السياسية :

حُدِّدت الساعة صفر، يوم الأربعاء الواقع فيه 16 شباط/ فبراير. أخبر الرئيس الأميركي جوزيف بايدن حلفاءه بأن روسيا ستشن فيه هجوماً على أوكرانيا. ثم تم تعويم التاريخ إلى أن اعتراف مستشار الأمن القومي جيك سوليفان بأنهم لم يتمكنوا من تحديد اليوم المحدد لبدء الحرب من واشنطن. لكن حقيقة “الغزو الوشيك”، في حد ذاته، أمر لا جدال فيه، ويمكن أن يحدث “في أي لحظة”.

هذه كلها تصريحات عامة لمسؤولين أميركيين وبريطانيين، ولا توجد تسريبات أو إشارات إلى “مصادر”. لكن، كيف أقنعوا العالم بأن الغزو الروسي لأوكرانيا وشيك؟

تقدّم المصادر شيئاً آخر، وهو عبارة عن مجموعة متنوعة وغنية من السيناريوهات للعملية العسكرية الروسية، أحدها يبرد الروح أكثر من الآخر. منها أن كاتب عمود مؤثّراً في صحيفة “واشنطن بوست”، يُعَدّ على دراية جيدة بمجتمع الاستخبارات، لم يصف الحرب نفسها بالتفصيل فحسب، بل وصف أيضاً ما سيحدث بعد ذلك، عندما تحتل روسيا أوكرانيا، وتدفع من أجل تحقيق ذلك ثمناً باهظاً للغاية، وتواجه حرب عصابات شرسة. إن كان الحديث عن الحرب، فمن الأفضل عدم محاولة الخوض في التفاصيل العسكرية. المهم في الأمر أن الفكرة نفسها يتمّ تلقفها من المتلقين. كان العالم مقتنعاً بأن الحذاء العسكري الروسي على وشك السير عبر الأراضي الأوكرانية. قد تُغضب هذه الفكرة شخصاً ما، وقد تُلهم آخر، وقد نجد شخصاً ثالثاً غير مبالٍ. لكن، بصورة عامة، كانت آلة المعلومات تعمل بلا هوادة، وعلى نحو صحيح.

دعونا نضع المشاعر، التي لا مفرّ منها، جانباً، ونقدّر جوهر العمليات

في نهاية العام الماضي، قدَّمت روسيا مطالب صارمة، وصاغتها في صورة إنذار نهائي. نحن نتحدث عن تغيير النظام الأمني ​​في أوروبا، والذي كان رُسِّخ بعد الحرب الباردة. لم يلائم هذا النظام روسيا أبداً، حتى في أوائل التسعينيات، وهي مدة قصيرة نسبياً، عندما لم تعترض علناً. أمّا الآن، فباتت المسألة تُطرح بصورة مباشِرة: الوضع الذي كان، لن يكون كذلك في المستقبل. والطريقة، التي يُصاغ فيها هذا الطرح، تفيد بأن المسألة ليست ظرفية، بل أساسية، علاوة على أنه، في مرحلة عقدين من الزمن تلت التسعينيات، استعادت البلاد فيها إمكانات النفوذ، وصارت جاهزة لاستخدامها.

لكن المسألة لا تقلّ أهمية بالنسبة إلى الغرب أيضاً. فالنظام الموجود حتى الآن، مفيد للغاية، ومريح بالنسبة إليه. فهو ناتج من الانتصار في الحرب الباردة. والغرب لا يلمس ضرورة لتغييره على الأرض، الأمر الذي يجعله أكثر ملاءمة لروسيا. لذا، فإن موقفي الجانبين ثابتان. وعبر اتفاق ودي، لم يتمكنا من حل التعارض فيهما للأسف. لم يتم حل النظام الأمني ​​في أوروبا في المحصلة. في العصور القديمة، كانت هذه الأمور تُسوّى بالحروب، التي تنتج منها إقامة توازن جديد للقوى. لكن الآن، أصبحت الحرب بين طرفين يمتلكان أسلحة نووية (في هذه الحالة، روسيا والولايات المتحدة) مستحيلة عملياً بسبب المخاطر العالية للغاية، والتي سيتعرض لها الجميع.

تبعا لذلك، تُستخدم أشكال أخرى من المواجهة، ويستخدم فيها كل من الطرفين مزاياه التنافسية

ميزة روسيا هي أن قدراتها العسكرية في منطقة الصراع لا تضاهيها قدرات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وأيضاً أن روسيا، في حال حدوث تطور شديد في الأحداث، قادرة على استخدام هذه القدرات. لقد أثبتت ذلك بالفعل، على عكس الدول الغربية، التي تؤكد، بصورة قاطعة، أنها لن تشارك على نحو مباشر في الصراع. بصورة عامة، عندما توسع الناتو، ليغطي مناطق جديدة، في موجات تؤسس توسعاً مستقبلياً (مثال ذلك أوكرانيا وجورجيا)، لم يفترض أحد، بجدية، أن الدول التي انضمت إلى العضوية في الحلف، أو حتى الدول المرشحة لنيل هذه العضوية، ستطالب بتنفيذ الضمانات في إطار الأمن الجماعي. لم يشعر أحد بأن شيئاً من هذا القبيل سيحدث على الإطلاق. لكن، عندما حدث فجأة، اتضح أن أعلام دول الحلف التي ترفرف بتجانس تحت وهج الألعاب النارية، تستلزم أيضاً احتمال مواجهة مباشرة مع قوة عسكرية عظمى تربض على بعد رمية حجر.

الميزة الأميركية هي الهيمنة شبه الكاملة حتى الآن، في فضاء المعلومات العالمي، والقدرة على إنشاء سردية عالمية تعود بالنفع عليها، لكنها غير مؤاتية للآخرين (على وجه الخصوص روسيا). تفيد هذه السردية بأن موسكو معتدية وجائرة ولا تعرف الرحمة، ويجب على الجميع أن ينجو ويحفظ رأسه قبل فوات الأوان. عبر الأداة الإعلامية الخاصة بالولايات المتحدة، يمكن إحداث نوع من الجنون، وأن تُكسب هذا الجنون أهمية عالمية حقيقية. واستخدمت الولايات المتحدة هذه الأداة بالكامل. من المضحك أنها، في الوقت نفسه، لم تنتبه حتى للهدف الفعلي من الرعاية، أي أوكرانيا، التي كانت تحاول الاعتراض بصورة ضعيفة على مثل هذا الضغط، لأنها ضحيته الأولى.

هناك أسباب للتشابه بين هذه القضية وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، لكن بالطبع، على نحو مشوَّه للغاية، إذ لا يوجد تهديد مباشر بين قوتين نوويتين، إحداهما ضد الأخرى، وموارد الطرفين هنا غير متكافئة، وتم محو الخط الفاصل بين الأخطار الحقيقية والافتراضية. أخيراً، يجب ألاّ يغيب عنا أن المواجهة تشكل مقياساً إقليمياً لا عالمياً، على الرغم من أهميتها الكبيرة. ومع ذلك، فإن الوضع في مكان ما يمكن مقارنته بمستوى ما حدث في الستينيات بسبب الأداة الإعلامية نفسها.

نحن نتحدث عن الخروج الملائم من الأزمة، إذاً. كما كان في ذلك الحين. في مرحلة ما، حدث اعتراف بالخطر الكبير المتمثل بمزيد من التصعيد، وشرع الطرفان في بحث مبادئ الضمانات المتبادلة. في عام 1962، نجح الأمر، وغدا من الممكن تطوير نظام للعلاقات، والذي تجنّب الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، بفضله، أيَّ مواجهة مباشرة، في النصف الثاني من الحرب الباردة. يحدث الآن شيء مشابه، تم تعديله لسياق متغير جذرياً، وسيصبح أيضاً السيناريو الأمثل. لكن، لا بأس، مرة أخرى، من التذكير بأن حجم المسألة، التي تطرحها روسيا، هو من النوع الذي لا ينبغي لأحد أن يتفاجأ بمدى خطورتها.

– المقالة “كيف أقنعوا العالم بأن الغزو الروسي لأوكرانيا وشيك؟”، فيودر لوكيانوف، جريدة “روسيسكايا غازيتا”، 16 شباط/ فبراير 2022.
* المصدر : الميادين نت
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع