصل إليه في قاعدة للقوات الجوية الأمريكية في دايتون بولاية أوهايو، والذي جمّد الصراع بدلاً من إيجاد حل له، وطرح خريطة طريق نحو التئام الجراح والتكامل السياسي.
وبموجب الاتفاقية تم إنشاء وحدتين إداريتين داخل البلاد:
جمهورية صربسكا التي يهيمن عليها الصرب.
واتحاد البوسنة والهرسك.
وتم منح الكيانين بعض الاستقلالية، مع وجود حكومة جامعة، يخضع فيها الجيش والقضاء الأعلى والمخابرات وإدارة الضرائب لمؤسسات على مستوى الدولة.
وتم تشكيل المجلس الرئاسي من ثلاثة أعضاء يمثلون المجموعات العرقية الثلاث. كذلك تم إنشاء مكتب المندوب المراقب لتطبيق اتفاق السلام؛ ليكون بمثابة حكم بشأن تنفيذ الجزء المدني من اتفاق السلام.
وقضت الاتفاقية بعدم إمكانية فصل أي كيان عن البوسنة والهرسك إلا بموجب الإجراءات القانونية الواجبة.
لكن كل ما تفعله جمهورية صرب البوسنة يمضي الآن عكس اتجاه الاتفاقية والترتيبات الدولة.
* الإجراءات الانفصالية.. تهدد بحرب أهلية جديدة
لم تهدأ العداوات بين “الأشقاء” في القيادة الثلاثية للبلاد.
ومع احتضار جهود الإصلاح بعد نهاية الحرب، دمر الفساد المستشري والشلل السياسي ثقة الشعب في المؤسسات، وخلق أرضاً خصبة لانتشار الغوغائية واللامبالاة.
الخطر الذي يلوح الآن في الأفق بدأ يظهر للعلن نهاية 2021، مع اتخاذ جمهورية صرب البوسنة خطوات سياسية تجاه الانفصال عن اتحاد البوسنة والهرسك.
تواجه البوسنة والهرسك تهديدات بنشوب حرب أهلية جديدة بسبب تحركات سياسية من قيادة جمهورية صرب البوسنة نحو الانفصال. وفي بداية 2022 وصف الاتحاد الأوروبي الاحتفالات بالذكرى الثلاثين لتأسيس جمهورية صربسكا، كيان صرب البوسنة، بأنها “استفزازية ومثيرة للانقسام”.
وأضاف البيان أن “قيادة جمهورية صربسكا يجب أن تساعد في وضع حد لتوجه مقلق من الكراهية والتعصب… يجب أن يشمل ذلك وضع حد لتمجيد مجرمي الحرب وإنكار جرائمهم أو الإشادة بها”.
* دوديك يخون صورته المعتدلة.. في سنوات المذابح
في فترة الحرب البوسنية لعب دوديك دوراً سياسياً معتدلاً، فمثَّل المعارضة المعتدلة داخل برلمان صرب البوسنة، مقابل “الحزب الديمقراطي الصربي” الحاكم، الداعم لجرائم الإبادة التي كانت تجري على الأرض في حق مسلمي البوسنة.
هذه المعارضة التي أسست سنة 1996 حزب “تحالف الديمقراطيين الاجتماعيين الأحرار” الذي يقوده دوديك إلى الآن، ويتبنى التوجه الديمقراطي الاجتماعي الإصلاحي.
اكتسب دوديك سمعة طيبة تميزه عمَّن تلطخت أياديهم بالدماء، وحظي بدعم غربي خلال فترة ما بعد الحرب كان يهدف إلى تهميش خصومه القوميين.
ووصفته الصحافة الدولية في 1998 بأنه “الرجل الذي شكل المعارضة داخل برلمان صرب البوسنة وقت الحرب، وحافظ على علاقاته مع المعارضة المسلمة في البلاد، وها هو الآن يجني ثمار اعتداله”.
لكنه أصبح الآن رأس القوميين المتعصبين، وأعدى أعداء المسلمين.
ها هو يعمل جاهداً على تقسيم البلاد والاستقلال بجمهورية صرب البوسنة لنفسه.
