نظرة عن كثب إلى الحرب المنسية.. زيارة إلى ميادين القتال في اليمن

دخلت الحرب المنسية في اليمن عامها الرابع والسلام ما يزال لا يلوح قريباً في الأفق. وفي ظل نظام الرعاية الصحية المُدمر والفوضى والقنابل التي تتساقط كل يوم، ليس هناك من هم أكثر معاناة سوى السكان المدنيين.. ألقينا نظرة عن كثب إلى هذه الأزمة المنسية وقمنا بزيارة إلى شمال اليمن، محافظة صعدة تحديدا.

بقلم: فيونا إيلرس

(مجلة “شبيغل” الألمانية، ترجمة: نشوى الرازحي-سبا)-

حسين الطيب، البالغ من العمر 38 عاما، يقودنا في الطريق إلى غرفة معيشة مؤثثة على نحو متواضع، ويقدم لنا الشاي وخبز السمسم الحلو على الأرضية الترابية. يسحب هاتفه المحمول من جيب ثوبه ويقوم بتشغيل بعض مقاطع الفيديو التي صورها بنفسه.

ثلاثة أولاد صغار يرتدون ملابس ذات لون أصفر يرقصون على وقع الطبول التقليدية. يقول الطيب: “كانوا يحبون الرقص كثيرا. ابتسم ولم يكن من الواضح ما إذا كانت تلك ابتسامة نتجت عن خجل أم عن أمر مبهج عاد إلى ذاكرته. لكن في كلتا الحالتين، لم تكن تلك الابتسامة كافية لإخفاء الحزن العميق المرسوم  على ملامح وجهه المنهك.

باشر بإخراج الأثواب الذهبية من كيس بلاستيكي وأخذ يستنشق رائحة أبنائه وكان أسم كل واحد منهم مكتوب على الياقات: علي، 9 سنوات، الولد الطموح ذو الآذان البارزة والإرادة القوية. أحمد، البالغ من العمر 11 سنة، هو الأفضل في فصله الذي كتب عبارة “أحب وطني” في دفتر الواجبات المدرسية إلى جانب رسمه علم اليمن الموحد. ويوسف، 14 سنة ، الإبن البكر وفخر والده.

أبناء حسين الطيب الثلاثة جميعهم ماتوا. ففي حوالي الساعة التاسعة من صباح 9 أغسطس، تم قصف الحافلة التي كانوا يستقلونها بقنبلة في قرية ضحيان، في محافظة صعدة شمال اليمن. انفجرت الحافلة ولقي ما مجموعة 51 شخصا حتفهم في ذلك الانفجار، بما في ذلك 40 طفلا.

انتشرت أخبار هذا الهجوم بسرعة  كبيرة في جميع أنحاء العالم لتسلط الضوء بشكل موجز على الوضع الكارثي في اليمن، حيث قضى الحوثيون سنوات في القتال مع القوات الحكومية في الوقت الذي حول فيه التحالف العسكري بقيادة المملكة العربية السعودية البلاد إلى أنقاض.

و لكن بعد وقت قصير فقط، اختفى ذكر اليمن من العناوين الرئيسية، وأصبحت الحرب الدائرة فيه مرة أخرى حرباً غير مرئية أو لنقل بأنها حرب منسية. وهناك سببان جعلا منها حرب منسية: السبب الأول أنه لا يُسمح لأي شخص بالدخول إلى هذا البلد الذي مزقته الحرب الأهلية، لا سيما الصحفيون القادمون من الغرب. والسبب الثاني لأنه تقريبا لا يُسمح لأحد بالخروج منها. وكونه لا يصل أي لاجئ من اليمن إلى أوروبا، فلا أحد يعلم سوى القليل جدا عن هذا الصراع.

نقش شواهد القبور:

يحكي حسين الطيب قصته أمام صحفي أجنبي للمرة الأولى. مرت ثلاثة أسابيع فقط على القصف، لكنه رغم ذلك يتحدث بهدوء ورزانة. وهو يعمل في حرفة نقش شواهد القبور وهي تجارة مربحة  دون شك في هذه الفترة على وجه التحديد.

في الصباح، الذي مات فيه أبناؤه، كان قد نقلهم إلى الحافلة على دراجته النارية ليذهبوا في رحلة مدرسية إلى مسجد صعدة، الذي كان الأولاد يتطلعون إلى زيارته منذ أيام. نزل الصبية وقبلوا جبين أبيهم واحد تلو الآخر وصعدوا إلى الحافلة. وعندما سقطت القنبلة دون سابق إنذار كان الطيب قد عاد للتو إلى دراجته النارية. وما كان منه إلا أن ركض عائدا صوب الحافلة المشتعلة وهو بالكاد يستطيع الرؤية بفعل التراب المتصاعد وسحب أول جسد تمكن من الوصول إليه. وكان جسد أحمد، ابنه الأوسط. لم يعد يتنفس.

يروي لنا الطيب قصته وهو جالس على الأرض في منزله المبني بالطوب – في نفس المكان الذي وضع فيه جثث أبنائه حتى يتمكن هو وزوجته من الحزن عليهم. وكان محاط بأطفال الجيران. وعندما كان يُسمع دوي انفجار حتى وإن كان غير قوي على بعد مسافة ، كانوا يُجفلون كلهم ويغطون آذانهم بأيديهم.

وعلي، الشاب الحوثي المتمرد الذي نقلنا بالسيارة إلى هنا كان واقفا. ابن محمد الطيب الأصغر محمد، 4 سنوات، هو الطفل الوحيد الذي بقي له. وهو يرتدي زياً عسكرياً مزيفاً و يحمل بندقية بلاستيكية ويبدو مرتبكاً. وهو يرى الحافلة المحترقة على شاشة الهاتف المحمول لوالده ويسأل: “بابا، متى ستأتي الحافلة القادمة؟ أريد أن أذهب إلى إخواني”.

في غرفة المعيشة بمنزل حسن الطيب يمكن تعلم شيئين حول الحرب في اليمن. أولاً، المدنيون هم الأكثر معاناة في هذه الحرب، لا سيما الأطفال والنساء. ثانياً، هذه القصة، قصة الأب الذي فقد أبنائه، تُستخدم أيضاً لأغراض الدعاية الحربية.

حيث يقوم الحوثيون بدفع صحفيين تم انتقاؤهم من الجزء الشمالي من اليمن، الواقع تحت سيطرتهم لإظهار أنفسهم كضحايا ومناشدة الغرب أن يطالب السعودية بوقف عمليات القصف. وكان الثمن، الذي دفعناه لكي نتمكن من القيام بهذه الرحلة هو أن التصق بنا أحد موظفي وزارة الإعلام مثل الغراء وأخذ يدون أسماء وأرقام هواتف أولئك الذين نتحدث معهم بكل سرية.

فأي حرب هذه، التي بدأت كصراع محلي قبل أن تتوسع وتصبح حرباً بالوكالة اليوم؟ قبل سبع سنوات، زارت ثورات الربيع العربي اليمن أيضاً،  وانسحب الدكتاتور علي عبد الله صالح من السلطة. وفي خريف 2014، اقتحم  الحوثيون الزيديون الشيعة العاصمة صنعاء، وحلّوا البرلمان فيما بعد، وفر الرئيس الجديد من المدينة. لم تكن المملكة العربية السعودية المجاورة سعيدة بما يجري. فالرياض لم تكن قادرة على تحمل حدوث الاضطرابات على حدودها، لا سيما تلك الاضطرابات الناجمة عن مجموعة متحالفة مع العدو اللدود لها، جمهورية إيران.

أمل بعيد

الآن، في السنة الرابعة للحرب، أصبح اليمن ساحة معركة للقوى الإقليمية. فهناك من جهة، الحوثيون المسلّحون  والمزودون بالمال والصواريخ من قبل إيران. ومن جهة أخرى، يدعم التحالف ما تبقى من الحكومة اليمنية، بقيادة المملكة العربية السعودية وتدعمها بأسلحة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا العظمى.

لقد باتت الهيمنة في شبه الجزيرة العربية على المحك والتي تلعب دورا حاسما في المعركة ضد كل من تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية. في البداية، رأت الرياض أن التدخل لن يكون سوى عملية عسكرية قصيرة. ولكنها تطورت منذ ذلك الحين إلى أن تحولت إلى كارثة إنسانية أُزهقت فيها أرواح عشرة آلاف شخصا ودفعت بالملايين من الناس إلى هاوية الجوع. وفي وقت سابق من هذا الشهر، انهارت مباحثات السلام الأولى التي كان من المفترض أن تعقد في جنيف بعد توقف المباحثات لعامين. ولا يزال الحل السياسي للأزمة قائماً ولكنه يظل أملاً بعيداً.

يقول علي، الشاب الحوثي الصغير، الذي يضع الخنجر المنحني المعروف بالجنبية وسط حزامه ويضع وشاحاً مطرزا حول كتفيه وهو في غرفة المعيشة في منزل حسين الطيب، لقد حان وقت الذهاب. يقود علي الأجانب في سيارة هيونداي بين الأنقاض، التي أسماها “بيتي”. وفي أعلى لوحة عداد السيارة وضع راية حمراء وخضراء مكتوب عليها الشعار الذي رأيناه في كل مبنى تقريباً، سواء كان المبنى مدمراً أو سليماً، “الله أكبر” “الموت لأمريكا، “الموت لإسرائيل”، “اللعنة على اليهود” و “النصر للإسلام”.

وتصطف على جانبي الشارع مباني الطوب اللبنية التي تعود لقرون مضت في مشهد ذهبي خيالي، وكل واحدة منها قد سقطت على الأخرى كبيوت من ورق.

والمقر الحكومي في عاصمة محافظة صعدة، مهد الحركة الحوثية التي تطلق على نفسها اسم “أنصار الله”، لم يتبق منه سوى كومة من الأنقاض. الجامع الكبير، فقط،  لا يزال قائماً و مئذنته مثل أصبع اليد المرفوعة إلى السماء. صور الشهداء الشباب معلقة في كل مكان، شباب فقدوا حياتهم في المعارك ضد السعوديين. وقريباً ستنضم إليهم صور أولاد حسين الطيب الثلاثة. وهناك، ترى العشرات من الأطفال الشُعث، اللاجئين من مدينة الحديدة، التي تحتدم فيها المعارك، يتدلون أمام اثنين أو ثلاثة من أماكن تم إعدادها للشواء يتوسلون الحصول على بقايا أكل العدد القليل من الضيوف. كان علي سخي مع الشحاذين، لكنه لم يتسامح مع أخذ أي عبوه من علب البيبيسي. وقال: “هذه هي طريقة تمويل أميركا لأسلحتها”.

حتى قبل بضعة أشهر، اعتاد علي، البالغ من العمر 29 عاماً، على القتال مع الحوثيين. حيث كان يقف على مؤخرة طقم عسكري في الجبهة ويطلق نار الكلاشنيكوف على العدو – كان هذا  قبل أن يأمره الثوار بالعودة إلى صعدة. ويقول إنه الآن وبعد أن أصبح مؤرخاً إخباريا لأحداث هذه الحرب وفقا للتسلسل الزمني، أصبحت الكلمات هي سلاحه.

وهو يحفظ  يومياته على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به  ويسجل كل قنبلة تنفجر ويدون كم سقط قتلى أو جرحى في كل منزل. في ذلك اليوم في أوائل سبتمبر، سقطت ثلاث قنابل وفي المساء وصل عددها إلى 20 قنبلة. مع علي جهازي جوال. واحد منهما لا يفارق أذنه. لقد أنشأ نوعاً من الخط الساخن حتى يتمكن أهالي صعدة من الإبلاغ عن عمليات القصف أولا بأول. وهو يصور مقاطع فيديو مع الناجين ويكتب مقالات للأخبار المحلية. وإذا كان لديه وقت فراغ في المساء، فهو يقضيه مع القات، الذي يتم مضغ أوراقه الخضراء وتخزن في الخد، المنطقة التي يعمل فيها كمنشط معتدل.

“خطأ”

قصص علي حُبكت لإذكاء الكراهية وجذب مقاتلين جدد إلى القضية. إنه أحد دعاة الحرب. ولكنه أيضا أحد ضحاياها. بطبيعة الحال، لديه وجهة نظر مختلفة. إنه رجل طموح دُمر مستقبله بسبب هذه الحرب. قال إنه أراد بالفعل أن يصبح طبيباً وزوجته مُدرسة.  لكن الآن قال: “إما أن نموت في بيوتنا، أو نخرج وندافع عن أنفسنا. سنقاتل حتى النهاية”.

قبل بضعة أسابيع، استقبل الحوثيون ضيفاً هاماً في صعدة: منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ليز غراندي من الولايات المتحدة. وقد زارت الناجين من هجوم الحافلة في مستشفيين بعد بضعة أيام فقط من الضربة الجوية. وقد برر السعوديون في البداية الهجوم بقولهم إن الحافلة كانت مليئة بالمتمردين وليس الأطفال. ولم يعترف التحالف إلا في بداية سبتمبر بأن الهجوم كان “خطأ”.

غراندي واضح من معالم وجهها أنها من تكساس. ويذكرنا مظهرها بالممثلة الأميركية دوريس داي، لكن ذلك ما هو إلا مظهر كاذب. فمنذ النصف الثاني من هذا العام، باشرت عملها في اليمن من مكتبها في العاصمة صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثي والمبنى الذي وضع فيه مكتبها محمي بالأسلاك الشائكلة والأبواب الحديدة. وهي لا تتحدث علنا عن الحرب بالوكالة ولا عن السياسة التي تكمن وراء المذابح. عملها في هذه الحرب  يتركز على أمر آخر: على الأشخاص الذين يعانون من الجوع والكوليرا.

غراندي، أيضا، هي مؤرخ إخبارية لهذه الحرب ويمكن أن تسرد لك الأرقام مثل الآلة. وماقد ورد منها من أرقام حتى الآن كالتالي: حوالي 10 آلاف قتيل؛ في كل 10 دقائق يموت طفل دون سن الخامسة. أكثر من ثلثي سكان البلاد البالغ عددهم 28 مليون نسمة يعتمدون على المساعدات الإنسانية. حوالي 8,5 مليون شخص لا يعرفون من أين تأتي وجبتهم القادمة. وتقول غراندي: “بحلول نهاية العام، قد يزداد عدد القتلى في هذه الحرب 10 ملايين أخرى”.

تمركز عمل غراندي لدى الأمم المتحدة على مدى الخمس والعشرين عاما الماضية في الكثير من الأماكن الأخرى التي تدور فيها الكوارث، مثل جنوب السودان والعراق وهايتي. ومع ذلك، لم تشهد في أي مكان بؤس مماثل لهذا البؤس الذي ينتشر في اليمن حالياً. وتقول: “نشهد أكبر كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين”. وتضيف قائلة: “وهي واحدة من الكوارث التي يتحمل الناس المسؤولية الكاملة عنها. فهي لم تحدث جراء فيضان وليس هناك كارثة طبيعية كانت سببا في المعاناة باليمن. المجاعة هنا يعود السبب كله فيها إلى الحرب. وكذلك حالات الإصابة والوفاة بوباء الكوليرا العديدة.

تقول غراندي: “خطر تفشي وباء الكوليرا على مستوى البلاد كان يتراوح بين نسبتي 85 و 90 في المائة”. “نحن لم نتجاوز الخطر بعد.”

هذا على الرغم من أنها تقول أن الأمور بدأت في الظهور بشكل أفضل. وقد نجحت فرق الطوارئ التابعة لها في “صنع المعجزات”، حد قولها، بعد أن نجحت في إصلاح الكثير من نظام إمدادات المياه المتداعية وتعقيم كل شيء بمادة الكلور.

عيون شاغرة

يمكن رؤية عواقب الحرب كما وصفتها غراندي بوضوح في مدينة شمير، الواقعة في منتصف الطريق بين صعدة وصنعاء. ويقع في هذه المدينة مستشفى السلام. منذ انهيار نظام الرعاية الصحية في شمال اليمن، و بسبب الحصار التجاري، أصبح من الصعب حتى الحصول على أدوية مسكنة للألم. وبات لازما على الناس أن يسافروا في رحلات طويلة إلى المستشفيات، التي تتوفر فها مساعدات منظمة أطباء بلا حدود وغيرها من المنظمات الأخرى غير الحكومية.

و المشكلة الكبرى هنا، كما يقول الأطباء، هي أن العديد من المرضى يصلون متأخرين جدا. ففي الوقت الذي يصلون فيه إلى المستشفى يكونوا غالبا قد وصلوا إلى مرحلة متأخرة من المعاناة جراء المرض، حتى وإن كانوا يعانون من الإسهال البسيط فقط. وكثيراً ما تجدهم يسافرون سيراً على الأقدام لعدة أيام في كل مرة يحتاجون فيها للسفر لأن الدولة لم تتمكن من دفع مرتبات الموظفين الحكوميين لشهور لدرجة أن المعلمين أو ضباط الشرطة أو غيرهم من المسؤولين لم يتمكنوا هم أيضا من تحمل تكلفة البنزين.

حضانة الأطفال المولدين حديثا في مستشفى السلام مليئة بالأطفال الذين يعانون من ضيق في التنفس بسبب عدوى الرئة وأمهاتهم المحجبات بشكل كامل ينحنين عليهم.  وترى البنات الصغيرات الهزيلات يقفن منحنيات على أوعيتهن البلاستيكية عند خزانات المياه الصحية التي وضعت لأولئك الذين يُعتقد أنهم يعانون من الكوليرا. فمثلا هناك تجد الفتيات مثل أسماء البالغة من العمر 10 سنوات، التي  يمكنك عد أضلاعها، وعيناها رقيقتان مثل ورق البرشمان وشاغرتان.

يقول الأطباء والممرضات في مستشفى السلام إن الأشهر القليلة التي مضت كانت فظيعة، حيث كان الممرض الواحد يباشر معالجة 700 مريض. وهم في طابور طويل، بسبب التدفق المستمر لضحايا الحرب إلى غرفة العمليات. وبمجرد إعادة أعضاء المصابين إلى أماكنها وربطها مع بعضها البعض، غالباً ما يتم وضعهم في غرف معزولة لمنع أنصار النظام الجديد وأنصار النظام القديم من الشجار داخل المستشفى. ويقول الأطباء أنهم كثيرا ما قد شاهدوا مثل هذه الحالات.

أما العاملون في المجال الطبي فقد أتوا من أجزاء مختلفة من اليمن وينتمون إلى معسكرات سياسية مختلفة، لكنهم يعملون معاً في فريق واحد. قال أحد العاملين في مجال الرعاية الصحية إنه يرغب في بعض الأحيان في أن يتمكن من اختراع دواء يمكنه تطهير خلايا الدماغ من كل الأيديولوجيات.

 

وفي الطريق التي تؤدي من صعدة إلى صنعاء يمر المرء بالعديد من نقاط التفتيش، التي يديرها أولاد قاصرين يحملون الكلاشينكوف وترى خدودهم محشوة بالقات. فيستوقفون المارين عبرهم ويسألون “من أنت؟” و “ماذا تريد؟” ولكن عدد من تصاريح الدخول والخروج المليئة بالطوابع جعلت الأمور سهلة بالإضافة إلى أن ارتداء النقاب والعباءة السوداء يجعل عمل النساء الصحفيات أسهل.

“خمسة ملايين دولار”

في ميدان التحرير الواقع في قلب العاصمة صنعاء، توجد خيمة يعرض فيها الحوثيون صوراً ومقاطع فيديو عن القتلى والمصابين في الحرب. هذا هو المكان الذي يجندون فيه جنوداً جدد ومقاتلين غاضبين تركوا عائلاتهم للانضمام إلى المعركة – مثل علي من صعدة. تبدو المباني المحيطة بالمربع وكأنها لم تُدمر إلى نفس الدرجة التي دُمرت بها مباني المدن الأخرى الواقعة إلى الشمال، رغم أن بعض المباني الحكومية قد سويت بالأرض. كان مدراء علي، الرجال الذين يعملون في وزارة الإعلام، محظوظين. فقد تحطم زوجان من النوافذ، ولكن المبنى لا يزال قائماً تماما كما هو حال وزارة الخارجية.

يجلس نائب وزير الخارجية الحوثي في سيارة دفع رباعي من طراز باجيرو. يخرج أولا حارسه الشخصي مرتديا صندلا بلاستيكيا ومن ثم يخرج الوزير. اسمه حسين العزي وهو في حالة جيدة جدا. يقع مكتبه في الطابق الخامس وقد كُسر المصعد في بداية الحرب. قال وهو يصعد الدرج: “خمسة ملايين دولار”. هذا هو الثمن الذي قيل أن السعوديين وضعوه لمن أتى برأسه، وهذا  أمر يُنظر إليه على أنه مكافأة ونوعا من الشرف في اليمن. كانت لهجة العزي معتدلة حيث قال: “الناس يسمونا بالمتمردين، لكننا لم نسقط الحكومة. نحن ثوريون ونحافظ على القانون والنظام في بلادنا”.

الوزير حريص على تصحيح السمعة السيئة التي لحقت بالحوثيين. عندما يتعلق الأمر بالدين، الحوثيون أقل تشددًا من طالبان – هم جماعة مثل حزب الله في لبنان. يقول الناس أنهم مقاتلين جيدين لكنهم ليسوا ماهرين في السياسة.

أخذ الوزير يتفاخر بقوات الأمن في بلاده ونسبة النجاح المرتفعة التي حققوها في تصفية الجرائم. ومع ذلك، ليس لديه الكثير ليقوله عن حقيقة أن شمال اليمن في طريقه إلى أن يصبح دكتاتورية، تعمل على إبعاد من يفكرون بطريقة مختلفة عن طريقتهم أو حتى يعذبونهم- تماما مثلما تفعل عدوتهم الأساسية، المملكة العربية السعودية في الجهة الأخرى من الحدود.

عندما سُئل لماذا أُزهقت أرواح العديد من الأطفال في هذه الحرب، أجاب: “لأن السعوديين وهابيون، أناس عنيفون و بلا ثقافة. الهجوم لم يكن خطأ. لقد تم التخطيط له”. وعندما سألناه أي نوع من الانتقام ذلك المتمثل بإطلاق الصواريخ على الرياض ومطارها الدولي من اليمن؟ أجاب: “نحن لا نهاجم المدنيين. لم نرتكب أبداً جرائم حرب، وهذا شيء نفخر به. قلوبنا تبكي بمرارة لأن أوروبا، التي نبجلها، لم تمارس أي ضغوط على السعوديين. ولهذا أطلب منك: كوني الصوت للشعب اليمني المظلوم “!

 

الاستعداد لسيناريو الوضع الأسوأ

 

في النهاية، تأثر الوزير الحوثي هذا بكلماته الخاصة. ووقف وأخذ طريقه للباب بكل تهذيب. في اليوم التالي دعا فريق علاقاته العامة إلى القول إن الترجمة الصحيحة لحركة الحوثي “أنصار الله” ليست أعوان الله، بل مؤيدي الله أو رجال الله.  وهو أمر يطلبونه في التغطية الإعلامية. وما كان من هذه الدعوة إلا أن عمقت الانطباع  المأخوذ عنهم و هو جنون العظمة وجعلتنا نتسائل فقط أليس لديهم قضايا أكثر أهمية من هذه الأمور؟ 

 

على بُعد كيلومترين فقط من وزارة الخارجية، في منزل تقليدي في مدينة صنعاء القديمة الساحرة، يمكنك العثور على حامي هذا الكنز الثقافي. واسمها أمة الرزاق يحيى جحاف، وهي امرأة تبلغ من العمر 53 عاماً ، ترتدي غطاء رأس أحمر ونظارة للقراءة. وهي واحدة من النساء اللاتي اخترن عدم الفرار من العنف.

 

وهي موظفة في وزارة الثقافة، هدفها الحفاظ على مدينة صنعاء القديمة، وهي أحد المواقع المُدرجة ضمن مواقع التراث العالمي. إنها تحتفظ بقاعدة بيانات تضم كل مبنى في المدينة  القديمة وكل واجهة وكل حائط. وهذا العمل نوع من الاستعداد لسيناريو الوضع الأسوأ، إذا تم تدمير كل شيء.

