علي ظافر

 

لا يبدو أنَّ الإمارات ارتدعت، رغم أنَّ صورة “الواحة الآمنة” الّتي كوَّنتها عن نفسها طيلة العقود الماضية تهشّمت أمام العمليات الاستراتيجية للقوات المسلّحة اليمنية.

لو كانت الإمارات تعلم أنَّها ستتحوّل إلى دولة غير آمنة، وأنّها ستُضرب أسبوعياً بالطائرات المسيّرة والصواريخ البالستية، لما تورَّطت مجدداً في التصعيد على اليمن. ولو كانت واشنطن نفسها تعلم أنَّ دفاعاتها الجوية ستنكشف هذا الانكشاف الاستراتيجي، وتعجز أمام صواريخ اليمن ومسيراته، وأن قاعدة “الظفرة” التي تربض فيها قواتها ستتعرض للقصف اليمني، وسيُجبر جنودها على النزول والاختباء في الملاجئ تحت نير الصواريخ اليمنية، لما دفعت الإمارات إلى التّصعيد في شبوة.

ولو كان الإسرائيلي نفسه يعلم أنه سيمرّ بحالة رعب غير معهودة من ضربة يمنية محتملة، وأنَّ الإمارات التي كان يرى فيها أمله ومحور ارتكازه في المنطقة، ستتعرّض أسبوعياً لإعصار يمني مزلزل، لما شجّع الإماراتي على العودة مجدداً للتصعيد في اليمن.

لقد فتحت الإمارات بتصعيدها الأخير أبواباً ظلَّت مغلقة منذ أكثر من 3 سنوات، وظلَّت بمنأى عن العمليات الاستراتيجية في عمقها الحيوي، رغم أنَّ التهديد بأنها ستتحوَّل إلى دولة غير آمنة كان مشرعاً منذ 5 سنوات، وتحديداً منذ العام 2017، يوم أعلن السيد عبد الملك بدر الحوثي أنّ على الدول والشركات الاستثمارية أن تنظر إليها على أساس أنها بلد غير آمن، واستطاعت أن تخلّص نفسها من هذه المعادلة بإعلان الانسحاب مرتين من اليمن بدافع الخوف بعد ضربة بقيق وخريص الشهيرة في العام 2019م.

إن سوء التقدير وسوء التدبير هما ما أدخل الإمارات في مغامرة غير محسوبة العواقب، لتجد نفسها في ورطة غير متوقعة. ربما أدرك حكام الإمارات المأزق الذي أدخلوا أنفسهم فيه، لكن بعد فوات الأوان، ومنعهم الاستعلاء والتكبر من مراجعة الحساب للخروج بأقل الخسائر، رغم أنّهم حاولوا تفادي “إعصار اليمن الثالث” بتسريب خبر انسحاب “العمالقة” من المواقع شمال غرب شبوة إلى ما وصفوه بـ”عرين القوات وقواعدها”، في إشارةً إلى عتق.

وقد صَدَّرت الإماراتُ تلك الرسالة عبر “قناة سكاي نيوز” المملوكة لها، وانخدع كثير من المراقبين والمحللين بهذا التسريب، واعتبروه إشارة إيجابية من حكامها، وذهبوا إلى تحليلات واستنتاجات غير واقعية.

وأبعد من ذلك، أنَّ البعض اعتقد أنَّ ثمة رسائل متبادلة بين صنعاء وأبو ظبي، وثمة صفقة تفضي إلى التهدئة مقابل التهدئة، بمعنى أن تنكفئ ميليشيات الإمارات مقابل أن توقف صنعاء عملياتها الاستراتيجية باتجاه العمق الإماراتي.

وبحسب ما علمنا من مصادر دبلوماسيَّة، فإنَّ “ذلك لم يحصل على الإطلاق”. وإذا أرادت الإمارات ألا تُقصف، فعليها ألا تَقصِف، وأن تنأى بنفسها تماماً عن المشهد اليمني، وتكفّ يدها عن دعم الميليشيات وتحريكها وتجنيدها، سواء العمالقة أو غيرهم.

وقد جاءت عملية “إعصار اليمن” الثالثة، التي تزامنت مع أول زيارة لرئيس كيان العدو الصهيوني إسحاق هرتسوغ للإمارات، وأدخلته في “ليلة مرعبة” – بحسب توصيف الإعلام الإسرائيلي – لتؤكّد هذه الحقيقة، وتعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي، وتكشف ألا شيء من ذلك حصل على الإطلاق، وأن المواجهة أخذت بعداً إقليمياً ودولياً.

