السياسية:

أمهل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحكومة حتى 31 مارس لتحويل الدفع مقابل الغاز الروسي إلى الروبل الروسي بالنسبة للدول غير الصديقة.

علاوة على ذلك، فقد تحدث الرئيس عن الغاز “كبداية”، بمعنى أن بإمكاننا افتراض أن صادرات أخرى ستتبع الغاز في التعامل بالروبل، من السلع والمواد الخام الروسية التي لا يمكن تعويضها، وحتى تشمل جميع الصادرات.

لا داعي للتكرار هنا أن أوروبا لا تمتلك خيارا آخر سوى الموافقة، حيث لن تكون قادرة على استبدال الغاز الروسي لا في هذا العام، ولا حتى في غضون سنوات قليلة. بالأحرى، سيكون عليها كي تفعل ذلك أن تكرس نصف اقتصادها له، بعد ذلك سينهار النصف الآخر. لذلك فإن كل تصريحات السياسيين الأوروبيين، بأن أوروبا لن ترضخ لشرط التعامل بالروبل، ليست سوى المرحلة الأولى من قبول المحتوم وهي “الإنكار”، بعدها سيأتي الغضب، ثم محاولة التفاوض فالاكتئاب ثم القبول في نهاية المطاف.

وفقا لهذا النهج، أتوقع أن يرفض الاتحاد الأوروبي الدفع مبدئيا، بعدها سوف تعلق روسيا الإمدادات، حتى يبدأ دفع ثمن الغاز بالروبل.

يلي ذلك فترة من ردود الفعل العنيفة داخل الاتحاد الأوروبي، حيث ستبدأ من الصناعيين، بعدها سوف يمارس الشعب ضغوطا على السياسيين، الذين سيلومون بطبيعة الحال بوتين. ومع ذلك، فإن الدبلوماسية الأوروبية ستتقدم لإيجاد “حلول وسط” مع روسيا، أي وسيلة لاستئناف الإمدادات دون رفع أشد العقوبات.

بالمناسبة، سوف يكون على بلدان الخليج في هذه المرحلة أن تتحمل ضغطا وحشيا من واشنطن، في الوقت الذي سوف تتصاعد وتيرة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، التي ستعلن أنها لن تسمح لدول الخليج بالتخلي عن عقودها معها، وهو تصعيد من الصعب التكهن بدرجته، إلا أن العرب في الخليج سوف يتعرضون للتهديدات من الغرب ومن الصين على حد سواء.

بعد ذلك، في يونيو ويوليو، عندما يتم استهلاك احتياطيات الغاز، سوف تطال التداعيات الاقتصادية أوروبا. فتغلق المصانع، وتشح السلع، وتندلع مظاهرات واحتجاجات جماهيرية، ويحدث انقسام داخل الاتحاد الأوروبي، وبين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وانهيار محتمل للائتلاف الحاكم في ألمانيا وغيرها.

وفي موعد لا يتجاوز سبتمبر أو أكتوبر، ستضطر أوروبا إلى البدء، بدرجة من الخزي والإذلال، أن تلغي العقوبات المعادية لروسيا. ربما قبل ذلك، حيث سيكون من الواضح بالفعل في يوليو أن أوروبا ستواجه كارثة اقتصادية واجتماعية في الشتاء بدون الغاز الروسي.

كل ذلك واضح، ولن أخوض في تفاصيله. إلا أن اللغز يتعلق بأمر آخر، حيث لا تتوقف درجة الخزي والإذلال لأوروبا على آلية الدفع فحسب، بل ستمتد لتطال مصير الدولار كعملة عالمية لآليات الدفع.

ففي الظروف العادية، لم تكن لتوجد صعوبة في سداد المدفوعات بالروبل من خلال النظام البنكي، حيث ستقوم البنوك الغربية، نيابة عن المستوردين الأوروبيين أو اليابانيين وغيرهم من المستوردين للغاز الروسي، بتبادل الدولار واليورو والين مقابل الروبل في البورصة، أو من خلال البنوك الروسية. وكان من الممكن، بدلا من ذلك، للبنوك الروسية إقراض شركائها الغربيين بالروبل.

لكن ذلك يتطلب أن يكون لدى البنوك الغربية حسابات بالروبل في البنوك الروسية والعكس صحيح، أن يكون لدى البنوك الروسية حسابات بالدولار واليورو في البنوك الغربية. وبينهما، يجب أن تكون هناك آلية تسوية، مثل نظام “سويفت” SWIFT، الذي قطعوه عن البنوك الروسية. في ظل العقوبات، لم يعد الأمر كذلك، على الأقل بالنسبة للبنوك الكبيرة القادرة على خدمة المعاملات الكبيرة.

يعني ذلك أن أوروبا ستضطر صاغرة وبإذلال، على أي حال، إلى إلغاء هذه الحزمة من العقوبات.

لكن ذلك سيظل إجراء فاترا لروسيا. فالغرب سيظل يدفع للبنوك الروسية باليورو أو بالدولار، وينقلها إلى روسيا ويحولها هناك إلى الروبل. دعنا نسمي هذه الطريقة “أسلوب التسوية رقم 1”. في وقت سابق كان ذلك التحويل إلى الروبل يحدث من قبل المصدرين الروس، بعد إتمامهم الصفقة، الآن سيقوم بذلك الشركاء الغربيون.

هناك أمر آخر، فحتى 28 فبراير من العام الجاري، لم يكن المصدرون الروس مطالبين ببيع العملة الصعبة المحصلة في السوق الروسية. أي أنه لم يكن هناك طلب إضافي على الروبل، وفقا لقانون العرض والطلب لم يرتفع الروبل مقابل الدولار. منذ 28 فبراير، ألزمت الحكومة المصدرين ببيع 80% من الدولار أو اليورو الذي يحصلون عليه. ويعني تحويل التجارة الخارجية إلى الروبل بيع 100% من أرباح العملات الأجنبية، أي أن الطلب على الروبل يجب أن ينمو بقوة، ما يعني أن يرتفع بقوة مقابل الدولار. وأعني هنا “بقوة” أي أن ينخفض إلى 70 روبل للدولار الواحد، مقارنة بسعره الحالي حوالي 100 روبل للدولار. ربما يعزز الروبل مكانته أكثر، لكني لست متأكدا مما إذا كان بإمكاننا رؤية ذلك المستوى ما لم تتحول التجارة الخارجية الروسية كلها إلى الروبل.

وهنا تبرز مشكلة أوروبا، حيث لا يمتلك النظام المالي الروسي في الوقت الراهن ما يكفي من الروبلات الإضافية، التي يمكن للشركات الغربية شراؤها لدفع ثمن الغاز الروسي، حيث كان يتم تداول الغاز سابقا خارج النظام المالي الروسي. سيتعين إذن على روسيا طباعة مبالغ بالروبل تتناسب مع قيمة صادرات الغاز الروسية.

يوجد الآن لاعب واحد فقط في روسيا يمكن للغرب، بطريقة أو بأخرى، أن يحصل منه على تلك المبالغ الضخمة اللازمة بالروبل، ألا وهو البنك المركزي الروسي، الخاضع للعقوبات الغربية. أي أنه لن يبق لأوروبا سوى الاقتراض من البنك المركزي الروسي، سواء بقرض مباشر أو من خلال البنوك المرخصة، والتي قد تكون هي الأخرى من بين البنوك التي فرض الغرب عقوبات عليها.

أي أنه سيتعين على الغرب صاغرا مرة أخرى إلغاء الحزمة الإضافية من العقوبات، ويمكن هنا للبنك المركزي الروسي، وآمل أن يتحلى حينها بالصرامة، أن يجبر أوروبا على إلغاء تجميد الاحتياطات الروسية، قبل أن يقرض أوروبا لشراء الغاز الروسي.

إلا أن المتعة ها هنا تبدأ: فهناك مشكلة أخرى، حيث تبيع روسيا للعالم أكثر مما تشتري. لهذا فإن لديها دائما دولارات ويورو إضافية، استثمرتها في احتياطياتها، واشترت ديونا أوروبية وأمريكية. الآن تم تجميد تلك الاحتياطيات، بل أصبح على روسيا ألا تنشئ بل من الخطر عليها أن تنشئ احتياطيات جديدة بالدولار أو اليورو.

وفي ظل الظروف الراهنة، فإن المخطط المعتاد، الذي يفترض أن يكون لدى البنوك الروسية حسابات في البنوك الغربية أصبح أمرا ضارا وخطرا، وأصبح الأمر الأكثر خطورة بالنسبة لروسيا أن تبدأ في تكديس احتياطيات بالدولار أو باليورو مرة أخرى.

أي أن على روسيا الابتعاد عن استخدام هذه العملات بشكل عام، ليس فقط في الصادرات، ولكن أيضا في الواردات. أي أنه من الضروري اللجوء إلى “أسلوب التسوية رقم 2″، الذي يستثني استخدام الدولار واليورو بشكل عام. ربما تفرض الحكومة حظرا على تحويل الدولار واليورو إلى الخارج، ما يؤدي إلى إتمام معاملات الاستيراد بالروبل أو باليوان الصيني أو الروبية الهندية، وغيرها. لن يكون ذلك بكل تأكيد أمرا سهلا، ومن غير المرجح أن يحدث على الفور، لكني أعتقد أن روسيا ستتحرك في هذا الاتجاه، خاصة إذا لم يرفع الحظر عن الاحتياطيات الروسية من قبل الغرب خلال الأشهر المقبلة.

لقد دفعت أوروبا نفسها، بطريقة أو بأخرى، إلى ذلك الركن المزعج للغاية. ولم يترك بوتين لأوروبا سوى خيارين: فإما الخزي والإذلال غير المسبوق، حيث سيتعين عليها عمليا الركوع وتقبيل حذاء بوتين أمام الجميع، وإما قبول تبعات تصرفاتها وفقدان الغاز الروسي.

يبدو القرار الذي سيتعين على أوروبا اتخاذه واضحا بالنسبة لي، ولكن، ونظرا لطبيعته المؤلمة، فلن تتخذ أوروبا قرارا بشأنه على الفور.

على أية حال، ستعاني أوروبا كثيرا في الأشهر المقبلة، جراء غبائها.

*بقلم : المحلل السياسي ـ ألكسندر نازاروف
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع روسيا اليوم ولا تعبر رأي الموقع