كيف طور بوتين العقيدة العسكرية للجيش الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؟
السياسية:
في خضم الحرب الروسية الدائرة في أوكرانيا، من المهم التفكير في طبيعة وتطور العقيدة العسكرية للجيش الروسي ومعالجتها لمسألة الأمن القومي وشن الحروب. وبنيت العقيدة الروسية بعد الحرب العالمية الأولى وتطورت على مراحل عدة، حتى وصلت إلى عهد الرئيس فلاديمير بوتين الذي قام بتحديث الجيش الروسي ومنهجيته بالكامل داخلياً وخارجياً آخر مرة في عام 2014، كردة فعل على اتخاذ أوكرانيا خطوات للانضمام إلى حلف الناتو.
ويتمثل العنوان الأبرز في العقيدة الجديدة للجيش الروسي التي وضعها بوتين، في اعتبار أن توسع حلف شمال الأطلسي “الناتو” يعد واحداً من الأخطار الخارجية الرئيسية على البلاد. كما تنظر العقيدة الجديدة بقلق إلى “تعزيز القدرات الهجومية للحلف الأطلسي على أبواب روسيا مباشرة، والإجراءات التي اتخذها لنشر منظومة شاملة مضادة للصواريخ”.
ما هي العقيدة العسكرية وكيف تطورت لدى الجيش الروسي؟
تعتبر العقيدة العسكرية بشكل عام، مجموعة من المفاهيم المتبناة رسمياً في دولة ما، والترتيبات المتخذة لمواجهة التهديدات المحتملة ولضمان أمن البلاد، وكذلك لمنع الحروب والنزاعات المسلحة. وتعتبر العقيدة العسكرية في جوهرها إعلاناً حول سياسة الدولة في مجال الدفاع.
وفي روسيا، تعتبر العقيدة العسكرية واحدة من وثائق التخطيط الاستراتيجي الرئيسية، وتتطرق العقيدة العسكرية بالمفهوم الروسي بالنقاش لما وراء التهديدات المحتملة على البلاد، والتي تغطي الأهداف وطبيعة الحرب المتوقعة واستعدادات البلاد وقواتها المسلحة لمثل هذه الحرب، وطرق شنها.
ومنذ عهد ما بعد الثورة البلشفية، لم يتغير تعريف العقيدة العسكرية للجيش الروسي حتى قيادة ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم للاتحاد السوفيتي، عندما كانت المفاهيم العملياتية تابعة للبعد الاجتماعي والسياسي.
ومنذ نشأة الاتحاد السوفيتي، حددت الموسوعة العسكرية السوفيتية الحرب على أنها “ظاهرة اجتماعية – سياسية”، مستعيرة مصطلحات من فكر الزعيم المؤسس فلاديمير لينين. وبعد الثمانينيات، بدأت العقيدة العسكرية الروسية تأخذ معنى اجتماعياً سياسياً في الغالب، ومع هذا التحول، سعت إلى معالجة دور روسيا في العالم، ودور القوات المسلحة داخل نظامها الحكومي، وموقفها النووي، كما يقول تقرير لمجلة National Interest الأمريكية العسكرية.
وتغيرت العقيدة العسكرية الروسية لما بعد الاتحاد السوفيتي من خلال تحديد الجيش كمؤسسة دفاعية بحتة لها دور شرعي في النزاعات المسلحة الداخلية. وهدفت العقيدة في عهد غورباتشوف إلى حل فشل وعجز وزارة الشؤون الداخلية عن مواجهة الانتفاضات في تبليسي وجورجيا وباكو بأذربيجان، حيث تم استخدام الجيش لقمع السكان بعنف. لذلك، سعت الدولة لإضفاء الشرعية على دور الجيش داخل حدود الاتحاد السوفيتي السابق.
بينما كان الاتحاد السوفييتي مهتماً بشكل أساسي بالمسائل الأيديولوجية، اهتمت العقيدة العسكرية لروسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي أكثر بـ”التهديدات” داخل حدود الاتحاد السوفيتي السابق وحلفائه، خاصة بعد تدخل الناتو في يوغوسلافيا.
ما بعد الحرب العالمية الأولى
في السابق كانت العقيدة العسكرية السوفيتية أكثر اهتماماً بالمسائل العملياتية. خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، أحدثت مجموعة من الضباط العسكريين السوفييت البارزين ثورة في دراسة وممارسة الشؤون العسكرية. بينما بدأ هؤلاء الضباط حياتهم المهنية في الجيش الإمبراطوري الروسي، قادهم تفكيرهم المبتكر إلى تكوين استنتاجات جديدة بناءً على التطورات التكنولوجية والصناعية في ذلك الوقت.
في بيئة جديدة سمحت بالتعبئة الهائلة، صاغ هؤلاء الضباط الروس مفهوماً أصبح يُعرف بالفن التشغيلي، والذي سعى إلى سد الفجوة بين الإستراتيجية والتكتيكات. وعلى الرغم من أنه ليس مفهوماً جديداً، كما يقول خبراء ومؤرخون، إلا أنه لم يتم تطويره وتحديده بهذا الوضوح.
