المفاوضات السعودية-الإيرانية..هل تشكّل الرياض غطاءً لتراجع واشنطن؟
بينما ينتظر أطراف إقليميون ودوليون نتائج هذه المباحثات وما ستؤول إليه، هناك الكثير من التساؤلات حول الموضوع يفرض نفسه.
شارل أبي نادر *
بعد الإعلان عن محادثات رسمية بين إيران والسعودية، وصفتها الأخيرة بدايةً بالاستكشافية، ها هي تسلك اليوم بأكثر من خمس جولات حتى الآن، مترافقة مع أجواء إيجابية تخرج عن الطرفين بشكل واضح. وحيث ترتبط نسبة كبيرة من التوترات والنزاعات في المنطقة، وفي أغلب ملفاتها، بسياسة وتوجهات وموقف كل من الدولتين، تأخذ هذه المباحثات أهمية فوق العادة، وحيث ينتظر أطراف كثيرون، إقليميون ودوليون، نتائج هذه المباحثات وما ستؤول إليه، هناك الكثير من التساؤلات حول الموضوع يفرض نفسه:
هل يوجد إمكانية معقولة للوصول إلى تفاهمات جدية بين الدولتين الإسلاميتين الأكثر خصومة واشتباكاً في ما بينهما في المنطقة، والتي تبدو ارتباطاً بهذا الخلاف، أشبه بمعسكرين معاديين؟
في حال نجاح المفاوضات، هل سينسحب ذلك على ملفات المنطقة كافة؟ أم أن النجاح سوف يكون محصوراً في ملفات محددة؟
ما هي العراقيل الحالية أمام الوصول لتفاهمات بين الجانبين وإمكان التغلب عليها؟
والسؤال الأهم يبقى: الى أي حدّ تملك السعودية قدرة على اتخاذ قرارات منعزلة عن المواقف والتوجهات الأميركية، وخاصة أن أغلب نقاط الخلاف أو الاشتباك بين الرياض وطهران تدخل من ضمن استراتيجية واشنطن المتعلقة بمواجهة إيران واستهدافها؟
بداية، أن تتجاوز جولات المفاوضات حتى الآن خمس جولات، هذا عدا غير المعلن منها سابقاً، كجولات تحضيرية غير مباشرة، فهذا يعني أن أسس التفاوض متينة كما يبدو، وأنه يوجد إمكانية للتفاهم حول عدة نقاط من التي تُبحث، وإلّا لكانت قد انتهت هذه المفاوضات أو عُلِّقت، من دون الاستمرار في إضاعة الوقت من دون جدوى.
من الواضح، وبحسب معطيات النقاط الخلافية المعروفة، والتي كانت تظهر دائماً في الإعلام أو السياسة، هناك عدة أنواع أو نماذج من الملفات الخلافية بين الدولتين، والتي يمكن تصنيفها ضمن عدة أقسام مختلفة:
– نموذج الملفات الخلافية المحصورة بين الدولتين فقط، مثل العلاقات الدبلوماسية والتبادل التجاري والاتفاق على حصص إنتاج النفط وتصديره، إضافة إلى إجراءات الحج للأماكن الدينية في السعودية، والتي كانت من الأسباب المباشرة لازدياد منسوب التوتر، الذي أدى مباشرة إلى وقف العلاقات الدبلوماسية – حادثة التدافع الدموية في “منى” في السعودية عام 2015.
هذه الملفات المذكورة أعلاه، من المحتمل جداً التوصل إلى تفاهمات بشأنها، مع تعادل إمكانية البتّ النهائي فيها بشكل مستقل، قبل انتهاء المفاوضات كاملة، أو إمكان تأجيل قرار بتّها إلى ما بعد الإعلان عن انتهاء التفاوض، بتفاهمٍ كامل، أو من دون تفاهم (فشل المفاوضات)، ومن الواضح هنا أن السعودية تملك قدرة شبه كاملة على اتخاذ القرار المستقل بشأن هذه الملفات، من دون الرجوع إلى الأميركيين.
– نتكلم أيضاً عن نموذج آخر من الملفات التي تشتركان فيها (السعودية وإيران) مع دول أو أطراف أخرى، مثل ملف الحرب على اليمن، وملف لبنان وحزب الله، وما تعتبره الرياض أو ما تدّعيه: مساعدة إيران لـ”أنصار الله” في الحرب على اليمن بكامل القدرات، وهيمنة حزب الله على الدولة اللبنانية بدعم ودفع من إيران، وعلى أساس ادعائها هذا، أولاً تربط وقف عدوانها على اليمن بسحب إيران يدها من الملف، وثانياً تربط مساعدتها للبنان أو تسهيل مساعدته من قبل الدول الخليجية التي تمون عليها الرياض، بإنهاء هذه الهيمنة على لبنان – كما تدّعي.