ودعا في أكثر من مرة إلى إقامة استفتاء استقلال جمهوريته ذات الحكم الذاتي، دعوات قوبلت برفض الدولة المركزية في سراييفو، وإدانة المجتمع الدولي الغربي الذي يعتبرها تهديداً للسلام بالمنطقة.
ومنذ الولاية الثانية لدوديك في رئاسة الوزراء وهو يبرز عداءه الصريح للمسلمين؛ إذ كانت من بين القرارات التي اتخذها تلك الفترة (سنة 2008) عدم ممارسة القضاة البوشناق مهامهم في محاكم الجمهورية، مبرراً ذلك بأنه “من غير المقبول لصرب البوسنة السماح للقضاة المسلمين بالبت في القضايا.. فقط لأنهم مسلمون هم يحملون نظرة عداء لنا ويتآمرون علينا”. وهي ادعاءات أدانتها سفارة الولايات المتحدة بأنها “شوفينية متطرفة”.
غير أن هذا العداء اتخذ نبرة أكثر تصعيداً بسعيه إلى طمس معالم مذبحة سربرنيتسا التي ارتكبتها وحدة صربية معروفة باسم “العقارب” تحت قيادة مجرم الحرب راتكو ملاديتش، وراح ضحيتها أكثر من 8 آلاف بوسني تحت سمع وبصر القوات الأممية.
* “أطلقوا النار في المسجد.. إنه عيد الميلاد”
خطابات الكراهية التي يلقيها دوديك لا تعبر الأثير مجاناً، فالرجل الذي كان متنكراً في صورة سياسي معتدل، ينفخ الآن في نيران التعصب والطائفية بلا هوادة.
خلال عيد الميلاد الشرقي لهذا العام، والذي يحتفل به المسيحيون الأرثوذكس في السابع من كانون الثاني/يناير، أثمرت الدعاوى الإجرامية هتافات شعبية جماعية ضد المسلمين.
في العديد من مدن البوسنة وصربيا يتم ترديد أغنيات تنم عن كراهية للمسلمين وتقول كلماتها: “إنه عيد الميلاد، أطلقوا النار في المساجد”.
وأبناء الأقليات العرقية الذين هربوا خلال الحرب وعادوا بعد معاهدة دايتون للسلام، باتوا يخافون الآن على سلامتهم.
يخشى سكان البوسنة من المسلمين وغيرهم المزيد من التصعيد والاستفزاز.
ففي العاشر من كانون الثاني/يناير 2022، أي بعد يوم من الاستعراض العسكري في بانيا لوكا، تجمع السكان القلقون أمام مقر المندوب السامي للبوسنة والهرسك، المسؤول عن مراقبة الالتزام باتفاقية دايتون، ونادوا بأعلى صوتهم: “عقوبات.. عقوبات”.
أيضاً في العديد من المدن الأوروبية تظاهر المئات مطالبين برد قوي على “مشعلي النار” في البوسنة.
* وحرب أوكرانيا .. تصب الزيت على اللهيب
تقع البوسنة على بعد مئات الكيلومترات من أوكرانيا، ولا تشكل روسيا تهديداً مباشراً لها.
ولكن الأزمة السياسية التي يقودها الصرب الانفصاليون قد تؤدي، بحسب بعض المخاوف، إلى إحياء الصراع المسلح.
المخاوف يثيرها ميلوراد دوديك، العضو الصربي في رئاسة البوسنة المكوّنة من ممثلي ثلاثة أعراق، والذي أعلن العام الماضي أن الكيان الذي يُديره الصرب، أي جمهورية صرب البوسنة (أو صربسكا)، سوف ينسحب من مؤسسات الدولة الرئيسية لتحقيق الحكم الذاتي الكامل داخل البلاد.
هناك إجماع على أن هذه الخطوة انتهاك صريح لاتفاقيات السلام لعام 1995. وبالفعل، أصدر برلمان جمهورية صربسكا سلسلة من القوانين تمكن الكيان من تشكيل مؤسساته شبه الحكومية وجيشه الخاص به بحلول شهر مايو/أيار القادم.
ويقول المحللون إن هذه الحركة الانفصالية تحظى بدعم ضمني على الأقل من موسكو.
إذن موسكو حاضرة في الشقاق القومي على أرض اتحاد البوسنة والهرسك كما تستعرض السطور التالية.
