واشنطن خارج افغانستان.. ما هي حقيقة المخطط؟
شارل ابي نادر*
دائمًا كانت تصريحات واشنطن حول انسحابات وحداتها العسكرية من الدول التي تحتلها أو تسيطر عليها غامضةً، وهذا الغموض طالما تناول المعطيات عن توقيت الانسحاب الحقيقي، عدد الوحدات المنسحبة أو التي ستنسحب، مهمة الباقية، العلاقة مع قوى الأمر الواقع حيث تحتل أو تسيطر… الخ، ليتبين لاحقًا أن كل أو أغلب ما كانت تقدمه واشنطن حول تلك المعطيات غير دقيق وغير صحيح وأحيانًا كثيرة يتعارض بالكامل مع ما يتحقق عمليًا على الأرض.
هذا التناقض طبعًا، لم يكن بأغلب الأوقات نتيجة تردد أو قرارات مشوشة ومتسرعة أو غير مدروسة، بل كان مقصودًا ويهدف إلى المناورة، لإيهام وخداع الدول أو الجهات المعنية حول حقيقة أهداف الإجراءات الأميركية.
ما حصل في أفغانستان مؤخرًا حول الانسحاب الأميركي، كان بداية يوحي بنفس المسار (التضييع والخداع)، إلى أن تسارعت وتيرة تلك الانسحابات بشكل تم اختصار توقيت انهائه، من ١١ ايلول القادم إلى منتصف تموز الحالي أو نهايته على أبعد تقدير. فما هي الأسباب من وراء ذلك؟ وبالأساس، ما هي الأسباب الحقيقية وراء قرار الانسحاب من أفغانستان في جانب يظهّر هزيمة كاملة للأميركيين ودون تحقيق اهداف الاحتلال، وبتسليم البلاد لحركة “طالبان”، والتي كانت سيطرتها عند غزوهم أفغانستان سببًا رئيسا للاحتلال؟
قد تكون أهمية افغانستان الاستراتيجية متواضعة مقارنة مع غيرها من الدول المحيطة، مثل إيران أو باكستان مثلا، فهي لا تعد من الدول الغنية بالثروات الطبيعية وهي دولة لا تملك منافذ بحرية أو نقاط ربط حيوية اقتصاديًا أو عسكريًا، ولكن، بالنسبة لاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، تعتبر أفغانستان نقطة ارتكاز أساسية لتنفيذ هذه الإستراتيجية، ضد مثلث أخصام واشنطن (الصين وروسيا وإيران).
لناحية روسيا، تجد واشنطن في أفغانستان الفوضى والتوتر والحدود المتفلتة، ضالتها الرئيسة التي تنشدها اليوم بمواجهة روسيا، فهي (واشنطن) تحتاج بقوة لبلد حدودي مع دول اسيا الوسطى، لا استقرار أمنيا وسياسيا فيه، يشكل مدخلا ومعبرا للمجموعات الإرهابية نحو تلك الدول التي تعتبرها روسيا حديقتها الخلفية امنيا وعقائديا، أو تعتبرها خط دفاعها المتقدم بمواجهة الأخطار الإرهابية. وحساسية الداخل الافغاني وتاثيراته السلبية على أمن روسيا في هذا الإطار، كان من الأسباب الرئيسة للدخول الروسي إلى افغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.
لناحية إيران، وبهدف تقويض سلطة وقوة الجمهورية الإسلامية الايرانية، لم تترك واشنطن حتى الآن وسيلة لاستهداف الأمن القومي والاقتصادي والاجتماعي الإيراني الا واستعملتها، ومن الطبيعي انها سوف تجد في افغانستان الفوضى والتوتر والحدود المتفلتة، وسيلة غير بسيطة لتحقيق أهدافها في إيران، واستراتيجية واشنطن في العراق بعد انسحابها عام ٢٠١١ وخلقها لمآلات وحواضن متشددة وغير مضبوطة، والتي أسست لقيام “داعش”، هي نموذج مماثل لما تخطط له اليوم تجاه افغانستان ومنها تجاه إيران.
لناحية الصين، ومن ضمن استراتيجيتها المتواصلة والمتصاعدة بمواجهة الصين، تجد أيضًا واشنطن في افغانستان غير الآمنة، والتي يحكمها عدم الاستقرار والفوضى الاجتماعية والسياسية والأمنية، حاجزا قويا لعرقلة مشاريع الصين الاقتصادية والاستراتيجية مثل طريق الحزام والطريق أو طريق الحرير الصيني، وأن تكون افغانستان ممسوكة من الجماعات الإرهابية المسلحة، وأن تكون حدودها مشتعلة ومتفلتة، فهذا الموضوع يسبب للدول المحيطة بها، وضعًا مماثلًا أو قريبًا من الوضع الافغاني مع طالبان ومع الإرهاب، الأمر الذي يعرقل أو يؤخر أو يعيق تمدد مشروع الحزام والطريق الصيني.
لا شك أن ما تحاول أن تخلقه واشنطن من انسحابها الغريب وغير المدروس من افغانستان، من توتر وفوضى وتمدد وسيطرة للمجموعات الإرهابية، سيشكل لها بالتأكيد نقطة ارتكاز أساسية، تبني عليها نواة استراتيجيتها لمواجهة الصين وروسيا وإيران.
* المصدر : موقع العهد الإخباري