نقولا طعمة*

تنضمّ حِرَفة التحنيط، المعروفة عالمياً بــ taxidermy، إلى أسراب المهن والحرف والأعمال المتضررة بقوّة من الأزمة التي تعصف بلبنان، وما يجعل أضرارها مُتميِّزة عن سواها أن الأعمال فيها توقّفت بصورة تامة.

هواة التحنيط في لبنان كُثُر، لكن المُحتَرفين الذين جعلوها مهنتهم للارتزاق، علاوة عن الشغف، قلّة إن لم نقل نوادر. لكن أبرزهم هو سليم شميطلي الذي قذفت به إحدى قذائف الحروب العبثية في لبنان إلى ألمانيا للعلاج. وكانت الصدفة أن تعرَّف على مهنة التحنيط التي أصبحت أكثر إثارة في حياته، رغم صعوباتها وتعقيداتها.

من أهمّ ما يجعل التحنيط مهنة إثارة هي أنها تُعتَبر نوعاً من أنواع المسابقات العالمية، والتدرُّج فيها بطيء وشاقّ، وكلما تقدّم المُحنِّط فيها اكتشف آفاقاً جديدة، ومجالات أوسع بوسع الطبيعة التي ترفدها بعناصرها، خصوصاً من طيور وحيوانات.

ورغم الإنجازات الكبيرة التي حقَّقها شميطلي في مُحْتَرفه على طريق الأوزاعي المؤدّي إلى الجنوب اللبناني، من تحنيط حيوانات وحشية، وطيور كاسِرة لا يدرك سرّها إلا قلائل، فإن آخر مُساهماته كانت في بطولة أوروبا الــ 11 المفتوحة عام 2018.

بطولة أوروبا العالمية

شميطلي مشاركاً في تحضير قالب التحنيط في مهرجان أوروبا

أقيمت البطولة في مدينة سالسبورغ في النمسا، وتقام كل ثلاث سنوات في أوروبا، ويُفيد شميطلي للميادين الثقافية أن: “بعض أبطال العالم في التحنيط دعوني للمشاركة، وذلك بعد مرور 4 سنوات على خبرتي وتجربتي في المجال، وشاركت بقطعتين في هذه البطولة التي شارك فيها نحو 300 مُتسابق من كافة أنحاء العالم”.

ويروي شميطلي كيفيّة مشاركته، فــ “القطعتان اشتغلتهما لدى شقيقي في منزله في النمسا، وهما ثعلب وغُراب، وعرضتهما في صالة المنافسة، ومن ضمن العديد من الدورات (Seminars) التي أقيمت للتحنيط في البطولة، شاركت في دورة تحنيط أضخم النمور في العالم، ومنها النمر السيبيري، إلى جانب بطل العالم ترافيس ديفيلير (Travis Devilire)”.

صلة شميطلي بأبطال العالم مُتنامية، وباتوا يعرفون مهاراته، ويقول إنه بنى صلات واسعة مع مختلف أبطال العالم، و”بطل العالم الذي شاركت معه، أعطاني شهادة تقدير بأنني مُحترِف تحنيط. لذلك، اختارني من بين كل المشاركين”، كما يقول شميطلي مضيفاً: “في اليوم الأول، ساعدته بأول جزء من العملية، فاختارني أن أبقى مُتعاوناً معه لأربعة أيام، وقد احتليت المركز 154 في هذه البطولة”، (من أصل 300 مُتسابق).

من الحاضرين من أبطال العالم رئيس المُحنِّطين ماتثياس فاهرني (Matthias Fahrni)، وهو من سويسرا، وبطل العالم لثلاث مرات في European Taxidermy Competition، في تحنيط الأسماك، ومن بريطانيا سيمون ويلسون (Simon Wilson) وهو صاحب أكبر مركز للتحنيط في بريطانيا، ويؤجّر الحيوانات المُحنَّطة لأكبر الأفلام، ومن مالطا مارك أبو هاغار (Mark Abu Hagar)، وبطلة بلجيكا مايكي ديليوي (Meike Deliwe)، ومن ألمانيا رولاند قيصر (Roland Kaiser) المُتخصّص بتحنيط الصقور والجوارح، ومن كندا كن واكر (Ken Walker) وهو بطل أبطال العالم لثلاث مرات.

يتناول شميطلي أوجاع المهنة موضحاً: “لنعترف أننا نتحدّث عن كماليات، ولبنان قادر أن يستغني عنها، ومثلي مثل أيّ مواطن لبناني، تراجعت أعمالي بنسبة 95٪، ولم تعد هناك رغبة لدى الناس بالإقبال على هذه الأمور. أضف إلى ذلك، أزمة “كورونا” التي حالت دون قدرة الصيادين اللبنانيين على ممارسة هواياتهم، فلم يعودوا قادرين على التصيّد خارج لبنان، وهم كانوا مصدر الحيوانات والطيور المُعدَّة للتحنيط”.

ينضمّ إلى الصعوبات الوضع الاقتصادي وحال الدولار المضطربة، فبالنسبة إلى شميطلي، “الأزمة صعبة جداً، وأعاني كبقية اللبنانيين، وليس أمامنا إلا الصبر، ويبقى حبّي وشغفي للمهنة، كذلك للطبيعة، والطيور، والحيوانات، ما يُسلّحني بالقدرة على الصبر”.

شميطلي والتحنيط

محنّطات في محترف شميطلي

القذيفة التي أصابت شميطلي عام 1986، أثمرت وفق معادلة “ربّ ضارَّة نافعة” محترفاً للتحنيط بات يضمّ عشرات المُحنَّطات من طيور وحيوانات من أحجام وأصناف مختلفة، وتغطّى جدرانه بقوالب لأصناف الحيوانات.

ويفيد أنه تابع شؤون التحنيط من جوانبها كافة، من الحصول على الحيوانات، ثم دباغتها، ثم تلبيس الجلود بعد التحضير لقوالب خاصة، ثم لفها أو “ضبضبتها بالخياطة”، وعرضها، وما يرافق ذلك من ضروريات، وهو عمل شاق، واسع، دولي الأبعاد.

شغفت عائلة شميطلي بالصيد، وكان والده يربّي الطيور الداجنة، من مختلف الأصناف، كما يفعل هو في منزله حيث مُحترَفه، وفي الشركة القائمة قرب المستشفى الألماني حيث تلقّى علاجه جرّاء القذيفة، شاهد العديد من الطيور ما جذبه للاهتمام بما في الموقع، ليكتشف مهنة احتلّت قلبه، وشغف بها.

يصف شميطلي التحنيط بأنه مهنة فنية من أهمّ الفنون وأقدمها في العالم، ويقسِّم المهنة إلى 3 أجزاء: الأسماك والحيوانات والطيور، ويذكر أن “الفن الأساسي هو في الأسماك والطيور، وهناك دراسة خاصة بتحنيط الحيوانات”.

التحق شميطلي في ألمانيا بدورات عدّة استغرقت كل واحدة 40 يوماً، وبنهايتها حصل على شهادة أهّلته ممارسة المهنة والمشاركة بمسابقات تحنيط عالمية.

ويتابع شارحاً تجربته: “جئت إلى لبنان، وفتحت المؤسّسة سنة 1987، و1988 بدأت العمل بتحنيط الهُدْهُد، ففي البداية لم تتوافر لي الإمكانات المادية، فآثرت البقاء في إطار تحنيط الأحجام الصغيرة”.

وتطوّر عمل شميطلي إلى أن أقام معارض في الدول العربية، منها 12 معرضاً على مستوى مُصغَّر ب 100-150 قطعة.

الغراب الذي حنّطه شميطلي في مهرجان أوروبا

أكثر زبائن المهنة هم الصيادون أنفسهم الذين يخرجون ل”السافاري”، الصيد عبر البراري العالمية الواسعة، ويحبّون الاحتفاظ ب”التروفي” (trophes) كذكرى لإنجازهم، ويفيد شميطلي: “كنت أرافق هؤلاء كفئةٍ مُحدَّدة من المجتمع التي تخرج للصيد لكي أبدأ العملية بسلخ الجلد، ومعالجته الأولية بالملح لتخفيف وزنه في النقل، والحفاظ عليه من البكتيريا. على أن أستكمل التحنيط بعد العودة”.

تواكب عملية التحنيط مروحة واسعة من التقنيات والتعقيدات، تتعلّق بطريقة الدَبغ، وتحضير القوالب، وزرع العيون، وتهيئة المُحنَّط للعرض بما يمكن وصفه بعلوم التحنيط، واختصاصاته الكثيرة.

* المصدر : الميادين نت