ما خلفية الهجوم على جورج قرداحي؟
فجأة، تمّ نبش مواقف قرداحي من الأرشيف، وجرى تزخيمها بمواقف تصعيدية صادرة عن السعودية، وعن مجلس التعاون الخليجي. هل حدث هذا الأمر بمحض الصُّدفة؟
السياسية- رصد:
لا تغيب عن الدوائر الرسمية في السعودية أغلبيةُ ما يُنشَر ويُبَثّ بشأن المملكة في أنحاء العالم العربي والعالم، وخصوصاً في العواصم النشطة. يصعب تصوّر أن البرنامج، الذي ظهر فيه جورج قرداحي وأطلق عبره مواقفه، لم ترصده الرياض في حينه. ثلاثة أشهر تقريباً مرّت على ما أدلى به الإعلامي المرموق، قبل أن يصبح وزيراً في حكومة الميقاتي المتعثرة حالياً. كان يمكن لمن يتربّص به أن يستعيد مواقفه بشأن “الحرب العبثية” على اليمن، وبشأن دفاع “أنصار الله عن نفسها في وجه اعتداء خارجي”، بعد تعيينه وزيراً بوقت قليل، أو قبل ذلك بأسابيع. لم يحدث ذلك. لم يُثِر الإعلام السعودي هذه المسألة، ولم تتطرّق إليها الجيوش الإلكترونية، ولا الناشطون أو كُتّاب الرأي.
فجأة، تمَّ نبش مواقف قرداحي من الأرشيف. وهي مواقف جاءت في سياق الرد على أسئلة طُرحت عليه. هل حدث هذا الأمر بمحض الصدفة؟
أُعيدت هذه المواقف إلى دائرة الضوء، وتمّ تزخيمها بمواقف رسمية صادرة عن المملكة السعودية، ثم عن مجلس التعاون الخليجي. كان في الإمكان أن تمرّ الحادثة من دون ضجيج، لو أن وراءها فقط ناشطين وهواةً في وسائل التواصل الاجتماعي. كان يمكن أن يتوقّف الأمر على آراء إعلاميين وكُتّاب أعمدة مقرّبين إلى دوائر الحكم في الرياض، وناشطين رقميّين، أو يقتصر الأمر على موقف صادر عن وزارة الخارجية السعودية، أو بيان من سفارة الرياض في بيروت. حدث ما يشبه ذلك عشراتِ المرات خلال السنوات الفائتة، سواء فيما يتعلّق بالعلاقات البينية بين الرياض وغيرها من الدول الخليجية، أو في ملفات أخرى.
لكنْ، أن تأخذ قضية قرداحي هذا المنحى التصاعدي، على الرغم من أنه كان يعبّر عن وجهة نظر خاصة قبل أن يصبح وزيراً في الحكومة، فهذا ينطوي على علامة استفهام كبيرة. سُرعانَ ما بدأت وسائل التواصل الاجتماعي تنقل عن “مصادر سعودية” أن “لبنان أمام أزمة دبلوماسية حادة بسبب تصريحات قرداحي المسيئة إلى الدول العربية”.
السفير السعودي في لبنان، وليد البخاري، أعاد تغريد التغريدة التي تتحدث عن الأزمة الدبلوماسية، وأخرى بشأن “مطالبة العشائر العربية في لبنان بإقالة القرداحي، أو استقالته”.
وزارة الخارجية السعودية استدعت السفير اللبناني في الرياض، وسلَّمته مذكِّرة احتجاج رسمية، جاء فيها أنّ تصريحات قرداحي قد تترتّب نتيجتها تبعات على العلاقة بين البلدين. الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبّر عن رفضه التام تصريحاتِ وزير الإعلام اللبناني، مطالباً إياه بالاعتذار، واعتبر أن “على الدولة اللبنانية أن توضح موقفها تجاه تلك التصريحات”.
هذه المواقف التصعيدية استدعت تحركاً عاجلاً من الجانب الرسمي اللبناني. وزارة الخارجية اللبنانية أعلنت أن الكلام “الشخصي”، والذي صدر عن وزير الإعلام قبل تعيينه وزيراً، “لا يعكس موقف الحكومة اللبنانية، ولا بيانها الوزاري، الذي يتمسّك بروابط الأخوّة بالأشقّاء العرب”.
بدوره، أكد بيان صادر عن المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة اللبنانية أن كلام قرداحي، الذي صدر قبل انضمامه إلى الحكومة، “مرفوض، ولا يعبّر عن موقف الحكومة إطلاقاً”.
بمعزل عن أن موقف قرداحي ليس غريباً، ولا استثنائياً ولا فريداً من نوعه، لا في لبنان ولا في العالم، إذ سبق أن وصف الأمين العام للأمم المتحدة العدوانَ السعودي على اليمن بأنه “حرب عبثية”، عدا عن أن موقف حزب الله، وهو طرف أساسي في الحكومة، معروف ومعلَن، ويتجاوز بأشواط موقف قرداحي، فإن سلوك السعودية يستدعي التوقف عنده، والسؤال عن خلفياته وأهدافه المضمَرة.
عموماً، تأتي هذه التطورات في ظل ظروف صعبة ومعقَّدة تمرّ فيها السعودية، كما تأتي في ظل كباش ومنعطفات خطيرة يمرّ فيها لبنان، كان آخرها كمين الطيونة.
قبل أيام، أكّد الرئيس اللبناني، ميشال عون، أن لا عودة إلى الحرب الأهلية، وأن تداعيات الأحداث الأمنية الأخيرة طُوِيَت. في موازاة ذلك، أعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أنه يتطلّع “إلى معاودة جلسات مجلس الوزراء في أقرب وقت”. مواقف قد لا تلائم أطرافاً خارجية، على رأسها الولايات المتحدة ومَن يدور في فَلَكها. أن يكون لبنان مستقراً، وضعٌ يتنافى مع مصالح أطراف تعمل منذ عامين بعكس هذا التوجه، وتحاول إبقاء البلد تحت الضغط والإنهاك، في سبيل انتزاع تنازلات سياسية من المقاومة.
ليس غريباً، في هذا الإطار، أن تُتَّهَم الرياض بالوقوف خلف سمير جعجع؛ الحصانِ الذي تراهن عليه في المدة الأخيرة، سواء في أحداث كمين الطيونة، أو ما سبقها في خلدة من أحداث، هدفها استفزاز المقاومة وجرُّها إلى معارك تطيح الاستقرارَ، وتساهم أكثر في تطويقها واستنزافها.
إقليمياً، تخوض السعودية منذ فترة مفاوضات بعيدةً عن الإعلام مع الجانب الإيراني، وتشارك فيها من موقف الضعيف، الذي لا يملك كثيراً من الأوراق. وهي، إذا أرادت أن تقايض، فإنها تجد نفسها في موقف لا يساعدها على إجراء أي مساومة. فهي وعدت عام 2017، على لسان محمد بن سلمان، بنقل المعركة إلى داخل إيران، من دون أن تنجح في ذلك، ليعود وليّ العهد السعودي ويصرّح، في لقاء تلفزيوني، في نيسان/أبريل المنصرم، بأن إيران “دولة جارة لبلاده، وأن ما تسعى إليه السعودية هو علاقة طيبة ومميزة بها، على نحو يخدم مصالح البلدين”.
أيضاً، تعاني السعودية مأزقاً بالغ الخطورة في اليمن، وهو وضع يُتوَقَّع أن تكون له انعكاسات على أمنها القومي، ويهدّد مستقبل محمد بن سلمان، بحيث يُنتظر أن تنقلب المعادلة هناك، وينفرج المشهد عن موازين جديدة خلال الأيام القليلة المقبلة، بعد تحرير مأرب.
يمكن القول إن موقف السعودية في اليمن في غاية الحراجة، ولا توازي هذا الخللَ أيُّ ورقة قوة تمتلكها، بعد أن باتت مأرب في حُكم الساقطة عسكرياً. بعد أن يستتبّ الأمر لصنعاء، من الطبيعي أن تبدأ مرحلة جديدة تحكمها المعادلات الميدانية، بحيث لا يعود هناك أيُّ التباس أو شُبهة في انقلاب المشهد والمعادلات في غير مصلحة السعودية، التي سبق أن طلبت من طهران التدخُّل، بحسب تقارير إعلامية، من دون أيّ تجاوب من جانب إيران، حليفة اليمنيين.
هذا يستتبع القول إن عامل الوقت ليس في مصلحة المملكة، التي تستعجل، على ما يبدو، الدخول على الملف اللبناني، ويمكن أن توفّر لها قضية قرداحي ذريعة أو مدخلاً للعودة النشطة إلى ملف الحكومة اللبنانية، إذ يتعذّر على السعودية أن تستكمل مفاوضاتها مع إيران بعد أن تكون خسرت الملفين اللبناني واليمني، على نحو كامل.
يأتي ذلك بعد أن حاولت الرياض، عدّة مرّات، تفجير الوضع اللبناني، من دون أن تفلح في ذلك. فبعد أحداث خلدة، اتَّهم الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، السعودية علناً بالسعي لجرّ لبنان إلى حرب أهلية.
السعودية، التي فشلت في تفجير الساحة اللبنانية أكثر من مرة، كما يتَّهمها خصومها، يبدو أنها تحاول التعويض عن ذلك من خلال اختلاق مشكلة الوزير قرداحي، وإحراج رئيس الحكومة وأطراف أخرى تعدّها حليفة، من أجل تفجير الحكومة اللبنانية، لإحداث فوضى تطيح الاستقرار، وتساهم، من جهة أخرى، في التغطية على مأزق حليفها سمير جعجع.
فبعد كمين الطيونة انقلب المشهد، وأصبح جعجع وحزبه في موقف المحاصَر والضعيف، إذ يبدو أن الملف، الذي يتولاه مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية فادي عقيقي، يحتوي على أدلة مُحْكَمة تُوَرِّط حليف السعودية الأول، الأمر الذي جعل البطريرك الماروني بشارة الراعي يتولى بنفسه محاولة إيجاد مَخرج لهذه الأزمة، واقتراح مقايضات من أجل إخراج جعجع من هذه الورطة، كما تنقل تقارير إعلامية لبنانية. في حال سار الملف قضائياً إلى خواتيمه، يُحتَمل أن يقود ذلك إلى إدانة جعجع قضائياً، بسبب تورُّطه في الملف، وهذا من شأنه أن يُحرق الورقة الأقوى، أو الحصان الذي تراهن عليه المملكة، التي تعود لتجرّب من جديد مساراً آخر يوصلها إلى أهدافها، ولن تكون إثارة قضية قرداحي آخر تلك المحاولات، على الأرجح.
المصدر : الميادين نت
المادة الصحفية تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع