هادي أحمد
السياسية- متابعات:
يعمل الرؤساء الأميركيون السابقون على اعتماد روتين يبعدهم عن الواجهة السياسية كما كانت سابقاً، والتزام عدم توجيه أي انتقاد لخليفتهم. لكن، دونالد ترامب لم يفعل ذلك، بل ظلَّ في تجمعات ومقابلات وخطابات مرتجلة في مارالاغو، مسقط رأسه في فلوريدا، ينتقد الرئيس الحالي جو بايدن، مؤكداً معاناته من “هزيمة انتخابية مدروسة” في عام 2020. وقد أثار مراراً وتكراراً إمكانية العودة عام 2022 في الانتخابات المقبلة، إلى كرسي الرئاسة.

عزز احتمال ترشحه، مداهمة عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، كجزء من تحقيق جنائي، منزله في فلوريدا. كان “يوم آخر في الجنة” حسب مجلة “ايكونومست”، إذ كما يحب، عادت “عيون الأمة الأميركية لتتثبت عليه مرةً أخرى”. وخلفه، احتشد المشرعون الجمهوريون الذين كانوا يبتعدون قبل فترة عن آراءه التي فتكت بالدولة العميقة، حسب الصحيفة.

واليوم، لا شيء في تاريخ الرئيس السابق يشير إلى أنه بدافع من الشعور باللياقة، ناهيك عن العار، سيعلق حملته الانتخابية المقبلة. وبدلاً من ذلك، سيكون لديه سبب أكبر لإثارة عدم الثقة، وحتى الكراهية للنظام القانوني الأميركي، وكذلك إدارة الرئيس جو بايدن.

بعد ما حصل، قدم ترامب نفسه سريعاً ضحيةً “للقوى الحزبية المظلمة” في واشنطن، وهو ما فتح باب التساؤلات حول مستقبل النظام الأميركي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. والخوف من تكرار ما حصل خلال سنوات مضت بيَّنت شرخ العلاقات المجتمعية على نحو كبير، وصل حدَّ القلق المعلن من احتمالات وقوع حرب أهلية في البلاد. حرب بين تيارين، جمهوري وديمقراطي، امتد صراعهما إلى داخل مختلف أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية… وصولاً إلى الأمنية.

الحرب على الـ”FBI”
لأول مرة منذ تأسيسه عام 1908، يتعرض مكتب التحقيقات الفيدرالي لاتهامات داخلية “بالإضطهاد السياسي”، وفي نفس الوقت يلاقي دعوات من داخل “الكونغرس”، لوقف تمويل الوكالة. هذا ما صدر عن النائب الجمهورية مارغوري تايلور غرين التي لاقتها أيضاً، المتحدثة باسم المجلس الوطني الجمهوري، معتبرةً أن عنف الوكالة “ليس له مكان في سياستنا”.

وعليه، اتهم المشرعون والمرشحون الجمهوريون، الوكالة بتنفيذ انتقام سياسي ضد رئيس سابق، مستغلين عداء الحزب الجمهوري المستمر منذ فترة طويلة تجاه أذرع الحكومة الفيدرالية التي يسخر منها ترامب على أنها جزء من “الدولة العميقة” في “جمهورية الموز”. وشبَّه العديد من المسؤولين الجمهوريين تفتيش مارالاغو بعمل “ديكتاتوري” أو حتى “نظام نازي”. لم تهدأ الأمور عند التصاريح الرسمية، بل وصل الأمر إلى تحذير الحزب الجمهوري لجمهوره من الـ”FBI” الذي، حسب تعبيرهم، “يسعى للحصول عليكم”. ونشرت رونا ماكدانيال، رئيسة اللجنة الوطنية للحزب، مقالاً افتتاحياً في “فوكس نيوز”، بعنوان “ترامب مستهدف من قبل إدارة بايدن، ويمكنهم أن يفعلوا ذلك بك أيضاً”.

لم يكن مكتب التحقيقات الفيدرالي الهدف الوحيد لمثل هذا الخطاب، إذ حذروا أيضاً الأميركيين من أن جيشاً من عملاء دائرة الإيرادات الداخلية (IRS) “قادم” من أجلهم، لأن “الديمقراطيين” يسعون لتعزيز تمويل وكالة الضرائب، التي اتُهمت أيضاً أنها تسلح عشرات الآلاف من الموظفين الجدد.

هذا الضخ الإعلامي، أدى إلى محاولة اختراق مكتب ميداني لمكتب التحقيقات الفيدرالي في أوهايو، بالإضافة إلى تعرض العملاء الفيدراليين لعدد هائل من التهديدات. وفي مقابلةٍ يوم الخميس الماضي، أعرب لاري كوزمي، رئيس جمعية ضباط إنفاذ القانون الفيدرالية، عن قلقه من تحذيرات الحزب الجمهوري للأميركيين من أن العملاء الفيدراليين “قادمون من أجلك”. وفي الوقت نفسه، حذَّر من أن خطاب السياسيين يمكن أن يؤدي إلى مزيد من العنف، مشيراً إلى أن الرسائل عبر الإنترنت دعت إلى “قتل عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي”!