تأتي جحاف إلى هذا المنزل القديم  كل يوم، على الرغم من أنه قد مر وقت طويل إلى حد ما منذ أن حصلت على راتب منتظم. إنها تأتي لأن هذا العمل هوايتها، ولأن منزلها ممتلئ بالناس، فهي توفر الآن المأوى لـ 14 شخصا من أقاربهم الذين تعرضت منازلهم للقصف. هي الوحيدة التي لا تزال تتلقى المال من وقت لآخر، لذلك فهي مسؤولة عن إطعامهم. كانت تتقاضى 450 دولار شهرياً ، لكنها الآن لا تحصل إلا على جزء بسيط من هذا المبلغ. كيف يمكن البقاء على قيد الحياة في ظل هذه الظروف؟ تقول جحاف: “آه ، أصبحنا نأكل قدرا أقل من الطعام. قليل جدا من اللحم وكثير من الخضراوات. تضطر أولاً لأن تبع الأثاث، ثم المجوهرات وفي الأخير آخر ما نملك الثلاجة”.

 

يشبه السير في مدينة صنعاء القديمة رحلة مختلفة تماما عبر اليمن، كما لو كان الزمن قد توقف. صعد الأطفال إلينا ورجال يحتزمون بالجنابي وهم يهتفون: “الحمد لله لقد عاد السُياح! ألم يخبرك أحد بأن هناك حرباً في اليمن؟”

كانت جحاف تعيش في مدينة صنعاء القديمة عندما كانت قادرة على تحمل تكلفة العيش هناك. وتقول إنها كانت تقضي فيها أجمل أوقات حياتها. كانت تتحدث وهي تتنقل في الشوارع وتمر عبر السوق الذي ترى فيه أهرامات التوابل وتغرفها بيدها وتجعلها تتسلل من بين أصابعها برقة. وأخذت تمرر يدها على الجدران وهي تمشي لأنها تعتقد أن الجحارة التي تعود إلى قرون من الزمن لها روح. وفي بعض الأحيان، تنطق بعبارات التشجيع، حيث تقول: لقد عايشت هذه المدنية الكثير وسوف تنجو من هذه الحرب أيضا. ولكن في هذه الأثناء، وجدتها تتجاهل بشكل مدهش شعارات الحوثيين التي تنهال على اليهود والأمريكيين وقد مُلئت بها الجدران.

“ليس مخيفا جدا”

الإحصائيات المتعلقة بالمدينة منذ بداية الحرب التي سردتها جحاف كانت كالتالي: قُتل العشرات من السكان بسبب القنابل و دُمر 43 منزلاً قديما كان مبينا من الطوب بالكامل وتشققت جدران حوالي ألفين منزل وتحطمت نوافذها. وتشير جحاف إلى أنه مع وجود ما مجموعه حوالي 7 آلاف منزلا قديما يعتبر أن هذا الرقم ليس مخيفا.

 

في المساء بعد غروب الشمس وهو الوقت الذي يهتز فيه الهواء مع أصوات الآذان يلتقي مجموعة من اليمنيين – ناشطون سياسيون وأساتذة وصحفيون – لمضغ القات على سطح أحد البنايات الرائعة. تمت دعوتهم من قبل مؤسسة ألمانية – وكانت رؤياتهم لمستقبل اليمن متباينة مثل تباين أصوات المآذن وانقسامات البلد.

 

يعتقد البعض أن أيام الحكام الجدد معدودة لأنهم لا يملكون وصفة صالحة لليمن. في حين يشيد آخرون بالأمن والسلام النسبي في ظل حكم الحوثي. وواحد يعارض بشدة أي تدخل من الخارج. ويقول إنه لولا هذا التدخل، لكان عاد السلام منذ وقت طويل إلى البلد.

وأضاف قائلا: “صحيح أن اليمنيين مدججون بالسلاح وأن الأسلحة في البلاد تقدر بثلاثة أضعاف الناس. ولكن لديهم خبرة واسعة في مجال الوساطة والتعاون. وإلا لما كانت تمكنت هذه القبائل الكثيرة والمختلفة من العيش جنبا إلى جنب في سلام نسبي لفترة طويلة”. ويقول آخر: “وهذا هو السبب الذي يجعل اليمن بلدا غير معرض لخطر المعاناة من المصير الذي تعاني منه سورية. وأضاف: “الحرب لن تدوم إلى الأبد. بمعنى آخر، دعونا نحن اليمنيين نهتم بالأمر وسوف نتمكن من معالجته.

وفي الأخير، سكتت أصوات المآذن التي تتردد في أسطح منازل صنعاء وتفرقت مجموعة القات. الليالي هناك قصيرة في أوقات الحرب والأيام طويلة ومرهقة.