الهروب من الجحيم.. هل يحفظ للولايات المتحدة ماء وجهها..!
السياسية – تحليل : نصر القريطي
هل طوى الأمريكان صفحة الحادي عشر من سبتمبر 2001 والـ17 من ديسمبر من نفس العام أم أنهم فتحوا صفحة الخامس عشر من اغسطس والـ31 من أغسطس من هذا العام.
بين المرحلتين عقدين من الزمن دمّر فيها الأمريكان وقوات التحالف الدولي وحلف الناتو هذا البلد المسلم.. لكن بين التاريخين أيضاً قصة انكسار للغزو الأمريكي الذي خرج وهو يجر أذيال الخيبة بعد 20 عاماً من وهم الانتصار.
لا نتحدث هنا عن دفعات معنوية وعبارات فضفاضة تناسب الحدث العظيم لكننا نتحدث عن فشلٍ لأطول الحروب الأمريكية على الاطلاق فيما وراء الحدود فبعد تاريخ اليوم الـ31 من أغسطس 2021 سيكتشف العالم حجم الهزيمة التي مرّغت انف الولايات المتحدة في تراب قبائل البشتون.
لم يخلّف الأمريكان خلفهم خيبتهم وخسارتهم فقط بل خلفوا وراءهم أسلحة ومعدات عسكرية متطورة قال عنها وزير الدفاع الروسي في حديثٍ نقلته “وكالة سبوتنيك الروسية” إن “الولايات المتحدة تركت وراءها العديد من الأسلحة عالية الدقة في أفغانستان تشمل أنظمة دفاع جوي محمولة وصواريخ موجهة مضادة للدبابات”..
هل كانت واشنطن قادرةً على سحب كل هذا العتاد العسكري الذي ظلت تكدسه في هذا البلد الذي غزته طيلة عشرين عاماً.. الجواب هو بالتأكيد لا وألف لا..
فعلى ماذا تفاوض الأمريكان مع طالبان طيلة شهور طويلة في الدوحة إذن..!
لعلّه البحث عن مخرج آمنٍ ومشرف.. نعم هذا هو ما فاوضت عليه إدارتي ترامب وبايدن حركة طالبان في كواليس العاصمة القطرية.. لكن حسابات دهاة السياسة والحرب الأمريكيين لم تكن دقيقة هذه المرة.
ظن المفاوضون الأمريكيون أن تحديد موعدٍ زمني لمغادرة أفغانستان وإخراج جنودهم وعملاءهم من مطار كابول وبرعاية طالبان سيحفظ ماء وجههم وسيجعل هذه العملية تتم تحت يافطة ومسمى الانسحاب الأمريكي المبرمج من أفغانستان بعد تحقيق أهداف تحالف محاربة الإرهاب.
لكن ذاك لم يحصل على الاطلاق فالعالم كله نظر لصاحبة أقوى جيش في العالم وهي تهرب من أفغانستان تاركةً وراءها كل شي ولم تحمل معها غير جنودها وعملاءها وخزي الهزيمة وعار الانكسار.
ما حصل اليوم في أفغانستان ليس كما حصل في الصومال أو فيتنام في النصف الثاني من القرن الماضي وفي تسعينياته بل هو صورةٌ مختلفةٌ لهزيمةٍ لها ما بعدها من الآثار على الولايات المتحدة.
في تصريحٍ مقتضبٍ لـ”صحيفة الـ”جارديان” يصف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “توني بلير” الذي شُنَّت الحرب على أفغانستان في زمنه قرار الولايات المتحدة بالانسحاب من أفغانستان بالـ”معتوه”.
وصفت كبريات الصحف الأمريكية كـ”واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” الانسحاب الأمريكي المحتّم من أفغانستان بأنه مضللٍ وضَارٍ.
ظن الأمريكان أن مفاوضات الدوحة ستكتب لهم خروجٌ مشرفاً من أفغانستان فقط لأنهم سينسحبون بعد أن وضعوا أيديهم في أيدي حركة طالبان لكنهم تناسوا أن للعالم أعينٌ يرون بها وآذان يسمعون بها وعقولٌ تميز بين مشهد الانكسار والفشل والهروب وبين مشهد الانسحاب التكتيكي.
لربما سَلِمَ جنود الولايات المتحدة من الذبح والسحل على أيدي الأفغان كما حصل لهم من قبل في الصومال وفيتنام.. لكن سمعة الولايات المتحدة العسكرية والسياسية والدولية لن تعود بعد الواحد والثلاثين من أغسطس 2021 كما كانت عليه قبله على الاطلاق.
أشهرٌ قليلةٌ وسنذكركم بتداعيات هده الهزيمة وانعكاساتها الداخلية والإقليمية والدولية على إدارة ثعلب البيت الأبيض.
قد يصمد الديمقراطيون في البيت الأبيض والكونجرس لكن نفوذ الولايات المتحدة سينحسر في العالم لاسيما في المناطق الساخنة التي يدير فيها الأمريكان لعبة النفوذ والصراع.
تنقل شبكة “سي بي سي” عن “ماكس بوت” من مجلس العلاقات الخارجية أن فكرة واسعة الانتشار في أوساط نخب السياسة الخارجية الأمريكية تميل لإدانة بايدن باعتباره “مخطئاً بحق الولايات المتحدة بشكل مأساوي وكارثي”.
العراق بعد الحادي والثلاثين من أغسطس لن يكون كما قبله ومشاهد كابل ستتكرر وبصورةٍ أكثر دراماتيكية في شوارع بغداد لكن هذه المرة لن يخرج الأمريكيون تحت رعاية الحكومة العراقية أو الميليشيات العراقية المسلحة، كما حصل في كابول بل تحت ازيز رصاصاتها ونيرانها التي ستطارد الأمريكان.
هذا على المستوى الآني القريب أما في المنظور المتوسط فإن النفوذ الأمريكي في سوريا وليبيا وفي الكثير من بحور العالم كبحر الصين وربما البحر الأحمر وخليج عمان سيتراجع وينحسر.
وعلى المنظور البعيد من يدري لعل النفوذ العالمي الأمريكي في المنطقة ككل قد كتبت أول حروف نهايته على يد هؤلاء الذين سخر الأمريكان من قدرتهم على الصمود وحاربوهم طيلة عشرين عاماً.. ولم يتبقى اليوم سوى أن يضع أعداء الولايات المتحدة النقاط على بقايا حروف مرحلة الاستكبار الأمريكي في المنطقة.
يقول الكاتب الهندي “بان كاج ميشرا” في مقالة له على موقع “بلومبيرج” الأمريكي إن التهديد الحقيقي لأمن الغرب لا يأتي من “أرياف البشتون في أفغانستان” ولكن من نمط التفكير السائد في العاصمة الأمريكية واشنطن.
سيكتب التاريخ أن الأمريكي قد خرج من “أرض البشتون” هارباً يجرجر أذيال الخسارة ويذوق مرارتها وإن أدعى أنه قد انسحب منها بعد أن حقق كل أهدافه المزعومة فيها.
وسيكتب التاريخ أيضاً أن الغزاة والمحتلين لا يتعلمون من التاريخ ابداً ولو كانوا يعقلون لكانت “ثعالب البريطانيين” قد أشارت على “ضباع الامريكان” بأننا خرجنا منكسرين من دولٍ قضينا فيها قروناً من الزمن حتى ظننا أن بعض محمياتنا في آسيا هي جزءٌ لا يمكن أن ينفصل عن التاج الملكي البريطاني.
سيندحر العدوان السعودي الإماراتي عن اليمن وحينها لن يكون بمقدور السعوديين والإماراتيين أن يجروا أذيال هزيمتهم وانكسارهم معهم كما يحصل اليوم مع الأمريكان في أفغانستان لأننا سنودعهم وإياها تراب “أرض مقبرة الغزاة”.