يوم الخميس الذي تلى مداهمة منزل ترامب، حاول رجل مسلح يرتدي درعاً واقياً من الرصاص اختراق المكتب الميداني لمكتب التحقيقات الفيدرالي في سينسيناتي. لم يتضح ما إذا كان الحادث مرتبط برد الفعل العنيف على تفتيش ممتلكات ترامب، لكن السلطات عرَّفت المهاجم باسم “ريكي شيفر”. أصيب برصاصة قاتلة بعد مواجهة مع الضباط. ووفقاً للتحقيق، لا يزال العملاء يحققون في علاقات “شيفر” المحتملة بالجماعات المتطرفة، بما في ذلك “الفتيان الفخورون”، الذين يُتَّهم قادتهم بالمساعدة في شن هجوم 6 كانون الثاني/يناير 2021 على مبنى “الكابيتول” الأميركي، من قبل مؤيدي ترامب. وقتها تم استخدام اسم “شيفر” على العديد من منصات التواصل الاجتماعي من قبل شخص تحدث من داخل مبنى “الكونغرس”.

السلطات رفضت التعليق على ما إذا كان “شيفر الجديد” على صلة بتلك الحسابات، لكن، أيضاً وفي وقت سابق من نفس الأسبوع، نشر الشخص الذي استخدم اسم “شيفر” على موقع “Truth Social” دعوة “إلى حمل السلاح” بعد ساعات من تحول تفتيش مارالاغو إلى معلومات عامة على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

ومع ظهور تفاصيل هذا الحادث، حذَّر كوزمي من التهديدات المتزايدة. وقال إن “التهديدات ذات الدوافع السياسية بالعنف ضد مكتب التحقيقات الفيدرالي هذا الأسبوع غير مسبوقة في التاريخ الحديث وغير مقبولة على الإطلاق”. وختم بالقول داعياً السياسيين إلى “توخي الحذر عندما ينتقدون إنفاذ القانون، لأنهم، كما تعلمون، يمكن أن يشعلوا شيئاً ما”!

الجمهوريون: انقسامات وتهديدات بالقتل
يبدو أن ترامب قد رتب سياسة عودته من خلال ادعائه منذ إعلان فوز بايدن، “سرقة النصر الانتخابي” من قبل “مؤسسة فاسدة”. يؤمن 70٪ من الناخبين الجمهوريين بهذا الادعاء، ونفسهم سيدعمونه، حسب استطلاع أجرته “رويترز/إبسوس” بعد حصار مبنى الكابيتول مباشرة. ويقول نشطاء في نفس التقرير إنهم مستعدون لترك الحزب في حالة أي استهانة بزعيمهم. في الوقت نفسه، يدق المشرعون والمرشحون الجمهوريون على جميع المستويات، ناقوس الخطر بشأن “نزاهة الانتخابات” المقبلة. وتشير الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في الكونغرس، المقرر إجراؤها في النصف الأول من عام 2022، إلى أي مدى استسلم الحزب لهذا التطرف.

فمن بين 212 عضواً جمهورياً في مجلس النواب، صوت عشرة أعضاء فقد لصالح عزل ترامب بسبب التمرد السابق، وأعلن أحدهم، بعدما وصله تهديدات بالقتل، عن نيته ترك السياسة. في المقابل، نجحت نانسي مايس في ولاية ساوث كارولاينا، التي عارضت ترامب، بالفوز في الانتخابات، ثم بعد إعلان النتيجة، زارت برج ترامب، كمظهر من مظاهر الولاء له.

قبضة ترامب على حزبه تبدو أكثر إحكاماً من السابق، خصوصاً أنه مُنح، أكثر من أي جمهوري آخر على مر التاريخ، أصوات نحو 74 مليون ناخب، مثبتاً قوته الانتخابية. سريعاً، وبعد المداهمة، أعلن فريقه عن إطلاق حملة لصالح المرشحين المدعومين من قبله، طالباً “من كل أميركي يتمتع بصفات الرجولة ومحب للوطن أن يتقدم” ويتبرع لمحاربة ما وصفوه بأنه “اضطهاد سياسي لا ينتهي”. جمع أكثر من 100 مليون دولار في وقت قصير. عملية أجبرت الجمهوريين الذين عبَّروا في السابق عن خلافات مع الرئيس السابق، إلى الاصطفاف حوله. وحتى رون ديسانتيس، حاكم ولاية فلوريدا الذي يُنظر إليه باعتباره منافس رئيسي على المقعد الرئاسي، خرج سريعاً ليدافع علناً عن ترامب بعد التفتيش.

وبحسب صحيفة “ذا هيل” الأميركية، فإن هناك 4 جمهوريين إلى جانب ديسانتيس. وهم نائب الرئيس الأميركي السابق، مايك بينس، ووزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، وحاكم ولاية ميريلاند لاري هوغان، والسيناتور الجمهوري عن ولاية تكساس، تيد كروز. هؤلاء، لاقوا دعماً جماهيرياً، لكن ظلوا حسب الجماهير، نسخةً عن ترامب. وإذا ما كان موجوداً، لما سيصوت الناس للوكيل بحضور الأصيل، تتساءل الصحيفة.

في المقابل، أبدى مسؤولون رفيعوا المستوى من الحزب الجمهوري اعتراضهم على ترشح ترامب، مقللين من فرصه الواقعية في الفوز. وفي أعقاب جلسات الاستماع على احتجاجات الكابيتول، قال حاكم ولاية نيو جيرسي السابق كريس كريستي إن الناخبين “قلقون” بشأن ما إذا كان ترامب يمكن أن يحقق فوزًا في الانتخابات، مضيفاً: “نريد التأكد من أننا لا نرشح شخصاً قد يكون معيباً بشكل خطير”.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أبدى بعض الجمهوريين انزعاجهم من التحول الحاصل الآن، إذ رأوا ان المداهمة التي جاءت قبل الانتخابات بفترة قصيرة، هي “إعادة تقديم لشخصيته وتأتي في وقت غير مناسب للغاية للجمهوريين”، كما قال مايكل برودكورب، نائب الرئيس السابق للحزب الجمهوري في مينيسوتا. واعتبر أن كل الذي حصل قد يخيب آمال بعض واضعي استراتيجيات الجمهوريين، الذين يتخوفون من أن ذلك سيضع الرئيس السابق، الذي ما زال شخصيةً خلافية، كلاعب مركزي في انتخابات التجديد النصفي الحرجة. وهم يفضلون بأن تركز هذه الانتخابات حصراً على قضايا التضخم وحالة الاقتصاد الأميركي السيئة، لكن حالياً، أصبح ترامب هو العنوان.

القضاء الأميركي تحت النيران
قدرة ترامب على تشويه الواقع كبيرة جداً، لدرجة أن هذا “التصرف النزيه ضده قد يساعده في الواقع على تدمير الجمهورية”، وهو ما أوردته مجلة “ايكونومست” عن ترامب الذي صمد أمام اتهامات عدة، “والآن قد يتعرض النظام القضائي الأميركي لهجوم شرس”، بدأ سريعاً على المدعي العام الأميركي ميريك غارلاند، الذي كان محور غضب الجمهوريين.

تنبأ غارلاند بردة فعل قاسية “ومجنونة”، تتشابه وترامب، بعد تفتيش منزله، ودافع عن وزارة العدل في مؤتمر صحفي، قائلاً إنها تطبق القانون “بالتساوي دون خوف أو محاباة”، لكن الصحيفة الأميركية تساءلت عما إذا كان غارلاند قد اتخذ بنفسه القرار المضي قدماً بإعطاء اذن المداهمة.

وخلصت الصحيفة إلى أنه اذا كان كذلك، فلا بد أن المدعي العام قد خلص إلى اعتبارات قانونية لم تترك له أي خيار. بعدها بيومين، أكد غارلاند إنه وافق شخصياً على قرار طلب المذكرة، وطلب فض ختمها بسبب “مصلحة عامة كبيرة”، خوفاً من تكرار ما حدث سابقاً!

الحرب الأهلية
لم ينس الأميركيون بعد ما حصل في 6 كانون الثاني/يناير 2021، يوم اقتحم أنصار ترامب مبنى الكابيتول الأميركي، في محاولة لقلب نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2020، والتي أسفرت عن نجاح بايدن. وقتها، حذرت وسائل الإعلام الأميركية من حربٍ أهلية، بعد المشاهد التي لم تعتادها المؤسسات الأميركية الرسمية سابقاً.

مساء الاثنين الماضي، كتب ستيفن كراودر، وهو من المؤثرين المؤيدين لترامب، ولديه 1.9 مليون متابع على تويتر، تغريدة قال فيها: “الحرب غداً. ناموا جيداً”. لم يكن الموقف جديداً، إذ كشف مايكل ستيل، وهو أحد منتقدي ترامب ورئيس سابق للجنة الجمهورية الوطنية، أنه قضى هذا الصيف وهو يتنقل في البلاد متحدثاً مع أنصار ترامب. سمعهم أكثر من مرة يتحدثون عن انتظارهم لحرب أهلية مقبلة في البلاد.

 

نرجسية ترامب الآن، حسب مجلة “ايكونومست”، هي أعظم قوة في الحياة العامة الأميركية، والثقب الأسود في مركز سياساتها. واعتبرت أنه بعد تشويهه مبادئ الحزب الجمهوري، وإطاحته بتوازن الحزب الديموقراطي، فإنه نجح بتمزيق مؤسسات الحكم الأميركية. وعليه، أملت المجلة، أن يتمتع حكم القانون، بالقضية الجديدة، بما يكفي من الوزن للنجاة من الصراع مع ترامب الذي اخترق مراراً وتكراراً حدود الخيال السياسي الأميركي.

والآن، تواجه واشنطن احتمال فوز مرشح متهم أو مدان، “أو ربما الأسوأ من ذلك، خسارة تلك الانتخابات”، وحينها “لا نحتاج إلى الاعتماد على التكهنات لتصور المشهد بعد ذلك”، يختم التقرير.

  • المصدر : الميادين نت
  • المادة الصحفية تم نقلها من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع