شارل أبي نادر*

أغلب من تابع مسار التحضير الصاخب لزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركية نانسي بيلوسي لتايوان، والتي حظيت باهتمام عالمي فوق العادة، كان يستبعد حتى اللحظات أو الدقائق الأخيرة حصولها، وكان أغلب هؤلاء المتابعين أيضاً، وحتى اللحظات الأخيرة، ينتظرون مخرجاً دبلوماسياً أو سياسياً لإلغاء هذه الزيارة “اللغم”. 

سبب ذلك الاستبعاد شبه المؤكد يعود إلى المعطيات الآتية: 

1 – حساسية هذه الزيارة بالنسبة إلى الصين، لكونها تضع تايوان بالنسبة إلى واشنطن في مصاف الدولة المستقلة ذات السيادة، تماماً مثل الدول الأربع الآسيوية التي حظيت بزيارة بيلوسي: ماليزيا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية واليابان.

وفي وقتٍ تعدّ هذه الدول على رأس تحالف آسيوي (غير معلن رسمياً) يخاصم الصين أو على الأقل غير قريب منها، تكون تايوان بعد هذه الزيارة طرفاً خامساً ضمن هذا التحالف المعادي للصين.

بمعنى آخر، فيما تعمل الصين على إثبات سيادتها على تايوان، جاءت رئيسة السلطة التشريعية الأميركية، وبزيارة خاطفة، لتخطف تايبيه من حضنها التاريخي وتضعها في قلب جبهة مواجهة الصين الأكثر تأثيراً فيها.

2- التصريحات الصينيّة الرافضة للزيارة، وخصوصاً تلك التي قالها الرئيس الصيني إلى نظيره الأميركي مباشرة، أوحت بسبب تشددها غير المسبوق بأن الصين سوف تذهب بعيداً في منع الزيارة، ولو تطلب الأمر مواجهة عسكرية مباشرة مع الأميركيين، إضافةً طبعاً إلى حتمية تنفيذ أعمال صينية عسكرية وميدانية ضد تايوان ومضيقها، وإلى مناورات بكين الحالية في كل المنطقة المحيطة بتايوان وبمضيقها الاستراتيجي بحراً وجواً، وفي كل الاتجاهات، وبمستويات عالية من الأسلحة والقدرات العسكرية توحي بأن بكين كانت مستعدة للذهاب بعيداً جداً.

3- التردد الأميركي الذي ظهر على خلفية الإعلان عن إمكانية حصول الزيارة، ولاحقاً على خلفية التحضير لها، وتحديداً تحفظ البيت الأبيض ومسؤولي الأمن القومي والبنتاغون عن الموضوع، أوحى بأن الانقسام الأميركي الرسمي (الظاهر) حول الزيارة سوف يشكّل عاملاً أساسياً لإلغائها، لكون كل هؤلاء المسؤولين من المفترض أنهم فهموا، على الأقل من الناحية العسكرية، حساسية الموضوع وخطورته وموقف الصين منه، والذي لن يكون سهلاً أبداً.

من هنا، وفيما لم تؤدِّ كلّ هذه المعطيات إلى إلغاء الزيارة التي حصلت بحسب البرنامج المقرر من دون أي تغيير أو تعديل، كيف يمكن أن يفسر الموضوع لناحية الموقف الصيني؟ وكيف يمكن أن يكون رد بكين؟

من غير المنطقي أو الطّبيعي بتاتاً أن تتجاوز الصين الأمر، وتعتبر أن الزيارة، كما ادّعى البيت الأبيض، حصلت رغماً عنه، وأنَّ لرئيسة السلطة التشريعية الأميركية قرارها المستقل ولا يمكن التأثير فيه.

يعتبر المسؤولون في بكين، وربما الكثيرون في العالم، أن تبادل الأدوار بين مسؤولة الكونغرس الديمقراطية وإدارة الرئيس الديمقراطي ساهم في إخراج “المسرحية – الزيارة”، بهدف وضع الصين في موقف ضعيف، وبهدف إحراجها في الملف الاستراتيجي الأكثر حساسية الذي يشكل نواة الصراع الأميركي – الصيني.

