السياسية:

وصف بوريس جونسون، قبل 10 سنوات، “محامي لندن”، بأنهم الحل الأمثل للأوليغارشيين الروس، لكنه يرى الآن أنه لابد من وضع حد “لحرب القانون” التي تخدم رجال بوتين وتحميهم.. فما القصة؟

صحيفة The Financial Times البريطانية نشرت تقريراً عنوانه “حرب القانون في لندن.. كيف ساعد المحامون كبار الأثرياء الروس؟”، تناول بعضاً من أجزاء الإجابة عن هذا السؤال؛ إذ يبدو أنه من المستحيل الكشف عن التفاصيل الكاملة للقصة.

كان الغرب قد فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا بسبب الهجوم على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة، بينما يصفه الغرب بأنه غزو. وطالت تلك العقوبات ثروات الأثرياء الروس الذين يشار إليهم بوصف الأوليغارشيين أو رجال بوتين؛ ما طرح تساؤلات مهمة حول تلك الثروات، وأين يتم إخفاؤها ومن يساعدهم!!

لكن النخب الروسية اعتادت، على مدى عقود من الزمان، إخفاء أموالها بالخارج، وفي كثير من الأحيان كانت تفعل ذلك لصالح الكرملين، بحسب تقرير لموقع Quartz الأمريكي، ووفقاً لمركز الأبحاث الأمريكي، Atlantic Council، يتحكم الرئيس فلاديمير بوتين وشركاؤه في نحو ربع ما يُقدَّر بتريليون دولار من الأموال السرية الروسية المخبأة خارج البلاد.

القانون البريطاني يخدم الأوليغارشيين الروس
بالنسبة للأوليغارشيين الروس الساعين لإسكات المعارضين، فإنَّ النظام القانوني الإنكليزي أشبه بـ”أكبر وأقوى مضرب يمكنك التقاطه والضرب به”.

وبالنسبة لكبار محامي لندن وشركاتهم، تُترجَم القضايا التي يجلبها لهم المليارديرات الروس، وغالباً ما تتعلَّق بقضايا مثل التشهير المزعوم وحماية البيانات، إلى أرباح ضخمة. لكنَّ المعادلة تغيَّرت عقب الهجوم الروسي على أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط الماضي.

إذ أدَّى فرض المملكة المتحدة لعقوبات على عشرات الأثرياء الروس إلى جعل مباشرتهم للإجراءات القانونية في المحاكم البريطانية، أو استخدام شركات المحاماة البريطانية، أكثر صعوبة بكثير، وبات الأمر يتطلَّب الآن إذناً حكومياً خاصاً لتمثيل هؤلاء الموكِّلين.

كما شهدت الأشهر الأخيرة تحولاً حكومياً من الترحيب بالإجراءات القضائية للأوليغارشيين إلى إدانة “الحرب القانونية”، التي تعني إساءة استغلال الإجراءات القانونية لسحق المعارضين.

ومنذ بدأت الحرب، خضع العمل الذي قامت به شركات مثل CMS وHarbottle & Lewis وCarter-Ruck لصالح المليارديرات الروس لتدقيق متزايد من جانب المشرعين، في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وأصبحت الشركات نفسها أكثر حذراً في قبول عملاء جدد، وألغت في بعض الأحيان التعاملات مع روسيا.

كان بيل براودر، وهو مستثمر رائد في روسيا تحوَّل إلى منتقد للكرملين، شرساً ومتسقاً في تصريحاته بشأن الإجراءات القانونية السابقة في لندن، والتي يقول إنَّها ترقى إلى كونها ضغوطاً غير ملائمة من جانب الدولة الروسية، وهي وجهة نظر باتت الحكومة البريطانية الآن تؤيدها.

وفي مارس/آذار الماضي، قال رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون: “بالنسبة للأوليغارشيين وكبار الأثرياء الذين يمكنهم تحمُّل هذه النفقات الباهظة، أصبح التهديد باتخاذ إجراء قانوني نوعاً جديداً من حرب القانون، وعلينا أن نضع حداً لتأثيرها المروع”.

وتمثل تصريحات جونسون تلك تناقضاً صارخاً عند مقارنتها بتصريحات أطلقها جونسون نفسه عام 2012، حين كان يتودد إلى كبار الأثرياء الروس، قائلاً: “إذا ما شعر أحد الأوليغارشيين بأنَّ أوليغارشي آخر شهَّر به، فإنَّ محامي لندن هم مَن يضعون البلسم الضروري على الذات”.

