مركز البحوث والمعلومات : خالد الحدا

بعد نجاح الثورة السودانية في الاطاحة بنظام الرئيس المعزول عمر البشير ، سجل السودانيين في 31 اغسطس الماضي نجاح جديد في مسيرة السلام المنشودة، من خلال توقيع الحكومة السودانية والحركات المسلحة على اتفاق سلام تاريخي ينهي عقود من الصراع الداخلي والعنف والاضطرابات السياسية، والذي حصد ما يقارب 4 ملايين قتيل ودفع بالملايين للنزوح والهروب من ظروف الحرب.

وينظر للاتفاق كونه ينهي عقوداً طويلة من الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية والممتدة منذ الاستقلال في 1956، ويأمل السودانيين أن يسهم اتفاق السلام في تعزيز تجربة التحول التي يعيشها السودان، للوصول إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية قائمة على المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية،  للنهوض بالشعب بمختلف توجهاتهم دون إقصاء أو تهميش تحت أي مبرر، وبما يسهم في معالجة الاختلالات والمظالم المتراكمة تاريخياً.

يشار إلى أن اتفاق جوبا التاريخي ما بين الفرقاء السودانيين، كان في الواقع محصلة لمارثون طويل من المفاوضات التي استضافتها دولة جنوب السودان مُنذ أغسطس 2019على امتداد عشرة أشهر، حيث شهدت المفاوضات في مختلف الجولات تبايناً في الرؤى حول القضايا المثارة ما بين الحكومة والجبهة الثورية من جهة وما بين الحركات المسلحة المنظوية داخل الجبهة الثورية من الجهة الأخرى ،لا سيما وأنها تتشكل من أكثر من فصيل مسلح ومن أكثر من منطقة جغرافية، وعلى الرغم من هذا التباين إلا أن المشكلة الأكبر كانت في غياب أبرز الحركات عن التوقيع وهما جيش تحرير السودان بزعامة “عبدالواحد نور” والحركة الشعبية – شمال بقيادة “عبد العزيز الحلو”.

جدير بالذكر أن الجبهة الثورية الموقعة على الاتفاق تشكلت من الفصائل والحركات المسلحة التالية:

  • حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي (دارفور) بقيادة الهادي إدريس يحيى، رئيس الجبهة الثورية.
  • جيش تحرير السودان بقيادة بقيادة مني أركو مناوي ( دارفور) .
  • حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم (درافور).
  • تنظيم “كوش النوبية” (شمال السودان).
  • الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال بقيادة مالك عقار(النيل الأزرق وجنوب كردفان).
  • تيارات أخرى تمثل مناطق شرق ووسط السودان.

 

مسار المفاوضات وبنود الاتفاق :

منذ بداية التفاوض ما بين الحكومة السودانية الانتقالية والحركات والفصائل المختلفة في 21 أغسطس 2019، كان من الواضح أن المفاوضات سوف تركز على عدد من المحاور المختلفة وفي مقدمتها محور القضايا القومية  ومحور الأقاليم، وكان من البديهي أن القضايا الخاصة بالأقاليم سوف تراعي خصوصية كل أقليم من جهة، واختلاف أجندات الحركات السياسية والجهوية من الجهة الأخرى، وفي هذا السياق كان الاتفاق على إنشاء خمسة مسارات للتفاوض المنفرد:

  • مسار “دارفور” ويمثله في المفاوضات (حركة العدل والمساواة، وجيش تحرير السودان، وتحرير السودان المجلس الانتقالي، وتجمع قوى تحرير السودان).
  • مسار “النيل الأزرق وجنوب كردفان” ويمثله (الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، بقيادة مالك عقار).
  • مسار الوسط ويمثله (الحزب الاتحادي الديمقراطي).
  • مسار الشمال ويمثله (تنظيم كوش).
  • مسار الشرق ويمثله (مؤتمر البجة المعارض).

 

وتوافقت الأطراف الموقعة على أن يشمل الاتفاق بروتوكولات متعددة بهدف معالجة قضايا “تقاسم السلطة والثروة – العدالة الانتقالية – الترتيبات الأمنية – التعويضات وجبر الضرر- تنمية قطاع الرحل والرعاة – عودة النازحين واللاجئين”، كما تناول اتفاق السلام الموقع عدد من البنود منها:-

  • تحقيق الحكم الذاتي لمنطقتي “النيل الأزرق وجنوب كردفان” وتقسيم مواردهما بنسبة 40% لصالح السلطات المحلية و60% لصالح الحكومة الفيدرالية.
  • تعيين ثلاثة أعضاء من الجبهة الثورية في السلطة الانتقالية “المجلس السيادي” وتخصيص ربع مقاعد مجلس الوزراء لصالح الجبهة الثورية، و 75 مقعدا في المجلس التشريعي الذي يتوقع تشكيله من 300 عضواً.
  • تمديد المرحلة الانتقالية إلى 39 شهر ابتداء من تاريخ توقيع الاتفاق.
  • دمج مقاتلي الحركات المسلحة في الجيش السوداني خلال المرحلة الانتقالية.
  • تشكيل قوات مشتركة لحفظ الأمن في “ولاية دارفور” ومنطقتي “النيل الازرق وجنوب كردفان” تُمثل فيها قوات الجبهة الثورية بنسب تصل إلى 30%.
  • منح منطقتي “النيل الأزرق وجنوب كردفان” صيغة حكم ذاتي استناداً لدستور 1973.
  • تخصيص 7 مليارات دولار على مدار 10 سنوات لإعادة إعمار ما خربته الحروب في مناطق النزاعات.

 

وكما ذكرنا سابقاً، أن ما أنجزه الاتفاق يعد خطوة جبارة نحو السلام المنشود في السودان وكان للحكومة والجبهة الثورية شرف إنجاز تلك الخطوة الإيجابية ،والذي لاقى ارتياحا داخلياً وترحيباً خارجياً، وبرغم من ذلك يبقى الحديث عن السلام الشامل بحاجة لمزيد من الحوار الجاد ولا سيما مع الحركات والفصائل الغير موقعة على الاتفاق وفي مقدمتها حركة تحرير السودان برئاسة عبدالواحد محمد نور والجبهة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال جناح عبدالعزيز الحلو، والمشكلة الحقيقية التي لا بد من الاعتراف بها أن الفصيلان يستحوذان على مساحة واسعة في مناطق وجودهما ولديهما ثقل عسكري هو الأكبر بالمقارنة مع الحركات المسلحة الأخرى.

والحديث عن ضرورة انخراط حركة تحرير السودان برئاسة عبدالواحد محمد نور في اتفاق السلام، يأتي في سياق أن الحركة وحسب المعطيات على الأرض تعد الأكبر في منطقة دارفور، وتعلم الحكومة السودانية الانتقالية وبقية الحركات المسلحة في دارفور أن محمد نور يراهن على وجوده القوي على الأرض وسط معسكرات النازحين من جهة وعلى قدرته في التأثير على أهالي دارفور والنازحين من الجهة الأخرى.

وتُعد حركة تحرير السودان بزعامة محمد نور الأكثر نشاطا وحركة في الميدان وفي مخيمات النازحين، وينظر لقوات الحركة على أنها الأكثر قوة عسكرياً، ويرتكز نور وحركته على دعم قبلي قوى في مخيمات النازحين في الإقليم ولا سيما قبيلة الفور.

 

وعن عدم المشاركة في الاتفاق، حيث أكد محمد نور أنه يرفض الجلوس مع قوى الحرية والتغيير لكونها سرقت الثورة وأن ثورة الشعب السوداني انحرفت عن مسارها، ويعترض نور صراحة عن هيمنة الجيش على ترتيبات تقاسم السلطة الانتقالية في البلد، ويطالب صراحة بإسقاط الحكومة التي لم تأتي بجديد بل أنها “حسب وصف محمد نور” تمثل امتداداً لحكومة الرئيس المعزول عمر البشير.

وفيما يخص السلام في السودان، فقد أكد محمد نور على ضرورة توحيد منبر التفاوض وأن تتم المفاوضات داخل السودان وليس بالخارج، وأن السلام المنتظر لا يأتي بالاتفاقيات، واصفاً ما يجري بأنه متاجرة بقضايا النازحين واللاجئين.

بالمقابل، هناك من يرى أن محمد نور يناقض نفسه بصورة مستمرة فتارة يشير على ضرورة أن تكون المفاوضات السودانية داخل البلد، وتارة أخرى يرفض الحوار مع الحكومة الانتقالية بصورة قطعية.

إلى ذلك، هناك من يحمل رئيس حركة تحرير السودان محمد نور مسؤولية عدم انخراطه في اتفاق السلام الموقع مؤخراً، والسبب هو رغبة “نور” في تحقيق مكاسب كبيرة لا يقاسمه فيها أي فصيل أخر من دارفور، اعتقاداً منها أن شعبيته داخل معسكرات النازحين في دارفور لا تقارن بأي حال مع غيره من الحركات، وما التصعيد العسكري الأخير في دارفور “حسب المراقبين السودانيين” سوى رسالة من قبل “نور” مفادها: أنه لا مفاوضات واتفاقات بأي حال من الأحوال دون الرجوع إليه.

وفي ذات الموقف من اتفاق “جوبا” يقف عبدالعزيز الحلو قائد الجناح الأخر للحركة الشعبية شمال، بعد أن كان طرف مشارك في بداية المفاوضات، ولكنه فضل الانسحاب من اتفاق السلام وتمسك بمطلب أن تكون السودان دولة علمانية، ولكنه أكد عدم اعتراضه على مفاوضات “جوبا”، بمعنى أنه ترك الباب مفتوحا أمام المفاوضات مستقبلاً ولكن بشروطه.

وهذا ما تحقق بالفعل، بعد أقل من 72 ساعة من اتفاق “جوبا”، عندما وصل رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك إلى العاصمة الاثيوبية أديس أبابا وانخرط مباشرة في مفاوضات مكثفة مع قائد “الحركة الشعبية – شمال” جناح عبد العزيز الحلو، وتكللت بالاتفاق بين الطرفين “على بناء دولة ديمقراطية وبناء دستور يقوم على فصل الدين عن الدولة، والاعتراف بالتعددية الثقافية والعرقية والدينية واستيعابها، فضلاً عن المساواة السياسية بين شعوب السودان وحمايتها بالقانون، مع احتفاظ الحركة بحق تقرير المصير في حال إخفاق المفاوضات في التوصل إلى اتفاق حول المبادئ الموقع عليها”، لكن حمدوك والحلو عادا في صباح اليوم التالي، وأصدرا اتفاقا مشتركا يرهن تنفيذ إعلان الاتفاق المشترك، بالمصادقة عليه من قبل المؤسسات المعنية.

يشار إلى أن “الحركة الشعبية – شمال” جناح عبد العزيز الحلو انشقت في 2017، عن فصيل مالك عقار، وعلى أثر هذا الانقسام أنظم أغلب مقاتلي الحركة إلى فصيل الحلو في معقله جبال في جبال النوبة بجنوب كردفان.

تحديات السلام :

هناك مجموعة من التحديات التي سوف تواجه السلام الشامل في السودان في مقدمتها:-

الشراكة ما بين العسكر والمدنيين/

الحديث عن السلام في السودان ما بعد توقيع اتفاق “جوبا” بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية يتطلب توصيف علاقة الشراكة ما بين العسكر والمدنيين، وعن واقع تقاسم السلطة الذي يوصف “حسب أغلب المراقبين” بأنه مازال شكلياً وأن الحاكم الفعلي في الخرطوم والمتحكم في زمام الأمور هم العسكر، وأن تلك السيطرة قد تعززت بصورة واضحة خلال المرحلة السابقة لا سيما مع استمرار الدعم الإقليمي من قبل الإمارات والسعودية.

وفي سياق التباين بين الطرفين، تبدو توجهات المدنيين والعسكريين تجاه قضية السلام مختلفة عن بعضها البعض، حيث يتمسك المدنيين “قوى التغيير” بضرورة تأجيل البحث في القضايا المرتبطة بالمشاركة في السلطة الانتقالية، قبل تحقيق السلام الشامل، بالمقابل كانت توجهات العسكر أكثر مرونة في هذا السياق من خلال تقديم الوعود للحركات والفصائل المسلحة أن الباب سوف يُفتح لهم للدخول والمشاركة في السلطة الانتقالية (المجلس السيادي-الحكومة) وغيرها من المناصب وبأنه سوف يتم تأجيل تشكيل البرلمان إلى أن يحقق السلام.

وحسب العديد من المراقبين أن توجهات العسكر في هذا السياق، تهدف إلى تمديد الفترة الانتقالية من ناحية وإضعاف هياكل السلطة الانتقالية من الناحية الأخرى، وبالتالي يصبح العسكر أكثر قدرة على تثبيت حكمهم الفعلي على الأرض من خلال تعزيز السيطرة على مفاصل الحكم في البلد.

الحركات المسلحة والانشقاقات المستمرة /

تتوافق مختلف الحركات المسلحة في السودان على أهمية رفض التمييز والتهميش التاريخي من قبل الانظمة المتعاقبة الحاكمة، وعلى ضرورة إعادة تقسيم السلطة والثروة وبصورة عادلة بين مختلف ابناء السودان، وعلى أهمية إعادة هيكلة أجهزة الدولة كافة، بما في ذلك الجيش للوصول إلى السلام الشامل، وبالرغم من أهمية ذلك التوافق إلا أن واقع الانقسامات التنظيمية والسياسية والدينية والشخصية فيما بينها سوف يشكل نقطة ضعف رئيسية في تثبيت السلام مستقبلاً.

وللتدليل على ذلك، فإن حركة العدل والمساواة في دارفور “ذات الخلفية الإسلامية” ليست على توافق مع حركات دارفور الأخرى “ذات التوجه العلماني”، ولا يختلف الوضع كثيراً في منطقتي “جنوب كردفان والنيل الأزرق” وانقسام الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال ما بين جناحي مالك عقار وعبدالعزيز الحلو.

ختاماً:

يأمل الشعب السوداني أن يشكل اتفاق السلام البداية الحقيقية في تحقيق طموحاته في الوحدة الوطنية والتنمية الشاملة، وأن يفتح الباب واسعاً امام مشروع بناء الدولة الديمقراطية العادلة، كي تنعم الأجيال القادمة بالسلام والآمن والاستقرار