أميركا وصناعة الديكتاتوريين في هايتي
د. علي دربج *
من يصدّق أن السياسات الأميركية تجاه الدول والشعوب قد تتغير يومًا؟ هذه السياسات لم تستمر أصلًا إلا من خلال حروبها وغزواتها للدول وزعزعة استقرارها ليسهل عليها بعد ذلك التدخل فيها ثم تنصيب حكام دكتاتوريين ينفذون مآربها ومخططاتها، كجمهورية هايتي، التي تحولت الى أرض مستباحة لواشنطن على مدار القرنين الماضي والحالي.
المخزي، أن قادة واشنطن المؤسسين والحاليين أثبتوا أن لا قيمة لحياة الانسان ووجوده في قاموسهم السياسي – خصوصًا أصحاب البشرة السوداء – ومن ضمنهم الرئيس جو بايدن الذي نراه يوزع العقوبات يمينًا وشمالًا على دول معينة بحجة انتهاك حقوق الإنسان، فيما مواقفه العنصرية، تجاه هذا البلد، تشكل وصمة عار على جبينه.
وليكون كلامنا موثقًا إليكم الدليل:
عام 1994، وقبيل أيام قليلة من وصول القوات الأمريكية الغازية إلى هايتي، تحدث بايدن، الذي كان آنذاك عضوًا في مجلس الشيوخ في لجنة الشؤون الخارجية ضد التدخل العسكري، وقال إن “الولايات المتحدة تعاني من أزمات أكثر إلحاحًا – بما في ذلك التطهير العرقي في البوسنة – وإن هايتي لم تكن ذات أهمية خاصة لمصالح الولايات المتحدة”.
أما النقطة الأهم في حديثه، والتي كشفت حقيقته وعرّته، فهي قوله “إذا غرقت هايتي بهدوء في منطقة البحر الكاريبي أو ارتفعت 300 قدم، فلن يكون ذلك مهمًا كثيرًا بالنسبة لمصلحتنا”.
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما سبب العداء الأميركي لهايتي؟
إن فهم السياسة الأمريكية في هايتي على مدى عقود، أمر حيوي لمعرفة خلفيات عدم الاستقرار السياسي هناك، ولماذا تبقى أفقر دولة في النصف الغربي للكرة الأرضية، بالرغم من ضخ أكثر من 5 مليارات دولار من المساعدات الأمريكية في العقد الماضي وحده؟
في الواقع، وعند البحث في علاقات واشنطن بهايتي، نجد أنها تتميز بتاريخ دموي من النفوذ الأمريكي (بذريعة تحقيق الاستقرار في هذا البلد وتنميته) تحولت معه الى هيكل دولة. كانت سياسات العبودية والتحيز العنصري عاملين رئيسيين في العداء الأمريكي المبكر لهايتي. من هنا، خشيت واشنطن من أن الجمهورية السوداء التي تأسست حديثًا ستنشر ثورات العبيد في اميركا.
وتبعا لذلك، وعلى مدى عقود، رفضت الولايات المتحدة الاعتراف رسميًا باستقلال هايتي عن فرنسا، وحاولت أحيانًا ضم أراضي هايتي وممارسة الدبلوماسية من خلال التهديدات.
ونتيجة لتدخلات أميركا الكثيرة، تفاقم عدم الاستقرار في هايتي، واللافت في الامر أن البلاد مرت بسبعة رؤساء بين عامي 1911 و1915، جميعهم إما اغتيلوا أو أزيلوا من السلطة. وبفعل ذلك أصبحت هايتي مثقلة بالديون، الأمر الذي دفع ببنوك أميركا وأبرزها: سيتي بنك، وبنك المدينة الوطني في نيويورك – وبنوك أمريكية أخرى، الى اعتماد سياسة البلطجة (وهي صفة لا زالت تلازمها)، ومصادرة الكثير من احتياطات الذهب في هايتي خلال تلك الفترة (الثلاثينيات من القرن الماضي)، بمساعدة مشاة البحرية الأمريكية.
بعدها نصّبت الولايات المتحدة نظامًا دمية أعاد كتابة دستور هايتي ومنح أمريكا السيطرة على الشؤون المالية للبلاد، حيث سخّرت أميركا الناس للعمل في البناء والقيام بأعمال أخرى لسداد الديون، فيما قتل مشاة البحرية الآلاف من الموطنين.
في أعقاب ذلك، استمرت أميركا في انتهاج سياسة الاحتلال والتدخلات وصناعة الديكتاتوريين في هايتي، ونظرًا لتعددها، سنستعرض أبرزها:
عام 1957، تولى الدكتاتور فرانسوا دوفالييه السلطة، وأدرك كما العديد من الديكتاتوريين الآخرين في منطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية (المنصّبين اميركيا)، أنه يمكن أن يحظى بدعم واشنطن إذا قدّم حكومته على أنها مناهضة للشيوعية.
وصف المسؤولون الأمريكيون دوفالييه بأنه “أسوأ ديكتاتور في النصف الغربي للكرة الأرضية”، بينما عمليًا، اعتبروه أفضل من الخطر المُتَصَوَّر لهايتي الشيوعية. فعندما علّقت الولايات المتحدة برامج المساعدات بسبب الفظائع التي ارتكبت بعد فترة وجيزة من تولي دوفالييه منصبه، استأجر الزعيم الهايتي شركات علاقات عامة، بما في ذلك واحدة يديرها الابن الأصغر للرئيس الاميركي فرانكلين روزفلت لتصحيح العلاقة.
تمتع دوفالييه – ولاحقًا ابنه جان كلود – بدعم أمريكي كبير، ترجم بشكل مساعدات (اختلس الكثير منها من قبل الأسرة)، فضلا عن تدريب القوات شبه العسكرية الهايتية التي استمرت في ارتكاب الفظائع، حتى مع انتشار مشاة البحرية في عام 1959، بالرغم من احتجاجات الدبلوماسيين الأمريكيين في هايتي.
وبحلول عام 1961، كانت الولايات المتحدة ترسل لدوفالييه، حوالي 13 مليون دولار كمساعدة سنوية، أي ما يعادل نصف الميزانية الوطنية لهايتي.
المفاجأة، أنه حتى بعد أن سئمت الولايات المتحدة من وحشية دوفالييه وقيادته غير المستقرة، اعترض الرئيس جون كينيدي على مؤامرة لعزله والتفويض بإجراء انتخابات حرة. والأسوأ أنه عندما توفي دوفالييه، دعمت الولايات المتحدة خلافة ابنه.
أكثر من ذلك، مع بداية العام 1986، كانت الولايات المتحدة قد أنفقت ما يقدر بنحو 900 مليون دولار لدعم سلالة دوفالييه، في وقت انغمست هايتي بعمق في الفقر والفساد.
كيف تفرض أميركا مرشحيها بالقوة؟
في أبلغ مثال على سياسات فرض مرشحيها بالقوة في الانتخابات في مناطق نفوذها، والتي تعتمدها أميركا (سياسات منافية للقواعد الديموقراطية)، هو ما حصل بعد زلزال عام 2010 في هايتي. حينها ضغطت الولايات المتحدة ودبلوماسيون دوليون آخرون على هايتي لإجراء انتخابات في ذلك العام رغم الدمار. ولاحقًا أسيئت إدارة التصويت بشكل كارثي، فاعتبر المراقبون الدوليون والعديد من الهايتيين النتائج غير مشروعة.
وبعد الحديث عن تزوير الانتخابات، استبدل دبلوماسيون أمريكيون مرشحا واحدا في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بمرشح حصل على عدد أقل من الأصوات، وفي مرحلة ما، هددوا بوقف المساعدة لهايتي بسبب النزاع.
علاوة على ذلك، واجهت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون الرئيس الهايتي آنذاك رينيه بريفال بشأن وضع ميشيل مارتيلي، المرشح المفضل لأمريكا، وبالفعل نُفذت مشيئة كلينتون، وفاز مارتيلي في تلك الانتخابات بأغلبية ساحقة.
وبعد سنوات من حكمه أيد مارتيلي، جوفينيل مويس خليفة له. حكم مويس، الذي انتخب عام 2016 بمرسوم، وتحول إلى التكتيكات الاستبدادية بموافقة ضمنية من إدارتي ترامب وبايدن. وعام 2021، عين مويس آرييل هنري رئيسا للوزراء بالإنابة، ثم ما لبث أن اغتيل مويس في تموز الماضي.
وماذا عن سياسة بايدن؟
حاليًا، يشرف بايدن على تدخل آخر في الشؤون السياسية لهايتي، وهو تدخل يقول منتقدوه إنه يقوم على دعم القادة الهايتيين المتهمين بالحكم الاستبدادي، إما لأنهم يقدمون المصالح الأمريكية أو لأن المسؤولين الأمريكيين يخشون عدم الاستقرار في آليات انتقال السلطة.
في المحصلة إن غريزة التدخل الأميركية في هايتي لها تاريخ من الفشل، فلغاية الآن الأزمة مستمرة، وتدخل واشنطن قائم. ورغم الهدوء النسبي، لم يطرأ أي تحسن على حياة معظم الناس حتى يومنا هذا. بعد اغتيال مويس، وقع الزلزال وتلته عاصفة استوائية، مما أدى الى تعميق الاضطرابات التي يبدو أن لا أفق قريبًا لانتهائها ما دامت يد أميركا متغلغلة في هذا البلد.
* المصدر : موقع العهد الإخباري