السياسية  :

وقف قائد أفغاني يتذكر الأهوال التي ذاقها في سجن باغرام على يد سجانيه، وهو لا يصدق أنه أصبح الآن سيداً لهذا المكان، بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.

إذ تحول سجن باغرام إلى مزار لقادة وأعضاء طالبان مثل أنس حقاني “الذي دخله وهو في العشرين من عمره”، بعدما كان مكاناً لتعذيبهم واعتقالهم، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية

سجن باغرام من مركز للحرب الأمريكية إلى مزار لطالبان

جلس مالوي حافظ محب الله مكتاز، الزعيم الديني والمقاتل من قندهار، الذي يبلغ من العمر 35 عاماً، في برج المراقبة لما كان في يوم من الأيام المركز العصبي لحرب أمريكا في أفغانستان، وقد بدا لحظتها ملكاً على كل ما تقع عليه عيناه.

وقال مالوي، بابتهاج: “لم نصدق، ولا في أقصى أحلامنا، أننا قادرون على هزيمة قوة عظمى مثل أمريكا ببنادق الكلاشينكوف فقط”، بينما يحدق في قاعدة باغرام المترامية أمامه على مساحة مدينة صغيرة وبقيمة مليارات الدولارات.

لا توجد قاعدة أمريكية أخرى في أفغانستان تلخص صعود وهبوط هذه المهمة التي استمرت 20 عاماً، أكثر مما تفعل باغرام، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.

الأمريكيون غادروه دون إخبار حلفائهم الأفغان

وهجرت القوات الأمريكية ليل 1 يوليو/تموز ما كان سابقاً مركز النقل واللوجستيات الرئيسي للتحالف الدولي، والقاعدة الجوية الرئيسية للمهام الهجومية لطائرات التحالف. وفي طريقها للخارج، أوقفت القوات الأمريكية إمدادات الكهرباء والمياه قبل الفرار دون إخبار حلفائها الأفغان بما تعتزم فعله.

لقد كانت لحظة زادت من الشعور المتنامي بالخيانة بين الأفغان الموالين للغرب. وفي وقت لاحق، تعرض الرئيس بايدن، الذي انتهت عمليته الفوضوية للإخلاء من مطار كابول الدولي في 30 أغسطس/آب، لانتقادات شديدة لأنه ترك باغرام، التي تمتعت بالإمكانات والأمن اللازمين لإخلاء أفضل. وبالنسبة لمقاتلي طالبان الذين يمشطون بعناية الآن القاعدة الأمريكية الشاسعة المهجورة، فإنَّ قاعدة وسجن باغرام هي قمة الانتصار الملموسة.

سجن باغرام

وأضاف مالوي: “بالنسبة لأية قوة أجنبية تفكر في مهاجمة أفغانستان، انظروا إلى باغرام الآن وتعلموا الدرس جيداً قبل الشروع في أي مسعى أحمق. انظروا إلى التكنولوجيا الغربية الجبارة وهي تخضع هنا لمقاتلينا”.

وتغير مزاجه من فرحة إلى ارتباك أثناء توجهه بالسيارة إلى القاعدة لأخذ صحيفة The Times البريطانية في جولة. وقال: “لقد كنت هنا منذ عشرة أيام وهي ضخمة جداً لدرجة أنني ما زلت غير قادر على تحديد الاتجاهات بنفسي”.

وتخلّت قوات الأمن الأفغانية أخيراً عن القاعدة التي أسسها الاتحاد السوفييتي قبل عقود، والواقعة على بعد 90 دقيقة شمال كابول، في 15 أغسطس/آب عندما اقتحمت وحدات من طالبان العاصمة. وأطلقت طالبان سراح مئات السجناء المحتجزين في مرفق الاحتجاز سيئ السمعة في القاعدة، بما في ذلك العشرات من سجناء “داعش-خراسان”.

قائد أمريكي بارز يعترف بالكارثة التي تسبب بها سجن باغرام

وعُرِف عن أحد مرافق الاحتجاز السابقة في باغرام تعرض سجنائه لانتهاكات على أيدي آسريهم؛ فقد تعرض اثنان على الأقل للضرب حتى الموت في ديسمبر/كانون الأول 2002. وبُني مرفق جديد في عام 2009 أصبح فيما بعد السجن الرئيسي للأفغان الذين اعتقلتهم القوات الأمريكية خلال الحرب. وفي أوج ازدحام السجن في عام 2011، ضم أكثر من 3000 معتقل، بمن فيهم مقاتلو طالبان وقادة إرهابيون، أي أكثر من 18 ضعف عدد السجناء في خليج غوانتانامو.

سجن باغرام

ولطالما اكتنف هذا السجن جدلٌ. ففي تقرير مُسرّب في عام 2009، وصف الجنرال ستانلي ماكريستال، أحد القادة الأمريكيين الأكثر احتراماً وصاحب بصيرة في أفغانستان، مرفق احتجاز باغرام بأنه مكان “يختلط فيه الإسلاميون المتشددون بعشوائية مع المجرمين الصغار ومرتكبي الجرائم الجنسية، وهم يستغلون الفرصة لدفعهم للتطرف وتلقينهم الأفكار.. والمئات محتجزون بدون تهمة أو بدون مسار محدد أمامهم”.

خلاصة القول، أشار ماكريستال إلى أنَّ نظام السجون الأفغاني أصبح ساحة تجنيد وتخطيط غير خاضعة للرقابة للمتمردين. وكتب: “يوجد عدد أكبر من المتمردين في كل متر من مرافق الإصلاحيات أكثر من أي مكان آخر في أفغانستان. وينسق قادة طالبان/القاعدة ويخططون بصبر ودون رادع، لا يشغلهم تدخل موظفي السجن أو الجيش”.