أن تكتمل التفاهمات حول هذه الملفات الحساسة (ملفي لبنان واليمن)، فهذا يحتاج حتماً إلى مشاركة جميع الأطراف المعنيين، مباشرة أو عن طريق غير مباشر، وخاصة “أنصار الله” في اليمن، وحزب الله في لبنان، حيث الطرفان، ومع التزامهما الثابت بالتضامن مع استراتيجية محور المقاومة، فإنهما معروفان بامتلاكهما هامشاً واسعاً في اتخاذ القرار بشكل مستقل، لذلك، نتكلم هنا عن مستوى أعلى من التعقيدات، لتداخل تلك الملفات مع الأطراف الإقليميين المذكورين أو مع أطراف أخرى، وخاصة ما يتعلق بموقف كل من واشنطن و”إسرائيل” بالنسبة إلى حزب الله و”أنصار الله”، إضافة أيضاً إلى وجود ارتباط غير بسيط في هذه الملفات بالمفاوضات بين إيران وواشنطن.
وهنا يمكن أن نتكلم عن صعوبة لا عن استحالة في التوصل لتفاهمات، حيث تمتلك السعودية هامشاً معيناً، تستطيع أن تناور عبره، في موضوع اليمن مثلاً، بمجرد أن تخفف عدوانها وترفع حصارها وتوجه حلفاءها اليمنيين للانخراط في تسوية سياسية، حيث لو حصل ذلك، فإن الأمر سوف يسهّل على إيران الاتفاق مع “أنصار الله” للسير بتسوية معينة تنهي ملف الحرب على اليمن. وفي موضوع لبنان، الرياض قادرة على أن تفصل الموضوع السياسي عن الاقتصادي، وتسهّل مساعدة لبنان إنسانياً واجتماعياً، كما حصل عبر الأردن ومصر، وطبعاً بغطاء أميركي أو بغض نظر أميركي.
ويبقى نموذج الملفات التي تحتاج إلى موافقة أو إلى رعاية أميركية كاملة، ويمكن تصنيف هذه الملفات حسب التالي:
– ملف النفوذ في المنطقة، والمتعلق عملياً بعلاقة طهران مع أطراف محور المقاومة، حيث يجمعها مع هذه الأطراف موضوع القضية الفلسطينية ومواجهة “إسرائيل”، وهذا الأمر الذي لا تفهمه السعودية هكذا، أو لا تريد أن تفهمه هكذا، لأن واشنطن لا تسمح لها بأن تفهمه هكذا، بل تحاول السعودية دائماً الإيحاء بأنها معنية ومستهدفة به بشكل أساسي، من منطلق أنها تضع نفسها في موقع المنافس الأول إقليمياً لإيران، بينما عملياً، يرتبط الملف بواشنطن بشكل كامل، وبموقعها كحام أساسي لـ”إسرائيل”، بالرغم من أن واشنطن تعطي الرياض (في الظاهر فقط) صفة المعني بملف التنافس مع إيران، والسبب يبقى من باب التحريض من جهة، ومن باب استغلال المملكة مالياً وسياسياً من جهة أخرى.
– ملف الأمن في الخليج هو ملف متشعب ويحتاج إلى رعاية أميركية كاملة، مثل ملف النفوذ في المنطقة، ويحتاج أيضاً إلى رأي وقرار لاعبين غربيين معنيين بالتجارة الدولية وبالملاحة البحرية في الخليح وبحر العرب وخليج عمان ومضيق هرمز، وحيث يترابطان (الملفان) أولاً، ويرتبطان بـ”إسرائيل” بشكل كبير ثانياً، بالرغم من أن السعودية تحاول أن تظهر أنها معنية أساسية بملف الأمن في المنطقة، فإن التفاهم مع إيران على هذين الملفين يتجاوز السعودية طبعاً.
هذا في ما خصّ السعودية وموقعها أو إمكانية قدرتها على التفاهم حول الملفات المذكورة. أما في ما خصّ إيران، فلا شك في أنها قادرة على بتّ جميع الملفات التي يمكن أن تكون قد تطرقت إليها الرياض في هذه المفاوضات، حيث لا أحد قادر على أن يُملي عليها السير بأي ملف من دون اقتناعها به، والبرهان على ذلك، أغلب مسارات التفاوض المتشعّبة التي سلكت فيها مع واشنطن ومع الاتحاد الأوروبي، ومع قسم كبير من المجتمع الدولي، قبل الاتفاق النووي وخلاله وبعده، والأهم في هذا المسار (بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي)، يمكن تلمّسه في القرارات الجريئة التي اتخذتها، متحدّية أغلب اللاعبين الدوليين الكبار.
في النهاية، من غير المستبعد أن تتوصل السعودية وإيران إلى تفاهم واسع حول عدة ملفات، منها بالأساس الملفات الخاصة فقط بالطرفين، والتي ذُكرت أعلاه، ومنها بعض الملفات الأخرى ذات الطابع الإقليمي، وذلك يتم بنحو تظهر فيه السعودية أنها المفاوض والمقرّر فيها، ويكون الأمر برعاية وتوجيه وعناية أميركية، والهدف: تغطية تراجع واشنطن في هذه الملفات أمام الثبات والصبر الاستراتيجي الإيراني، وإعداد الأرضية المناسبة لاقتناع إيران بالعودة إلى فيينا، فيكون في الظاهر هناك تفاهم على هذه الملفات من خلال تجييرها للسعودية والتفاهم عليها مع إيران.
* المصدر : الميادين نت
* المادة التحليلية تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع