السياسية – تحليل للكاتب – عباس الزين  :

تحليل البنية الاجتماعية لحركة “طالبان” وربطها بالتوسع العسكري خلال الأشهر الماضية، يشيان بأن الحركة خرجت من المدن التي سيطرت عليها، أكثر من كونها دخلتها.

لم تعد حركة “طالبان” إلى واجهة الأحداث الأفغانية مؤخّراً، بل هي في صلب الحدث، منذ اعتداء الولايات المتحدة على هذا البلد الآسيوي مطلع الألفية الحالية، بحيث استمرت مؤثّرة فيه وفي أحداثه، خلال العقدين الماضيين.

لذا، فإن الانطلاق في تحليل المشهد الأفغاني من كون “طالبان” حالةً طارئة برزت خلال الأشهر الماضية، يصبّ في الدرجة الأولى في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية، عبر الإيحاء بأنّ الفوضى هي نتيجة انسحابها من البلاد، لا وجودها فيها في الأساس.

“طالبان”.. حركة قومية – إسلامية

تَوَسُّع حركة “طالبان” السريع في الولايات الأفغانية يعطي تصوراً عن مدى تغلغل الحركة في المجتمع الأفغاني، وإلا فإنها كانت ستواجه صعوبة كبيرة في المحافظة على مكتسباتها ووجودها لمدة 20 عاماً، على الرغم من عدم تأثيرها في السلطة من حيث الريع أو العلاقات. وهنا، يجب التفريق بين “طالبان” وحركات أخرى، ظهرت في السنوات الأخيرة بمعزل عن الموقف، سياسياً وأيديولوجياً، باعتبار أن تلك الحركات لم تنطلق من حالة اجتماعية، وهو ما عرّضها لانتكاسات سياسية وأمنية سريعة، في سنوات قليلة، وربما خلال أشهر في بعض الحالات. ولربما يُعتبر تنظيم “القاعدة” في أفغانستان أفضلَ مثال على ذلك، بالإضافة إلى أشباهه على الصعيد الدولي.

في قراءة الخلفيات الأيديولوجية والقومية، فإن “طالبان” يُعَرَّف عنها بأنها حركة “قومية – إسلامية”. البعد الإسلامي مفهوم وواضح، لكن البعد القومي هو المهم في فهم تموضع الحركة في الداخل الأفغاني، وسرعة تحرّكها وصمودها الاجتماعي، على الرغم مما مر عليها من حروب ومعارك وضربات.

مقاتلو الحركة، في أغلبيتهم، ينتمون إلى القومية “البشتونية”، التي تمثّل نحو نصف تعداد سكان أفغانستان، وتتمركز على مساحة واسعة شرقاً وجنوباً. ويُذكر، في هذا السياق، أن قندهار الواقعة جنوبيّ البلاد والتي سيطرت عليها “طالبان” خلال اليومين الماضيين، هي ثانية أكبر مدن أفغانستان، وقد أخذت أهمية كبيرة خلال حكم “طالبان” للبلاد في تسعينيات القرن الماضي، مع تحوّلها إلى معقل للحركة، حيث تُعتبر موطناً رئيسياً لقومية “البشتون”، بعد أن كانت عاصمة للمملكة “البشتونية” في فترة من فترات القرن الثامن عشر، قبل أن تنتقل العاصمة إلى كابول لاحقاً.

تحليل البنية الاجتماعية لحركة “طالبان”، وربطها بالتوسُّع العسكري خلال الأشهر الماضية، يشيان بأن الحركة خرجت من المدن وسيطرت عليها، أكثر من كونها دخلتها؛ بمعنى أنها كانت موجودة هناك في انتظار اللحظة الملائمة للتحرك، وإلا فإن لا تفسير عسكرياً وسياسياً لسيطرتها على 17 ولاية (من أصل 34) في خلال تلك المدة حتى يوم 13 آب/أغسطس، ولا سيما أنها تحركت من الولايات والمدن الحدودية في اتجاه الوسط، وهي الجغرافيا التي تشكّل ثقلاً لوجستياً وأمنياً لمصلحة مسلّحي الحركة.

العلاقة بالدول المحيطة

يُنظَر إلى حركة “طالبان”، داخلياً وخارجياً، سياسياً وعسكرياً، على أنها تواجه حكومة مدعومة من الولايات المتحدة، ومن الغرب على نحو عام. وفي السؤال عن عدم مواجهتها القوات الأميركية بصورة مباشرة، فإن ذلك يتعلق بكون تلك القوات تنسحب من البلاد، وإلا فإنها كانت معرَّضة للهجمات، استناداً إلى تصريحات قادة الحركة، وإلى المرحلة التي سبقت “اتفاق الدوحة” في شباط/فبراير 2020، عندما تمّ الإعلان عن خريطة الطريق المتعلقة بانسحاب القوات الأجنبية.

لذا، فإن القوى الدولية تتعامل مع حركة “طالبان” ومسار تحركاتها في أفغانستان، وفق مسارين: المسار الأول له علاقة بقرب وجود الحركة من حدودها، وتأثير وجودها هناك فيها. والمسار الثاني يرتبط بالمشروع السياسي للحركة في أفغانستان، من جهة علاقتها بالغرب والشرق، في ظل ما تشهده الساحة الدولية من كباش سياسي محتدم.

يأتي الموقع الجغرافي لأفغانستان ليعطي البلاد دوراً جيوسياسياً مهماً جداً في هذا “الكباش”، فهي دولة لها حدود مباشِرة مع الصين وإيران، ومع معظم دول آسيا الوسطى، التي تدور في فلك روسيا. هذا كله يُضاف إلى المصالح الأميركية – الغربية فيها. واستناداً إلى ذلك، فإن المواقف الروسية الصينية بشأن التقدّم الذي أحرزته “طالبان” في الأشهر الأخيرة، تُقارَب من خلال مواجهة حركة “طالبان” للنفوذ الأميركي في البلاد، وعدم رغبة الحركة (وإنكارها) في أيّ مشروع سياسي مواجه لموسكو وبكين. وضمن هذا المسار، وصلت عدة وفود من “طالبان” إلى الصين خلال الأشهر الأخيرة للقاء المسؤولين الصينيين، من أجل طمأنتهم على مستقبل العلاقة، والتأكيد أن أفغانستان لن تتحول إلى قاعدة عسكرية أو أمنية ضدّ الصين، كما كانت تخطط الولايات المتحدة، والأهم من ذلك، أن الطرفين وضعا خريطة طريق لمشاريع واستثمارات صينية في البلاد.

وروسيا، التي بدأت سريعاً مناورات عسكرية مع دولٍ حليفة لها في آسيا الوسطى، صرّح مبعوثها الخاص إلى أفغانستان، زامير كابولوف، في تموز/يوليو الماضي، بأن “أكثر الاشتباكات نشاطاً تحدث في المقاطعات الشمالية المتاخمة لدول آسيا الوسطى، الحليفة والشريكة لروسيا”، لكنه رأى في الوقت ذاته أن خطوات موسكو جاءت لـ”منع انتشار النشاطات القتالية من أفغانستان إلى الدول المجاورة”. وناقش هذه المسألة “مباشَرة مع طالبان خلال زيارة وفدها موسكو”، والذي أكّد في حينها أن “الحركة لن تسمح بوجود تنظيم داعش في الأراضي الأفغانية”، مع تحذيرات روسيا المتكررة من أن عناصر تنظيم “داعش” ينتقلون من سوريا وليبيا إلى أفغانستان، في حين أن المناورات التي أجرتها، ولا تزال، مع طاجيكستان وأوزباكستان ودول أخرى قرب الحدود الأفغانية تحاكي القضاء على “مجموعات إرهابية تسللت إلى أراضي إحدى هذه الدول”.

التصريحات الروسية تلك، وما يرافقها من خطوات عملية، تشي بأن مخاوف موسكو لا تتعلق بالتوسّع العسكري لـ”طالبان” ضدّ حكومة كابول، بل بما ينتج منه من “أنشطة قتالية” يمكن أن تستغلها تنظيمات ودول أخرى، للتوسع نحو مناطق آسيا الوسطى، التي لطالما كانت هدفاً أميركياً على وجه التحديد. المبعوث الروسي إلى أفغانستان عبّر عن ذلك بقوله إن “عملية سحب القوات الأميركية من أفغانستان يجب ألا تتحوّل إلى نقل البنية التحتية العسكرية الأميركية إلى الدول المجاورة”، بينما وصف سيطرة حركة “طالبان” على مناطق في شمالي أفغانستان بـ”العامل الإيجابي الذي يوفّر أمن شركاء روسيا في آسيا الوسطى”.

كانت حركة “طالبان” حريصة على إيصال تطمينات إلى موسكو وبكين خلال الأشهر الأخيرة، تتعلق بمشروعها السياسي وتوسعها العسكري، وذلك انطلاقاً من رغبتها في فتح علاقات جديدة بهما، ستتركز في جزء كبير منها على مواجهة المشروع الأميركي في أفغانستان، والمنطقة بصورة عامة. تلك التطمينات تلقّتها روسيا والصين، وردّتا عليها بتطمينات مقابِلة بشأن قبولهما دوراً مؤثّراً لحركة “طالبان” في الحياة السياسية الأفغانية، بل دعمها ذلك، وجاء هذا الأمر بالتوازي مع حذرٍ له علاقة بالمخاوف من الفوضى التي يمكن أن تستغلها واشنطن ضدهما، من خلال تنظيمات إرهابية تتوغل نحو الأراضي الصينية، أو نحو آسيا الوسطى.

أمّا إيران، التي لطالما كانت متهمَة بعلاقات “خفية” بحركة “طالبان”، فإن موقفها قريب من الموقفين الروسي والصيني، من جهة منع انتشار الفوضى في المنطقة، وتحديداً على مقربة من حدودها. وعبّرت، في أكثر من مناسبة، عن أن أمن أفغانستان من أمن إيران، مع تشديدها على أن “حركة طالبان جزء من النسيج الأفغاني”. في المقلب الآخر، فإن “طالبان”، التي أعربت في كانون الثاني/يناير 2020، عن “حزنها الشديد” على استشهاد قائد “قوة القدس” قاسم سليماني، وتشديدها في حينه على “قتال الوحشية الأميركية”، أرسلت تطمينات مشابهة لإيران خلال زياراتها المتكررة لطهران، والتي كان أبرزها في كانون الثاني/يناير الماضي، حيث التقى وفد من “طالبان” وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، بينما تأتي عملية ضمان سلامة بعثة إيران في مدينة هرات الأفغانية، التي سيطرت عليها حركة “طالبان” مؤخَّراً، والتي تبعد 150 كلم عن الحدود الإيرانية، امتحاناً لهذه الضمانات، في الوقت الذي باتت أغلبية مساحة الحدود الأفغانية مع إيران تخضع لسيطرة “طالبان”.

إلى جانب استقبال طهران لجولات من المباحثات بين “طالبان” والحكومة الأفغانية، فإن مؤشرات متعدّدة يمكن رصدها، تشير إلى تبدّل في العلاقات بين إيران و”طالبان”، بعد أن كانت وصلت إلى شفير الحرب عام 1998 مع قتل الدبلوماسيين الإيرانيين في حينه. التبدُّل في مسار العلاقة يرتبط بالتغيرات التي طرأت على بنية “طالبان” وهيكليتها، ومشروعها أيضاً، وعلى الضمانات التي يمكن أن تقدمها في الداخل الأفغاني وخارجه، باعتبار أن لهما الأهمية نفسها بالنسبة إلى إيران، في الوقت الذي تحدثت عدة تقارير غربية عن تعاون أمني نشأ في السنوات الأخيرة بين قادة في “طالبان” وإيران لمواجهة القوات الأميركية.

يذكر أن مجلة “فورين بوليسي” تحدثت في العام 2016 عن تعاون بين إيران وحركة طالبان من أجل إقامة منطقة عازلة عند الحدود مع أفغانستان لدرء خطر تنظيم “داعش” وتأمين الحدود التي تصل إلى 572 ميلاً. وتمتد هذه المنطقة من ولاية هلمند جنوباً على طول الحدود باتجاه قندوز.

توتر أوروبي

بريطانيا رفضت فكرة الانسحاب الأميركي، والاتحاد الأوروبي هدَّد طالبان بـ”عزلة دولية”. تلك هي آخر التصريحات الأوروبية المتعلقة بالأحداث في أفغانستان. ففي مقابل الهدوء الروسي – الصيني – الإيراني بشأن التعامل مع التطورات الأفغانية، يبدو المشهد الأوروبي متوتراً وغير قادر على التعامل مع الأحداث على نحو يضمن المصالح والنفوذ، مع اشتداد الضغوط المتعلقة باللاجئين الأفغان في الدول الأوروبية.

على هذا النحو، يبقى الموقف الأوروبي ضبابياً، لكنه بالطبع غير مرحِّب بالتواصل الذي يجري بين “طالبان” وبكين وموسكو، وبالانهيار السريع للقوات الحكومية المدعومة منه. وفي انتظار اللحظات الأخيرة المتعلقة بالمشهد السياسي بعد المعارك، فإن الثابت أن الدول الأوروبية، في سياق انخراطها في حلف “الناتو”، لم تستطع فرض أجندتها الكاملة في أفغانستان، والنقاش لا يتعلق بهزيمتها أو انتصارها، بل بمستقبل وجودها في تلك المنطقة الآسيوية، انطلاقاً من أفغانستان. فبالطبع، ليس وصول “طالبان” إلى السلطة، بعد أكثر من 20 عاماً من الغزو، هو ما كانت تطمح إليه الدول الأوروبية المعنية بهذا الملف.

ماذا تريد واشنطن؟

في الداخل، حركة “طالبان” أمر واقع لا يمكن تجاوزه أو القفز فوق انتشاره اجتماعياً وسياسياً، وحتى ثقافياً. وفي الخارج، فإن الحركة استطاعت فرض نفسها لاعباً إقليمياً، وفتحت المجال لمن يريد التفاهم معها على نحو يضمن مصالحها ومصالح الطرف الآخر. وهنا تحديداً، من الصعب القول إن الانسحاب الأميركي جاء بعد اكتمال المهمة، وإنه مقصود، فالتساؤلات التي تتعلق بمستقبل المشروع السياسي لأفغانستان في أكثر من صعيد لا تشكل قلقاً لخصوم أميركا، بل لحلفائها. هذا ما تثبته الوقائع والتصريحات والأحداث الأفغانية نفسها، لكن مع افتراض أن واشنطن تبحث عن ثُغَرٍ لاستغلال التطورات الأفغانية لمصلحتها، وأنها تركت الساحة الأفغانية لـ”طالبان”، فإن الخصوم يسيرون أمامها لسد تلك الثُّغَر، من الحدود الشمالية مع حلفاء روسيا، إلى الشرقية مع الصين، وصولاً إلى تلك الغربية، حيث إيران.

المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من موقع الميادين نت