بعد الحرب العالمية الأولى، خلص هؤلاء الضباط إلى أن المتحاربين في الحرب قد دخلوا في الصراع دون فهمه أو تقييم التغييرات التي حدثت. ونتيجة لذلك، واجهت هذه الدول الحرب بأساليب وإجراءات قديمة. بالنسبة لهؤلاء الضباط السوفييت، كان من الضروري إيجاد حلول عسكرية لمشكلة محدودية الحركة والقدرة على المناورة في ساحات القتال الراكدة.
وشرح فلاديمير ترياندافيلوف القائد العسكري العسكري والمنظر السوفيتي المعروف، الذي يعتبره كثيرون “أباً للفن العملياتي السوفييتي”، مفهوم العملية العميقة، والتي تتكون من هجمات متزامنة على جميع دفاعات العدو بواسطة القوة الجوية والمدفعية، إلى جانب اختراق أراضي العدو من قبل الوحدات المدرعة لمحاصرة المدافعين وتدميرهم.
ولكن عندما وصل جوزيف ستالين إلى السلطة، سعى إلى القضاء على التحديات التي تواجه حكمه، وتطهير الجيش الأحمر من المفكرين الذين أحدثوا ثورة في النظرية العسكرية. بالطبع، تزامن التطهير مع بداية الحرب العالمية الثانية وهدد وجود الاتحاد السوفييتي. ومن المفارقات أن الحرب الخاطفة التي شنتها ألمانيا النازية في جميع أنحاء أوروبا كانت لها العديد من أوجه التشابه مع الأفكار العسكرية التي تبناها الضباط السوفييت المطهرون، بما في ذلك المفهوم السوفيتي للعملية العميقة.
وعندما غزت ألمانيا الاتحاد السوفيتي، لم يكن الجيش الأحمر قادراً على وقف تقدمه أو تنظيم دفاع فعال عن أراضيه. لكن القيادة العليا السوفييتية بدأت في إصدار لوائح وتوجيهات جديدة بناءً على الخسائر العسكرية التي كان الجيش الأحمر يعاني منها. من خلال تطبيق مفهوم العملية العميقة، تمكن الجيش الأحمر من تحقيق انتصارات في معارك ستالينجراد وكورسك.
وحقق الجيش الأحمر تلك الانتصارات من خلال تعديل تنظيمه، وتكييفه مع قوة مشتركة من الوحدات الآلية والمدفعية، ودمج وحدات المشاة لتحقيق قدرة هجومية أكبر على جبهات محددة وبالتالي اختراق الخطوط الدفاعية للعدو. وكان الهدف هو اختراق دفاعات العدو التكتيكية والأمامية ثم استخدام قوات صدمة جديدة لاستغلال المناطق الداخلية حتى تطوق الوحدات الآلية والمدرّعة العدو.
المفهوم النووي في العقيدة العسكرية الروسية
بعد الحرب العالمية الثانية، قوض إدخال الأسلحة النووية مفهوم كلاوزفيتز للحرب كسياسة بوسائل أخرى، وأنتج تغييراً صارخاً في العقيدة العسكرية السوفييتية. وأوضح المارشال فاسيلي سوكولوفسكي ذلك بشكل أفضل بالقول إن الصراعات المستقبلية سيكون لها طابع نووي أساسي، وأن الأسلحة النووية ستلعب دوراً حاسماً في ساحة المعركة.
وبدأ التفكير العسكري السوفييتي في إعطاء الأولوية للأسلحة النووية على المناورات التشغيلية، متناسياً أنه كان تطبيقاً للفن التشغيلي الذي مكّن الاتحاد السوفييتي من تحقيق النصر على ألمانيا النازية. فقدت هذه المفاهيم العملياتية أهميتها؛ لأن الأسلحة النووية أصبحت الطريقة الرئيسية لتدمير العدو.
وبالنسبة للعقيدة العسكرية السوفيتية، أعطيت الأسلحة النووية أولوية أكبر في التخطيط الاستراتيجي بينما تم إبعاد المفاهيم العملياتية إلى مصدر قلق ثانوي. وهكذا، أصبح الفن التشغيلي يعتمد على الحرب النووية.
أنشأ الاتحاد السوفيتي القوات الصاروخية الاستراتيجية، وسعى إلى تقليل حجم أفراده العسكريين، متطلعاً إلى تفريقهم لجعلهم أقل عرضة لهجوم نووي. في الثمانينيات، حاول المارشال نيكولاي أوجاركوف العودة إلى المفاهيم العملياتية بالقول إن الحرب النووية لم تكن طريقة عقلانية لتحقيق أهداف سياسية، وبدلاً من ذلك كانت هناك حاجة إلى تعزيز القدرات التقليدية، وسعى أورجاكوف لتوسيع الفرق الجوية والميكانيكية والمصفحة.
مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي
مع ذلك، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ورث الجيش الروسي متطلبات الحرب النووية وخفضت موارده التقليدية. كانت الأسئلة المتعلقة بالعقيدة العسكرية الروسية غير واضحة، ونشأت مناقشات بين مختلف المسؤولين. أولئك الذين تبعوا الجنرال فلاديمير سليبتشينكو أعطوا الأولوية للتكنولوجيا على القوات البرية، بينما جادل المسؤولون الذين تابعوا الجنرال محمود غاريف بأنه من المستحيل كسب حرب بالاعتماد على الصواريخ الباليستية والأسلحة الموجهة بدقة.
بعد ترقيته إلى منصب رئيس الأركان العامة في عام 2012، أعلن العديد من المحللين الغربيين أن الجنرال فاليري جيراسيموف هو “أب” للحرب الروسية الهجينة، والمعروفة أيضاً باسم عقيدة جيراسيموف، وهي عقلية متجذرة بشكل معتدل في التقاليد العملياتية السوفييتية، وخلط العديد من المحللين الغربيين الأفكار التي تبناها في عام 2012 مع المناقشات الغربية حول تحول الحرب التي نوقشت في الأوساط الأكاديمية منذ التسعينيات.
الجنرال فاليري جيراسيموف، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية ونائب وزير الدفاع الأول/ Getty
لكن ما كان يحاول جيراسيموف فعله هو الإشارة إلى المفهوم الروسي التقليدي للحرب غير الخطية، والذي يشير إلى استخدام كل من القوات النظامية وغير النظامية جنباً إلى جنب مع العوامل النفسية والاقتصادية والوسائل الدبلوماسية، والمفهوم التقليدي للعملية العميقة، الذي يقوم على جهد منهجي ووطني يجمع بين العناصر الدبلوماسية والاجتماعية والعسكرية.
“إذا أردت السِّلم فاستعد للحرب”
في حين أن العقيدة العسكرية الروسية لعام 2014 تشبه النقاشات الغربية حول تحول الحرب، فقد أظهر جيراسيموف أنه من المرجح أن يضع أفكاراً من الحقبة السوفييتية موضع التنفيذ، مثل الردع النووي، وتطوير صواريخ تفوق سرعة الصوت، واستمرار قوة احتياطية، بدلاً من تنفيذ إصلاحات وزير الدفاع السابق أناتولي سيرديوكوف، الذي حاول تحويل الجيش الروسي من جيش مجند إلى جيش محترف بعد الإخفاقات العسكرية في جورجيا.
وفيما يتعلق بالتعبئة، يتماشى جيراسيموف مع حقبة بريجنيف أكثر مما يتماشى مع نوع من الجيل الجديد من الحروب. ومع ذلك، من المستحيل إنكار أن الجنرال جيراسيموف كان له تأثير كبير على الحرب في أوكرانيا. حتى الآن، تعكس البيئة القتالية في أوكرانيا تجربته كضابط دروع يدعم بقوة الحرب الآلية والمدفعية واستخدام الصواريخ والقوة الجوية لتحقيق الأهداف.
وركّزت العقيدة العسكرية الروسية الجديدة على مجموعتين من الأخطار التي تهدد الكيان الروسي: داخلية وخارجية. وأدخلت العقيدة الروسية الجديدة مفهوم “الردع غير النووي” الذي يرتكز على “الاحتفاظ بقوات عسكرية ضاربة” بحالة من الجهوزية العالية. وهذه القوات يجب أن تكون مزودة بأسلحة تقليدية متطورة لمنع أي حادث قد يشعل الحرب.
ويقضي مفهوم “الردع غير النووي” ببقاء القوات العسكرية التقليدية في حالة استعداد عالية، والالتزام حيال منظمات الأمن الإقليمية مثل مجموعة الدول المستقلة ومنظمة شنغهاي للتعاون. إلا أن روسيا تحتفظ لنفسها بالحق في استخدام ترسانتها النووية إذا ما تعرضت هي أو أحد حلفائها لعدوان، أو في حال وجود “تهديد لوجود الدولة نفسه”.
ونصت الوثيقة أيضاً على أن إحدى المهمات الرئيسة لقواتها المسلحة في وقت السلم، هي “حماية المصالح الوطنية لروسيا في القطب الشمالي”، وهي منطقة استراتيجية تحتوي كميات كبيرة من النفط والغاز، وتنازعها عليها الولايات المتحدة وكندا والنرويج والدانمارك.
ويبدو أن العقيدة الجديدة لبوتين تم ترجمتها ضد الغرب في الحرب الروسية على أوكرانيا. وقبيل الحرب بأشهر، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن بلاده “لا تريد عزل نفسها عن العالم، ولكنّها تتحرّك من منطق الاستعداد لأيّ تطوّر”. وأضاف: “موقفنا ينطلق من التالي: إذا رأينا مرّة أخرى، وكما شعرنا مراراً، أنّ هناك تهديدات تشكّل خطراً على بلادنا فيجب أن نكون مستعدّين لذلك”. وأردف المقولة اللاتينية القديمة: “إذا أردت السلم فاستعدّ للحرب”.
المصدر: عربي بوست