الأمريكيون احتفظوا بمعتقل سري يسمى السجن الأسود

ونُقِلَت المنشأة إلى السيطرة الأفغانية داخل قاعدة باغرام في عام 2012، ومع ذلك، يُعتقَد أن الأمريكيين احتفظوا بسجنٍ أصغر تحت الأرض يُعرف باسم “السجن الأسود”.

لم يُكشَف عن التفاصيل الكاملة لهذا الموقع، الذي تديره وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية وعناصر من القوات الخاصة، وتحول وجوده الآن إلى أسطورة معاصرة.

والتقت صحيفة The Times عدداً من مقاتلي طالبان في بغرام وهم يجوبون القاعدة الجوية لإثبات وجود هذا السجن، بعد شائعات بأنَّ حراسهم الأفغان تخلوا عن أسرى رفيعي المستوى وتركوهم يلاقون الموت في زنازينهم ذات الإجراءات الأمنية المشددة.

وبالنظر إلى أنَّ قيادة طالبان لم تذكر القصة مطلقاً، يرُجّّح أنها ليست أكثر من مجرد أسطورة، لكنها لم تكن أقل أهمية في أذهان من هم هناك.

تعرية وغمر بالماء البارد وتعليق بالسلاسل

وكان من بين السجناء المهمين العديدين في مركز الاحتجاز، أنس حقاني، الشقيق الأصغر لسراج الدين حقاني، قائد الشبكة التي تحمل اسمه وأحد أقوى الرجال في أفغانستان. وكان أنس حقاني يبلغ من العمر 20 عاماً عندما اعتُقِل في البحرين عام 2014 واحتُجِز في باغرام حتى إطلاق سراحه في عملية تبادل للأسرى استعداداً لجولة محادثات السلام بعد أربع سنوات.

قاد الزعيم مكتاز الطريق إلى قلب المنشأة الأمريكية الشاسعة ذات الإضاءة الخافتة؛ حيث الكآبة القاتمة من الأقفاص وغرف الاستجواب وشاشات المراقبة التي انتشرت عليها القيود والأصفاد ومعدات مكافحة الشغب. هنا يقبع الجزء السفلي المظلم من حرب أمريكا.

وشكَّل ممر مركزي ضخم العمود الفقري للسجن. وعلى أحد جوانبه، توجد أنظمة أقفاص بحجم المستودعات، مع أسقف على شكل قضبان كان يجوبها الحراس سابقاً، والضوء مُسلّط عليها لحرمان السجناء من النوم عند الحاجة.

وعبر شقّ في الحائط، ظهر القائد مولوي أحمد شاه، 44 عاماً من هلمند، مع حراسه الشخصيين والوفد المرافق له. وكان قد احتُجِز في بغرام مرتين: مرة في عام 2002 في السجن الأصلي ومرة ​​أخرى بعد عام 2009 في مرفق الاحتجاز الأحدث، حيث احتُجِز في قفص لمدة ثلاث سنوات ونصف، في البداية من قبل الأمريكيين ثم من الأفغان. قال إنه عاد عشية الانسحاب الأمريكي الأخير ليرى مكانه في الأسر لحظة النصر النهائي.

وقال القائد مولوي أحمد شاه: “في المرة الأولى، تعرضت للتعذيب عدة مرات على يد الأمريكيين. جُرِّدت من ملابسي وغُمِرت بالماء البارد عارياً، وعُلّقت في سلاسل وضُرِبت. لقد تعرضت للإذلال بطرق لا أستطيع وصفها، وغالباً ما كانوا يصورونني أثناء فعل ذلك”.

وأضاف: “في المرة الثانية التي احتُجِزت فيها، كانت الفترة أطول، لكن لم يكن النظام بهذا السوء، ومع ذلك كان لا يزال قاسياً”.

كان يتنقل بين أقسام مجمع زنازين واحد، حيث يضم كل قسم ما بين 24 و30 فرشة بالداخل، وفحص بإيجاز الصور على الجدران التي رسمها السجناء وحرك بقدمه ثياب السجناء البرتقالية التي تركوها خلفهم. وقال أحمد شاه: “كان من الصعب أن أتخيل أنَّ هذا اليوم سيأتي عندما كنت محتجزاً هنا؛ حيث كان الحراس الأمريكيون يمشون على قضبان السقف فوق رؤوسنا وهم يحدقون فينا، ويوجهون الأضواء الساطعة إلينا كلما رغبوا في ذلك، وينظرون إلينا طوال الوقت، ونخضع للاستجواب ونتعرض للإهانة”.

وكشفت زنازين أخرى، أصغر حجماً وبدون نوافذ، عن ظروف قاسية. وفي العديد منها، ترك السجناء بصمات أصابع كثيفة الرماد على الجدران في كتابات تعبر بلا لبس عن اليأس والإحباط. وبجانب زنزانة صغيرة تحمل علامة “غرفة المقابلات”، شوهدت قيود جلدية للأطراف تضمنت حبالًا للأصابع.

ووسط كآبة الموقع المروع، وبينما يدوس مكتاز على المخلفات من خوذات الحراس وأكوام الأصفاد ومجموعات الدروع الواقية للبدن، وتعلو رائحة كريهة لحصص الطعام الفاسدة والعرق العَفِن لملابس السجن المهجورة، علَت ملامحه نظرة انتصار أخيرة لن يتمنى الغرب السماع عنها.