*ساحة أخرى لصراع روسيا مع الغرب .. بعد أوكرانيا
بعد توقيع اتفاق دايتون، استحدثت الأمم المتحدة منصب “الممثل السامي للبوسنة والهرسك”، ومهمته هي الإشراف على التنفيذ المدني لاتفاقية دايتون.
المندوب الجديد المراقب لتطبيق اتفاق “دايتون” للسلام، كريستيان شميدت، بادر بالتحذير من أن الاتفاق الذي وقع في 1995 وأنهى الحرب، معرض لخطر الانهيار بسبب إجراءات “الانفصاليين” الصرب.
وكان الرجل يستعد لتقديم إيجاز لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، لكن المجلس ألغى حضوره بسبب معارضة روسيا، التي لا تعترف بالمنصب، وترى في تعيينه “انتهاكاً للقانون الدولي”.
تتوتر الأوضاع في البوسنة والهرسك، بينما تمر العلاقات الروسية الغربية بأسوأ حالاتها منذ الحرب الباردة، إثر التصعيد في شرق أوكرانيا، وتزايد المخاوف من اجتياح قوات روسيا جارتها الشرقية.
روسيا التي تعرض المساعدات على صرب البوسنة قبل أن يطلبوها، كما قال رئيسهم دوديك: عندما أذهب إلى بوتين لا أكون بحاجة لتقديم مطالب، بل هو الذي يسألني عما يمكن فعله لمساعدتي. الرئيس الروسي لم يخذلني قط عندما قدم لي وعوده، وعلى هذا الأساس ثقتي فيه كبيرة.
روسيا التي تؤيد دائماً “خصوم” أوروبا والغرب في كل مكان، وتؤدي دور “مشعل الحرائق” في القارة العجوز بامتياز منذ عقدين من الزمان تقريباً.
روسيا التي تهدد الآن باستخدام حق النقض ضد قرار تمديد عملية قوة الاتحاد الأوروبي في البوسنة والهرسك (يوفور) المشرفة على تنفيذ “اتفاق دايتون”، ما لم تتم إزالة جميع ملاحظات الممثل الأعلى للبوسنة.. والخضوع لنزعات الانفصال وجنون العظمة في الخطاب السياسي الذي يتبناه دوديك.
التلخيص الدبلوماسي لموقف روسيا الداعم لصرب البوسنة جاء على لسان سفيرها لدى الأمم المتحدة، وهو يزعم أن بلاده ترفض رغبة الاتحاد الأوروبي في لعب دور الوصي على البوسنة والهرسك.
لكن لغة الدبلوماسية لا تتطرق أبداً إلى صلب الحقائق على الأرض.
* جمهورية صربسكا تحت حماية روسيا المباشرة .. الوضع في البلاد متزعزع.
منذ الاستقلال لم تفعل المجتمعات الثلاثة، الصرب والكروات والبوشناق، سوى القليل جداً لدعم المؤسسات الفيدرالية، وزرعت انعدام الثقة.
المفارقة الآن تكمن في أن الدولة الفيدرالية الصربية هي المحرض الرئيسي على عدم الاستقرار في البلاد.
لا أعتقد أن تطور الأحداث سوف يفضي بالضرورة إلى حرب أهلية جديدة تعيد ذكريات الماضي.. لماذا؟
لأنه لا يوجد أي طرف من الأطراف المعنية يسعى بالفعل إلى مواجهة عسكرية. والسؤال الرئيسي هو ما إذا كان الغرب سيسمح أو يتسامح مع جمهورية صربسكا الانفصالية التي ستكون لها علاقات قوية مع روسيا.
هناك مؤشرات قوية على أن روسيا متورطة بطريقة ما؛ لأنها اعتبرت تقسيم يوغوسلافيا “ضربة لمصالحها الوطنية ومجال نفوذها في المنطقة”.
رغم ذلك أستبعد أيضاً تورطاً عسكرياً مباشراً من قبل روسيا، ما لم تتعرض جمهورية صربسكا لتهديد مباشر.
يانيس كوتسوميتيس
محلل في الشؤون الأوروبية/ موقع “الشرق”
* هل هناك حرب جديدة تلوح في الأفق؟
قلة من الأشخاص تؤمن بإمكانية وقوع صراع تاريخي جديد. ففي الوقت الحالي، لا يتوفر ما يكفي من الأسلحة ببساطة، كما لم يتبقّ في البلد عدد كافٍ من الشباب يجعل هذا الاحتمال ممكناً.
“لا يمكنك شن حرب بمجرد بضعة تصريحات. أنت بحاجة لجيش وأسلحة ومال وحلفاء”، كما يلخصها ميلوش سولاجا أستاذ العلوم السياسية في “جامعة بانيا لوكا” البوسنية.
وفي المقابل، إن احتمال نشوب مواجهة مسلحة ليس بعيداً إلى هذا الحد.
المؤشر الأول هو عودة الهواجس القديمة والعصبية القومية إلى الظهور في عدة مناطق من البلاد.
ويحمل كل يوم تقريباً معه أنباء عن أعمال تخريب ضد مساجد في مناطق البوسنة الصرب.
كذلك تظهر بين ليلة وضحاها رسوم وجداريات تمجد راتكو ملاديتش مجرم الحرب البوسني الصربي المسجون مدى الحياة بعد إدانته من محكمة العدل الدولية في لاهاي، بسبب دوره في حصار سراييفو.
* لا أحد يشعر بالأمان في البوسنة
اتحاد البوسنة والهرسك ليس مستعداً لصراع عسكري من أي درجة.
البلاد منهكة بسبب فشل جهود الإصلاح وانتشار الفساد والشلل السياسي الذي يفرضه “الحكم الثلاثي” للبلاد. ثقة الشعب في المؤسسات
في أي بلد آخر، تناقش الخلافات بين مختلف الهيئات على الصلاحيات العامة في المحاكم. ولكن القضاء في البوسنة والهرسك يعتبر مسيساً ومتحيزاً، وقلة من الأشخاص، سواء من الشعب أو الجماعات السياسية، تثق فيه.
ويضاف إلى مشاكل البلد الاستياء والحماس للانفصال في أوساط البوسنة الكروات، الذين يختلفون مع البشناق حول الإصلاحات الانتخابية قبل موعد إجراء الانتخابات الوطنية في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
التكلفة الباهظة لاحتمال عودة النزاع بدأت تظهر.
الآن يتردد البشناق في الاستثمار في البلاد، فيما تطول صفوف طالبي تأشيرات الدخول خارج قنصليات البلدان الغربية.
والخوف ملموس في الأجواء، كما يرصد بورزو درغاهي مراسل الشؤون الدولية لـ”الإندبندنت” البريطانية.
في سراييفو، يتحدث كثيرون عن تأجيل خططهم المتعلقة بشراء شقق أو إنشاء مؤسسات مستقبلية، أو يحاولون جهدهم السفر خارجاً بدل الانتظار كي يروا إن كان السياسيون سيحلون خلافاتهم.
لا أحد يشعر بالأمان في البوسنة، والدليل على ذلك أنه حتى السنة الماضية، لم يكن الناس يجمعون السلاح. ولكن هذا الحال تغير وأصبح هناك تسلح شخصي بين المواطنين.
المبعوث الدولي إلى البوسنة، كريستيان شميت، أطلق تحذيره الأخير في تقريره إلى الأمم المتحدة:
الانقسامات بين الأطراف البوسنية آخذة في الاتساع.
وخطر الحرب أكثر جديَّة.
وأي تعامل غير حاسم مع هذه الأوضاع قد يهدّد اتفاق دايتون، في وقت يتزايد فيه التدخل الخارجي في شؤون البوسنة والهرسك.
ما لم يقله المبعوث الأممي هو أن التلاعب بجراح البوسنة الدامية، وإحياء سنوات الدم المؤلمة لن يكون حدثاً “بوسنياً”.
هناك حريق على مرمى البصر في أوكرانيا، واستقطاب دولي لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية.
وهنا في أوكرانيا كل التعقيدات التاريخية والاجتماعية تدعو الجميع إلى الكثير من الحذر.. فالحريق هذه المرة لا يخص أبناء البوسنة وحدهم كما حدث في حروب القرن الماضي.
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولا تعبر عن راي الموقع