لندن الملاذ الآمن لأثرياء روسيا
على مدى العقد الماضي، جذبت لندن الأثرياء الروس وحلفاء الكرملين لاتخاذ إجراءات قانونية ضد منتقدي فلاديمير بوتين، لاسيما براودر، الذي كان سابقاً أكبر مستثمر أجنبي في روسيا؛ ففي عام 2013، جرت مقاضاته بالتشهير من جانب بافل كاربوف، وهو رجل شرطة روسي سابق، ومثَّلته شركة المحاماة Olswang، التي باتت الآن جزءاً من شركة CMS.

واصطدم براودر مع موسكو بعدما كشف مدقق حساباته، سيرغي ماغنيتسكي، غشاً ضريبياً هائلاً من جانب مسؤولين روس، فما لبث أن اعتُقِلَ ومات في سجن روسي عام 2009.

وادَعى كاربوف أنَّ موقع براودر الإلكتروني أشار إلى أنَّه ضالع في “تعذيب ووفاة” ماغنيتسكي، لكنَّ القاضي بيرجرن سيمون رفض الدعوى في 2013 بعدما حَكَمَ بأنَّ كاربوف ليس لديه سُمعة في بريطانيا كي يدافع عنها.

صوَّر براودر الإجراء القانوني باعتباره جزءاً من حملة أوسع من جانب الكرملين؛ لتشويهه هو وتشريع حقوق الإنسان الذي جرى تمريره باسم ماغنيتسكي في الولايات المتحدة، وأخيراً في العديد من البلدان الأخرى.

وفي عام 2017، واجه براودر دعوى مدنية ثانية في لندن، ومثَّلت شركة CMS نوغوتكوف كيريل أوليغوفيتش، وهو مسؤول تصفية (مالية) روسي قاضاه على خلفية إفلاس شركة روسية كانت مرتبطة ببراودر سابقاً.

وقاضى الملياردير الروسي ميخائيل فريدمان وزميلاه بيرت أفين وجيرمان خان منتقداً آخر للكرملين، هو الجاسوس البريطاني السابق كريستوفر ستيل.

وتركَّزت القضية حول مزاعم تتعلَّق بالرجال الثلاثة في ملف يعود لعام 2016 يُفصِّل علاقات دونالد ترامب المزعومة مع روسيا، وكانت قد أعدَّته شركة ستيل Orbis Buiness Intelligence.

ومجدداً، كان لشركة CMS دور محوري في الإجراءات. وفاز الرجال الثلاثة، الذين كانوا يحصلون على المشورة من جيرالدين براودلر من شركة CMS والمحامي بالقضاء العالي هيو توملينسون، بالقضية بعدما وجدت المحكمة العليا أنَّ الملف احتوى على بيانات شخصية غير دقيقة.

معارك قانونية هدفها إسكات المعارضين
سعى المليارديرات الروس أيضاً لاستخدام قوانين التشهير والخصوصية وحماية البيانات البريطانية لمنع الصحفيين من تسليط الضوء على أنشطتهم. ويقول المنتقدون إنَّ ادعاءاتهم كثيراً ما ترقى إلى ما يُسمَّى بـ”الدعاوى القضائية الاستراتيجية ضد المشاركة العامة”، وهي محاولات لترهيب المنتقدين من خلال التقاضي المُكلِّف.

وأعقب نشر تحقيق “Putin’s People” (أناس بوتين) العام الماضي موجة من الدعاوى القضائية، وهو تحقيق أجرته الصحفية كاثرين بلتون لدى صحيفة The Financial Times البريطانية، عن نظام الرئيس الروسي وصعوده إلى السلطة.

إذ لجأ فريدمان وأفين إلى شركة CMS، التي رفعت دعوى تشهير وحماية بيانات ضد ناشر الكتاب دار HarperCollins. ورفع رومان أبراموفيتش، الملياردير الذي سيتعرَّض لاحقاً لعقوبات هذا العام، دعوى تشهير خاصة به ضد الناشر، بالإضافة إلى بلتون، واستعان بتوملينسون وشركة Harbottle & Lewis.

ورفعت شركة النفط الحكومية الروسية Rosneft (روزنفت)، تُمثِّلها شركة المحاماة Carter-Ruck، دعوى تشهير ضد بلتون ودار HarperCollins. وقد سُوِّيَت كل هذه الدعاوى أو سُحِبَت.

تقول جيسيكا ني مهاينان، من منظمة “مؤشر الرقابة”، التي تدعم حرية التعبير، إنَّ قضايا مثل قضية بلتون هي “رأس جبل الجليد”، ولا تصل الكثير من الدعاوى القانونية إلى المحكمة.

وقالت مهاينان إنَّه يمكن لكبار الأثرياء استخدام التهديد بالتقاضي اللانهائي، والتكاليف القضائية، للضغط على النشطاء أو الأكاديميين أو الصحفيين، الذين يمكن أن يواجهوا انهياراً مالياً، إذا انخرطوا في إجراءات الدفاع في قضية تشهير.

كما استخدم الأوليغارشيون المليارديرات كبرى شركات المحاماة في لندن لتصفية الحسابات مع بعضهم في المحكمة العليا بالعاصمة؛ ففي عام 2011، قاضى بوريس بيريزوفسكي، تنوب عنه شركة Addleshaw Goddard، دون جدوى، رومان أبراموفيتش، تنوب عنه شركة المحاماة Skadden Arps، في محاكمة بالمحكمة العليا كلَّفت 6.5 مليارات دولار، سلطت الضوء على رأسمالية “الشرق الجامح” الروسي في التسعينيات.

كان أوليغ ديريباسكا، قطب المعادن الروسي الذي فرضت المملكة المتحدة عقوبات عليه في مارس/آذار الماضي، نشطاً أيضاً في المحكمة العليا بلندن؛ ففي عام 2018، تورطت شركة Rusal، التي كان يسيطر عليها آنذاك ديريباسكا، في معركة قضائية مع الملياردير فلاديمير بوتانين، الذي لا يخضع للعقوبات البريطانية أو الأمريكية، كجزء من صراع من أجل السيطرة على شركة Norilsk Nickel، وهي شركة لإنتاج النيكل والبلاديوم.

هل يتم وضع نظام قانوني جديد؟
أشار بعض المشرعين إلى المحامين والشركات التي يقولون إنَّها تساعد حلفاء الكرملين. واستخدم النائب البريطاني المحافظ بوب سيلي الامتياز البرلماني في مارس/آذار الماضي لتسمية شركات المحاماة المختصة في مجال الإعلام Harbottle & Lewis وCarter-Ruck وCMS، فضلاً عن توملينسون، المحامي البارز.

وحثَّ السيناتور الأمريكي، ستيف كوهين، الشهر الماضي، مايو/أيار، إدارة بايدن على فرض حظر سفر إلى الولايات المتحدة على المحامين البريطانيين الكبار، الذين ادَّعى كوهين أنَّهم “جهات تمكين أجنبية للأوليغارشيين الروس”.

يجادل الكثيرون في مهنة المحاماة بأنَّه جرى انتقادهم بصورة ظالمة، وأشاروا إلى أنَّ المحامين يخضعون لإجراءات تنظيمية كبيرة، وأنَّ المحاكم لديها ضمانات ضد الدعاوى القضائية غير المُستحِقة.

مع ذلك، فإنَّ الخلفية آخذة في التغيُّر؛ فشركة CMS على سبيل المثال لم تعد تقبل توجيهات من كيانات موجودة في روسيا.

قال توني ويليامز، وهو شريك إداري سابق لشركة Clifford Chance: “كان هذا اتجاه جارٍ بالفعل حتى قبل الغزو الروسي بسبب التغيُّرات في المجتمع”، مضيفاً أنَّ أرباح الشركات الكبرى أكثر اعتماداً على مجالات مثل العقارات ومجال الاندماج والاستحواذ من الاعتماد على عمليات التقاضي الروسية.

في غضون ذلك، أطلق دومينيك راب، نائب رئيس الوزراء البريطاني ووزير العدل، استشارة بشأن إصلاح قانون التشهير في البلاد، الذي كثيراً ما انتُقِدَ باعتباره محابياً للمُدَّعين، لدرجة أنَّه يحول دون حرية التعبير. وقد انتهت الاستشارة في 19 مايو/أيار.

وحدَّثت “هيئة تنظيم المحامين”، التي تحكم سلوك المهنة، التوجيهات لشركات القانون، مُحذِّرةً في مارس/آذار الماضي من مباشرة التقاضي لأغراض غير لائقة، وتقديم مزاعم بلا أساس، والتي تقول إنَّها “قد تنشأ بسبب التضارب مع مصلحة المحامي الخاصة لتوليد الدخل من الرسوم”.

ويؤكد تريفور كلارك، المحاضر في مهنة المحاماة بجامعة ليدز، أنَّه في حين ينبغي على المحامين التصرف لصالح مُوكِّليهم، فإنَّهم “مُلزَمون أيضاً بموجب قانونهم المهني بالتصرف بنزاهة، وعدم استغلال الأطراف الثالثة”.

وأحد الأمثلة التي يُقدِّمها هي في حال وجود “عدم تكافؤ في الموارد”، مثل القضايا التي تضع الأوليغارشيين في مواجهة أشخاص قد يعني الإجراء القانوني الإفلاس بالنسبة لهم.

المصدر: عربي بوست