لذلك، سيكون من الصعب على بكين تقبّلها. وفي الوقت نفسه، سيكون من الصعب عليها اتخاذ إجراءات “متهورة” قد تدحرج الأمور إلى ما لا يمكن ضبطه بين الطرفين الأكثر قدرة على إشعال آسيا كلها بنار مواجهة مدمرة، وفي منطقة هي الأكثر حساسية وخطورة وأهمية في العالم حالياً، والتي قد تفوق بحساسيتها شرق أوروبا وأوكرانيا.

حتى الآن، يبدو أن الصين بدأت تؤسس لتحرك عسكري ميداني انطلاقاً من الانتشار الواسع لوحداتها البحرية والجوية في مضيق تايوان، وفي الأجواء والمياه المحيطة بالجزيرة من كل الاتجاهات، وانطلاقاً من وضعية انتشار وحداتها ضمن مناورة واسعة كانت قد أطلقتها منذ أيام، وستظل مستمرة، كما يبدو، لوقت غير محدد، وخصوصاً في اتجاه جنوب الجزيرة وجنوب شرقها، حيث الامتداد البحري مع بقعة الاشتباك الحساسة في بحر الصين الجنوبي، وحيث تتمركز حاملة الطائرات الأميركية “يو إس إس رونالد ريغان”، المحاطة أو المحمية بمجموعة قتال بحري وجوي من عشرات السفن العسكرية، من مدمرات وقاذفات صواريخ، والتي كانت قد تحركت شمالاً في الآونة الأخيرة، وخلال الأيام الأخيرة التي سبقت الزيارة، نحو المناطق البحرية الجنوبية لتايوان ومضيقها.

ما يظهر حتى الآن من التحركات الصينية أن هناك أكثر من هدف تعمل وحدات بكين على تنفيذه. هذه الأهداف يمكن حصرها بتنفيذ انتشار بحري واسع في مضيق تايوان كله، وخلال مدة زمنية غير محددة، يعمل على ضبط الحركة البحرية في المضيق، التجارية أو العسكرية، من خلال إجراءات تفتيش وتوجيه تشبه ما تقوم به هذه الوحدات في محيط جزر باراسيل وسبراتلي في عمق بحر الصين الجنوبي، بحيث تُتَرجم هذه الإجراءات عملياً بأنَّ هناك سيطرة صينية تامة على الحركة البحرية في المضيق.

أيضاً، وانطلاقاً من اليوم، من المنتظر أن تقوم الوحدات الجوية الصينية بتنفيذ جدول طيران متواصل في الأجواء المتاخمة مباشرة للأجواء التايوانية فوق الجزيرة، ليتطور هذا الجدول يوماً بعد يوم أو ساعة بعد ساعة، بحيث يدخل أكثر وأكثر فوق الجزيرة مباشرة، تبعاً لرد الفعل التايواني الذي سوف يكون مُراقَباً ومتابَعاً بشكل دقيق وفعال من كل وسائل التدخل والإطلاق الصينية؛ البحرية والجوية والصاروخية البعيدة.

من هنا، وانطلاقاً من هذه الإجراءات العسكرية والميدانية البحرية والجوية الصينية التي لن تكون مدة تنفيذها محددة بوقت معين، بل ستكون مفتوحة في التوقيت على كل الاحتمالات، تكون الصين قد وضعت موضع التنفيذ مخطط إنهاء انفصال تايوان وإعادتها إلى حضنها رويداً رويداً.

كذلك، تكون الصين في الوقت نفسه قد وضعت واشنطن أمام مسؤوليتها وأمام مصداقية كلامها الرسمي بأنها تحترم “مبدأ صين واحدة”، كما تدَّعي دائماً، وتكون بيلوسي بزيارتها، التي اعتقد الأميركيون أنهم كسروا الصين من خلالها، ساهمت في إنهاء انفصال تايوان، وأهدَت بكين التبريرَ الذي كانت تنتظره منذ عشرات السنوات.

* المصدر :الميادين نت

* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع