كيف تحول اليمين الفرنسي المتطرف من قوة منبوذة بسبب عمالته لهتلر لتيار يُملي على حكام البلاد سياستهم؟
السياسية:
ارتبط اليمين المتطرف في فرنسا بالعمالة للنازية، حيث لم تتقلد حكومةٌ يمينية متطرفة الحكمَ في فرنسا إلا مرة واحدة، وكانت تلك المرة في الحقبة المظلمة التي هيمن فيها الاحتلال النازي على البلاد خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن اليوم بات تأثير اليمين المتطرف ممتداً في أروقة السياسة الفرنسية.
أدت ذكريات الارتباط المر بين هيمنة اليمين المتطرف ووطأة هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية وكارثة حكومة فيشي الموالية لألمانيا، إلى تراجع اليمين المتطرف في فرنسا وأحزابه في هوامش السياسة في البلاد بقية القرن العشرين.
لكن جماعات اليمين المتطرف في فرنسا صارت في طريقها الآن للعودة إلى تيار السياسة العام، منتهزةً حالة الهلع من ركود الاقتصاد لمخادعة الناس بسردية الأمة العظمى التي آل بها الحال إلى دركات الانحدار، لأن الثقافات الغريبة عنها تحاصرها وتريد النيل منها، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
وهكذا حصل مرشحو اليمين المتطرف في انتخابات الرئاسة الفرنسية في أبريل/نيسان، على أكبر عدد من الأصوات منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958، حتى إن بعض السياسيين من التيار العام بدأوا في التلبس بمقولاتهم وخطابهم.
جذور اليمين المتطرف في فرنسا معادية للسامية ولكنه الآن يركز على الإسلام
يشير المصطلح إلى مختلف الجماعات الشعبوية التي جاءت وذهبت منذ أواخر القرن التاسع عشر، وتميل هذه الجماعات إلى نشر القيم الرجعية، وتنزع إلى التطبيق الصارم للقانون والنظام. منهم ملكيون ومنهم كاثوليك تقليديون، وكثير منهم يعتنق أفكاراً متطرفة وعنصرية ومعادية للسامية، ولكن في الوقت الحالي بات أغلبهم يركز على العداء على المهاجرين ولا سيما العرب والمسلمين والأفارقة.
حاربت الميليشيات اليمينية استقلالَ الجزائر في أوائل الستينيات، وارتكبت فظائع قتلت فيها مئات الجزائريين. وأبرز الأحزاب اليمينية المتطرفة اليوم هو حزب “التجمع الوطني”، الذي تأسس عام 1972 تحت اسم “الجبهة الوطنية” وتزعَّمه السياسي الفرنسي جان ماري لوبان مدة أربعة عقود، قبل أن تحل ابنته مارين محلَّه.
لوبان الذي حارب الجزائريين وأنكر المذابح النازية أعاد إحياءه
كان جان ماري لوبان جندياً بقوات المظلات الفرنسية خلال حرب التحرير الجزائرية، أُدين بالعنصرية ومعاداة السامية.
وادَّعى ذات مرة أن غرف الغاز النازية ليست إلا “حواشي” مكانها التاريخ. وترشَّح للرئاسة أربع مرات، ولم يبلغ الجولة الثانية من الانتخابات إلا مرة واحدة، كانت في عام 2002، ثم أوقع به الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك هزيمة ساحقة.
..ثم أطاحت به ابنته وحاولت تقديم اليمين بشكل أقل بشاعة
تولت مارين لوبان زمام الأمور في عام 2011، وبدأت السعي لتحسين صورة الحزب، فغيَّرت اسمه، وأخرجت والدها لاحقاً من الحركة.
ترشحت للرئاسة ثلاث مرات، ووصلت إلى جولة الإعادة مرتين.
أما ابنة أختها ماريون ماريشال لوبان، فقد انشقت عن حزب خالتها في مارس/آذار، وهي الآن نائبة رئيس حزب “ريكونكويت” (استرداد) Reconquête، وهو حزب جديد يقوده الكاتب والإعلامي اليميني المتطرف إريك زمور، الذي أُدين بالحض على الكراهية.
دعوة المسلمين للتخلي عن عقيدتهم
يدعو حزب التجمع الوطني إلى الحد من الهجرة واللجوء، ومنع عائلات الرعايا الأجانب من الانضمام إليهم في فرنسا، وطرد المهاجرين غير الشرعيين.
وطالب زمور بترحيل مليون مهاجر وأجنبي ممن يزعم أنهم وصلوا إلى البلاد بطرق غير شرعية وارتكبوا جرائم أو يشتبه في تعاطفهم مع الإرهاب، ودعا إلى حظر الأسماء الإسلامية والحجاب الإسلامي ومآذن المساجد، وقال إن المسلمين عليهم التخلي عن عقيدتهم وأفكارهم، لأنها تتعارض مع قيم الجمهورية الفرنسية.
اليمين المتطرف في فرنسا
يطالب اليمين المتطرف أيضاً بزيادة الحماية القانونية لضباط الشرطة المتهمين بارتكاب أعمال عنف، وتقييد إجراءات الاندماج في الاتحاد الأوروبي، وإعادة فرض الضوابط على الحركة عبر الحدود (في فترة من الفترات كان اليمين المتطرف يطالب بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي).
وقالت لوبان إن على فرنسا أن تنسحب من القيادة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو الهيكل الذي يوصف بأنه “العمود الفقري” للحلف، وقد أقامت لوبان علاقات وثيقة مع قادة سلطويين، منهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هكذا اقتربت مارين لوبان من رئاسة فرنسا
حاولت لوبان أن يبدو عليها أنها جنحت إلى شيء من الاعتدال في آرائها حين ترشحت لرئاسة فرنسا مرةً ثالثة في أبريل/نيسان، وتخلت عن تدابير دعت إليها سابقاً لحظر ازدواج الجنسية، وارتدَّت عن تعهد صريح بسحب فرنسا من الاتحاد الأوروبي، واجتذبت الناخبين الشباب بوعود الإعفاء الضريبي. وقد جاءت في المرتبة الثانية بعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في انتخابات 2022، قبل أن تخسر أمامه في الجولة الثانية، وحصلت على نحو 41% من الأصوات، وهو تحسن واضح في نسبة التأييد لها، التي بلغت 34% في انتخابات عام 2017.
كيف أصبح اليمين المتطرف يملي على بقية ساسة فرنسا خطاباتهم وأفكارهم؟
انزعج ماكرون للنجاح الانتخابي والشعبية التي بلغتها لوبان وزمور واليساري المتطرف جان لوك ميلنشون، ودفعه ذلك إلى زيادة عمله على تحسين مستوى المعيشة والقوة الشرائية للأسر، إلا أنه عمل في الوقت نفسه على التقليل بشدة من عدد التأشيرات الممنوحة للمواطنين الجزائريين والمغاربة والتونسيين.
في انتخابات 2017، تميز ماكرون عن بقية منافسيه بأنه بدا مرشحاً ليبرالياً منفتحاً يبشر بالعولمة ويدعو للتعايش، ويدعو لإنهاء القيود التي تفرضها العلمانية الفرنسية بشكل مفرط على المسلمين، ولكن عندما أصبح رئيساً، عاد لفرض قيود على حريات المسلمين، وشن حملة على ما سماه الانفصالية الإسلاموية، وبات خطابه لا يختلف كثيراً عن خطاب لوبان.
إذ تظهر مواقف ماكرون من المسلمين تقلبات لافتة، وتأثراً بخطاب اليمين المتطرف في فرنسا أو على الأقل محاولة مغازلة الناخبين المحتملين له.
فالرجل صدم فرنسا، عندما غازل الناخبين المسلمين الجزائريين في انتخابات 2017، بقوله إن “الاستعمار جريمة ضد الإنسانية”، وإن “الدولة ينبغي أن تكون محايدة تجاه الدين.. وهو ما يأتي في صلب العلمانية.. فعلينا واجب ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة”. بالإضافة إلى ذلك دعا ماكرون إلى تدريس الشؤون الدينية في المدرسة.
بل إنه أيد البوركيني، وهو لباس البحر الذي ترتديه النساء المسلمات المتدينات.
ولكن انقلب ماكرون على مواقفه، حيث سعى لمنع أحواض السباحة من أن تخصص أوقاتاً منفصلة للنساء المسلمات، قبيل نحو 16 شهراً من رئاسيات 2022، ورفض الاعتذار عن جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، بل أنكر وجود أمة جزائرية برمتها.
وأصبحت أفكار اليمين المتطرف من بين القضايا الأساسية المطروحة للنقاش داخل حزب “الجمهوريين” التقليدي، القريب من يمين الوسط.
وانتشرت الأفكار اليمينية انتشاراً كبيراً، حتى إن شخصيات يسارية، مثل السياسي والوزير السابق آرنو مونتبورغ، صرَّحوا بأمور لم يكن يُتصور أن تصدر عنهم قبل بضع سنوات، فقد اقترح مونتبروغ حظر التحويلات النقدية إلى البلدان التي ترفض استعادة مواطنيها الذين قبضت عليهم فرنسا بعد وصولهم إليها بطرق غير شرعية، وهي فكرة كان اليمين المتطرف هو الداعي إليها منذ أمد طويل.
من الشباب الثري للمناطق الفقيرة.. إليك الناخبين الجدد لليمين المتطرف
أدَّى تراجع الأحزاب التقليدية في فرنسا إلى جنوح المزيد من الناخبين المذبذبين إلى أقصى اليسار وأقصى اليمين. ولاقت وعود لوبان الانتخابية بالحد من التراجع في مستوى المعيشة وزيادة الأجور قبولاً حسناً بين جمهور المقاطعات الفقيرة.
أما زمور، فقد أبدى براعة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإغراء الناخبين الأثرياء والشباب واجتذابهم لتأييد ما يُدعى “نظرية الاستبدال العظيم”، التي تزعم أن المهاجرين المسلمين يعملون على استبدال المسيحيين البيض في أوروبا ويريدون تغيير ثقافتها من الداخل.
يتهمون الأجانب بالتوحش
خفَّفت مارين لوبان من حدة الشعارات الزاعقة التي اعتادها والدها، مثل “فرنسا من أجل الفرنسيين” و”الفرنسية أولاً” و”فرنسا التي نحبها”، وأصبحت هتافات أنصارها خلال المسيرات أشياء من قبيل: “هذا وطننا”.
ومع ذلك، فقد اخترقت بعض مصطلحات اليمين المتطرف أوساط التيار السياسي العام، وشاع استخدام مفاهيم من قبيل “التوحش” ensauvagement، التي يشير مضمونها إلى أن الأمة الفرنسية تتحول إلى أمة وحشية، وبات يُستنفر بهذه الشعارات الناخبون الساخطون على ارتفاع معدلات الجريمة في المناطق التي يسكنها عدد كبير من المهاجرين، وقد اكتسى المصطلح ثوب الرسمية حين استخدمه وزير داخلية ماكرون، جيرالد دارمانان، في عام 2020، قائلاً: “أنا عن نفسي أستخدم مصطلح التوحش وأكرره”.
المصدر: عربي بوست