السياسية:

خفضت مصانع السيارات من إنتاجها، وأصبح من الصعب العثور على أجهزة ألعاب PlayStations في المتاجر، حتى منتجو الألومنيوم يحذرون من انكماش محتمل في المستقبل. هناك أمر وحيد مشترك بين تلك المشكلات: نقص عالمي مفاجئ ومتعاقب في “أشباه الموصلات”، والتي تُعرف أيضاً بـ”الدوائر المتكاملة”، أو “الرقاقات”، وهي أصغر منتج في العالم، والأكثر طلباً في نفس الوقت، كما يقول تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.

أدّى هذا المزيج بين التكلفة والصعوبة إلى تعزيز الاعتماد العالمي على شركتين آسيويتين قويتين؛ شركة TSMC التايوانية، وشركة Samsung Electronics Co الكورية الجنوبية. وزاد ذلك الاعتماد بشكل أكبر بسبب الجائحة وتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين حتى قبل العجز الحالي. سوف تنفق الحكومات والشركات مئات المليارات خلال السنوات المقبلة في “سباق الرقاقات” مع كل ما يترتب على ذلك من تأثيرات جيوسياسية واقتصادية.

1- لماذا نعاني من نقص في الرقاقات أو أشباه الموصلات؟

ترتبط معظم أسباب الاضطراب الحالي، لكن ليس كلّها، بالجائحة. وإليكم بعض الأسباب:

بسبب دعوات البقاء في المنزل، ارتفعت مستويات الطلب بشكل غير مسبوق يفوق توقعات صانعي الرقاقات. أدّى الإغلاق الذي فرضته معظم الحكومات إلى ارتفاع مبيعات أجهزة الكمبيوتر المحمولة إلى أعلى مستوياتها منذ عقد كامل. كما ارتفعت أيضاً مبيعات الأجهزة المنزلية، من التلفزيون إلى أجهزة تنقية الهواء، وجميعها تأتي برقاقات مخصصة.أدّت حالة عدم اليقين الناجمة عن الجائحة إلى تقلبّات حادة في مستويات الطلب. لم يتوقع صنّاع السيارات الذين خفضوا إنتاجهم بشكل كبير في أوائل أيام الجائحة سرعة انتعاش المبيعات من جديد. وعندما هُرِعوا أواخر العام الماضي إلى إعادة طلب الرقاقات بعد إلغاء الطلبات الأولى، لم يحصلوا على ما أرادوا بسبب انشغال صانعي الرقاقات بتزويد عمالقة الهواتف الذكية مثل Apple Inc.التخزين: قال المسؤولون التنفيذيون في شركة TSMC التايوانية إن مؤشرات الأرباح الأخيرة تشير إلى أن العملاء يكدسون مخزوناً أكثر من المعتاد على سبيل الاحتياط. في أوائل عام 2020، بدأت شركات تصنيع الكمبيوتر تحذر من نقص المعروض من أشباه الموصلات. وبحلول منتصف العام، بدأت Huawei Technologies Co شركة تصنيع الهواتف الذكية ومعدات الشبكات المعروفة، في تخزين المكوّنات لضمان قدرتها على البقاء بسبب العقوبات الأمريكية التي تهدد بفصلها عن مورديها الأساسيين. ثم حذت الشركات الصينية الأخرى حذوها، وارتفعت واردات البلاد من الرقاقات إلى حوالي 380 مليار دولار في عام 2020، أي ما يمثل حوالي خُمس إجمالي واردات البلاد لهذا العام.الطقس: أدّت موجة البرد القارس في شهر فبراير/شباط في تكساس إلى انقطاع التيار الكهربي، مما أدّى إلى إغلاق مصانع أشباه الموصلات حول مدينة أوستن، ولا تستعيد شركة Samsung اتصالها بالإنترنت بشكل كامل بحلول منتصف شهر مارس/آذار. وأعلنت تايوان حالة التأهب في شهر مارس/آذار بسبب أسوأ موجة جفاف تتعرض لها البلاد منذ عقود، مما أدّى إلى تقليل إمدادات المياه وزيادة احتمالية تأثر صناعة أشباه الموصلات إذا لم تصل الأمطار الموسمية المعتادة في أواخر شهر مايو/أيار.الرئيس الأمريكي جو بايدن يمسك برقاقة إلكترونية خلال مؤتمر صحفي، رويترز2- ما الذي سيترتب على نقص الرقاقات؟

تلقت بعض الشركات ضربة موجهة. من المتوقع أن يؤدي نقص الرقاقات إلى تراجع مبيعات السيارات هذا العام فقط بما يصل إلى 61 مليار دولار، وتأخير إنتاج ملايين السيارات خلال الربع الأول من هذا العام. ولا يقتصر الأمر على صناعة السيارات فحسب، من المحتمل أن تشهد مجموعة كبيرة من المنتجات التي تعتمد على الرقاقات، من الهواتف إلى محركات الألعاب، انخفاضاً في الإنتاج أو ارتفاعاً في الأسعار. وقالت شركة Samsung في شهر مارس/آذار إنها تتوقع أن تمثّل حالة “انعدام التوازن الخطير” مشكلة كبيرة لأعمالها هذا العام.

3- من هم اللاعبون الكبار في سوق إنتاج الرقاقات أو أشباه الموصلات؟

تتصدر الرقاقات المنطقية المتقدمة عناوين الأخبار باعتبارها أغلى منتجات السيليكون وأكثرها تعقيداً، والتي تمنح أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية ذكاءها. عندما تسمع عن شركات مثل Apple أو Qualcomm أو Nvidia، فإن تلك الشركات تتولى فقط تصميم أشباه الموصلات، أما التصنيع فيكون في مصانع يُطلق عليها “المسابك”.

تحتل TSMC ريادة السوق بقدرات إنتاجية هائلة، وأصبح الجميع الآن يصطفون على أبوابها للحصول على أفضل الرقاقات المصنوعة في منشآتها داخل تايوان. وتبلغ الحصة السوقية للشركة أكثر من حصة منافسيها الثلاثة التالين مجتمعين.تهيمن شركة Samsung على سوق رقاقات الذاكرة، وتعمل على تحسين تكنولوجيا الإنتاج الخاصة بها حتى تُصنّف على نطاق واسع باعتبارها الخيار الأفضل بعد TSMC.شركة Intel Corp، آخر شركة أمريكية ناجحة في هذا المجال، ولا تزال تجني أرباحاً أكثر من أي شركة تصنيع رقاقات أخرى، لكنها تركّز بشكل أكبر على معالجات الكمبيوتر.تواجه الشركتان TSMC وSamsung منافسة من بعض المنافسين الأصغر حجماً، مثل Globalfoundries الأمريكية، وشركة Semiconductor Manufacturing International Corp. (SMIC) الصينية، وشركة United Microelectronics Corp التايوانية. لكن هؤلاء المنافسين متأخرون بجيلين أو ثلاثة أجيال على الأقل خلف تقنيات TSMC. بينما انسحبت بعض الأسماء المشهورة مثل Texas Instruments Inc.، وInternational Business Machines Corp. وMotorola من المنافسة.4- ماذا يحدث في هذا السباق؟صناعة أشباه الموصلات/ Istock

ينفق العملاقان الآسيويان استثمارات ضخمة لتعزيز هيمنتهما على السوق؛ رفعت TSMC نفقاتها الرأسمالية المتوقعة لعام 2021 إلى ما يصل إلى 28 مليار دولار من 17 مليار دولار في العام الماضي، بينما خصصت Samsung حوالي 116 مليار دولار في مشروع ممتد لمدة عقد كامل من أجل اللحاق بالمنافس التايواني. 

وفي المقابل، تضغط الصين بشكل قوي للحاق بهذا السباق، لكن لا يزال أمامها طريق طويل. على سبيل المثال، في قطاع صناعة السيارات، طورت الصين عدداً كبيراً من شركات تصميم الرقائق في السنوات الأخيرة، لكنها ما زالت غير قادرة على صنع الرقائق المتقدمة اللازمة لسيارات اليوم. وفي المقابل، أعلنت SMIC عن مخططاتها لبناء مصنع بتكلفة 2.35 مليار دولار بتمويل من الحكومة في مدينة شنتشن الصينية، وتهدف لبدء الإنتاج بحلول عام 2022.

5- ماذا عن اللاعبين الآخرين في هذا المجال؟

نظراً لصعوبة تطوير قدرات تصنيع الرقاقات المتطورة، تقدم الحكومات حوافز كبيرة لأي شخص يبني أو يتوسع في بناء منشآت متقدمة داخل حدودها. في شهر فبراير/شباط، أمر الرئيس الأمريكي جو بايدن بمراجعة سلسلة التوريد على مستوى الحكومة للسلع المهمة، بما في ذلك الرقاقات. 

وسوف تلعب إدارته، التي تضع خطة طويلة الأجل لتوريد الرقاقات، دوراً رئيسياً في صياغة الحوافز الضريبية لمصنع TSMC المقترح بناؤه بقيمة 12 مليار دولار في أريزونا، ومصنع آخر لشركة Samsung بتكلفة 17 مليار دولار في تكساس. ويفكر الاتحاد الأوروبي في بناء مصنع متقدم لأشباه الموصلات في أوروبا، بمساعدة محتملة من الشركتين TSMC وSamsung، ضمن أهداف مضاعفة إنتاج الرقاقات ليصل إلى 20% من إجمالي السوق العالمية بحلول عام 2030.

6- لماذا المنافسة في سوق الرقاقات في غاية الصعوبة؟

صناعة الرقاقات عمل ضخم يتطلب دقة هائلة، إلى جانب رهانات استثمارية ضخمة في مجال سريع التغيّر. تُصنع الرقاقات في مصانع تُكلّف المليارات للبناء والتجهيز، ويجب أن تعمل على مدار الساعة لاسترداد استثماراتها. ليس هذا فحسب، بل إن معدل الرقاقات الجيدة لكل دفعة هو ما يحدد نجاح المصنع من فشله. ويستغرق الأمر عدة سنوات لوصول معدل تصنيع الرقاقات الجيدة إلى 90%.

7- من المستفيد من الحروب على الرقاقات؟

حتى التحسينات الصغيرة والبسيطة على أشباه الموصلات قد تحقق وفورات كبيرة في الطاقة والتكلفة عند مضاعفتها على نطاق واسع داخل كيان مثل Amazon Web Services Inc. ومع انتشار شبكات الجيل الخامس وزيادة الطلب على مقاطع الفيديو وبث الألعاب التي تستهلك الكثير من البيانات، وزيادة عدد الأشخاص الذين يعملون من المنزل، ستزداد الحاجة إلى رقاقات أحدث وأعلى كفاءة. 

هناك طريقة تُقاس بها درجة تطور الرقاقات، يُطلق عليها “عرض الخط”، وهي المسافة بين الدوائر المتكاملة. المعيار الحالي للرقاقات المتقدمة 5 نانومتر. وتعمل الشركتان TSMC وSamsung حالياً على إنتاج رقاقات 3 نانومتر بحلول عام 2022. ويساعد الذكاء الصناعي أيضاً في دفع صانعي الرقاقات إلى الابتكار، إذ يعتمد الذكاء الصناعي على معالجة كمية ضخمة من البيانات. كما أصبحت التصميمات الأكثر كفاءة أو الموفرة للطاقة أحد الاعتبارات المهمة فيما يسمّى بإنترنت الأشياء، وهو عالم من الأجهزة الذكية أو المتصلة من الهواتف إلى مفاتيح الإضاءة والثلاجات، ومن المتوقع أن يؤدي إلى تضخم استخدام الرقاقات بشكل كبير في السنوات القادمة.

8- كيف تمكنت تايوان خصيصاً من التميز في ذلك؟

برزت الجزيرة الديمقراطية باعتبارها محوراً رئيسياً للصناعة بفضل شركة TSMC ونظام بيئي كامل موجه نحو صناعة الإلكترونيات المتطورة. وتضغط شركات صناعة السيارات الأمريكية والأوروبية واليابانية على حكوماتهم للمساعدة في التغلّب على أزمة الرقاقات، مع مطالبات من تايوان وشركة TSMC للتدخل. توضح هذه المناشدات كيف منحت مهارة شركة TSMC في صناعة الرقاقات تايوان نفوذاً سياسياً واقتصادياً في عالم تُستغل فيه التكنولوجيا في تنافس القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين، المنافسة التي من غير المرجح أن تتراجع في ظل إدارة بايدن.

عربي بوست