اليوم، لا يبدو أنَّ الإمارات ارتدعت، رغم أنَّ صورة “الواحة الآمنة” الّتي كوَّنتها عن نفسها طيلة العقود الماضية تهشّمت أمام العمليات الاستراتيجية للقوات المسلّحة اليمنية. وفي هذا السّياق، تؤكد مصادر ميدانية مطّلعة أن ميليشيات العدو المسماة “عمالقة” “لم تنسحب من متر واحد، ولا تزال بكلِّ قواها في الميدان، وأن ما جرى لا يعدو كونه مجرّد ترميم وترتيب صفوف واستبدال من ضعفت معنوياتهم بآخرين لا يزالون متحمسين لخوض المعارك الميدانية، بعد أن تلقّوا خسائر كبيرة في صفوفهم خلال موجة التصعيد الأخيرة، تجاوزت الألفين ما بين قتيل وجريح بين قيادات ألوية وكتائب”.

وعلى وقع الخسائر الميدانيَّة، تؤكّد المصادر أنَّ الإمارات عمدت مؤخراً إلى ما يشبه عملية إعادة تدوير النفايات، إن صحّ التعبير، باحتواء عناصر “القاعدة” الذين تمَّ طردهم خلال عملية “فجر الحرية” من مديريات الزاهر والصومعة ومسورة وأجزاء من مكيراس، وإعادة تشكيلهم ضمن ألوية “العمالقة” بقيادة المدعو أبو محمد عبد ربه موسى والمدعو أحمد حسين الحميقاني، وهما قيادتان سلفيتان مواليتان للإمارات. وتتمثل مهمّة هذه الجماعة بإشغال الجيش واللجان الشعبية في جبهة مأرب، وإعاقة حركة التقدم الميدانية لقوات صنعاء.

كما تؤكّد المصادر أنَّ الإمارات لجأت مؤخّراً إلى فتح معسكرات تدريب تعوّض ما خسرته من عديدٍ في ألوية العمالقة، إذ عمدت مؤخّراً إلى فتح معسكرات تدريب في بير أحمد وجبل حديد والبريقة في محافظة عدن، وفي معسكر العلم في شبوة، وفي قاعدة العند والراحة والملاح وطور الباحة في محافظة لحج، وفي اللواء الخامس في محافظة الضالع، إضافةً إلى معسكرات جديدة في حضرموت. ويأتي هذا التّجنيد، وفقاً لمصادر استخباراتية، بهدف التحضير لتصعيد جديد في مكيراس وغربي تعز.

في المعطيات الميدانية، لا تزال المعارك على أشدّها بين قوات الجيش واللجان الشعبية، مسنودين من القبائل، من جهة، وميليشيات الإمارات “العمالقة” من جهة أخرى. وتؤكّد مصادر ميدانيّة أنّ قوات صنعاء تمكَّنت خلال اليومين الماضيين من إحراز تقدم في جبهات بيحان، وسيطرت على الجبل الشرقي المطلّ على منطقة غنية ووادي خير والنحر، في ما لا تزال تحتفظ بمواقعها في مديرية حريب. وقد ضاعفت خسائر ميليشيات الإمارات بعد أن جرّتها إلى مستنقع استنزاف كبير جداً.

من الرابح ومن الخاسر في شبوة؟

في حسابات الرّبح والخسارة، صحيح أنَّ القوات المسلّحة خسرت نقاطاً ميدانية هي في واقع الأمر مناطق صحراوية مكشوفة في شبوة، لكنَّها ربحت المعركة في بعدها الاستراتيجي، بانكفائها من المناطق الصحراوية المفتوحة التي تعرف في العلم العسكري بـ”المقتل”، والاحتماء في الجبال الحاكمة، والتصدّي لأيّ زحف قادم من ميليشيات الإمارات، مع تفعيل سلاح الجو المسير والصاروخي في ضرب نقاط تمركز “العمالقة” وتجمّعهم وغرف عملياتهم، وآخرها غرفة العمليات في عسيلان، التي سقط فيه كثيرون، بمن فيهم إماراتيون.

وبهذه الاستراتيجيّة، استطاعت القوات المسلحة أن تجرّ ميليشيات الإمارات إلى مستنقع قاتل، وتكبّدهم خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، إذ لامست خسائر العمالقة حتى اليوم 2000 ما بين قتيل ومصاب، بينهم قيادات ألوية وكتائب، بالتوازي مع ضربات استراتيجية في العمق الإماراتي، من خلال عمليات “إعصار اليمن” الثلاث التي وضعت أمن الإمارات في مهب الريح.

وقد باتت الإمارات معنيّة اليوم أكثر من أيِّ وقت مضى بمراجعة حساباتها ومغامرتها في اليمن. وما لم تفعل ذلك، فإنّها ستخسر في الجهتين، في المعركة البرية وفي عمقها الحيوي، وستترتّب على ذلك عواقب وخيمة على الاقتصاد الإماراتي الذي يعتمد على بيئة آمنة ستصبح معدومة تماماً أمام الضربات اليمنية. وأكثر من ذلك، إنَّ التصعيد الإماراتي الأخير فتح أفقاً جديداً للحرب، وفتح نيرانها مباشرة على واشنطن و”إسرائيل”.