إتفاق “أبراهام” من منظور الأمن القومي الإسرائيلي
العميد أحمد عيسى*
تزامن الإعلان عن إتفاق أبراهام مع نشر معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي (INSS) مذكرة بحثية حملت عنوان “سيناريوهات التهديدات الوجودية التي تواجه إسرائيل”، وفيما سبق إعداد المذكرة الإعلان عن الإتفاق، إذ كان الباحثون قد بدأوا العمل عليها العام 2018، إلا أن غايات ومقاصد الإتفاق التي يتواتر الكشف عنها تباعاً قد جاءت في جزء منها مطابقة من جهة، لما تضمنته المذكرة من توصيات ومقترحات، ومن جهة أخرى مخالفة لها، الأمر الذي ستناقشه هذه المقالة في معرض عرضها للملاحظات التي سجلتها على المذكرة.
وقد وقعت المذكرة في 131 صفحة، وشارك في إعدادها مجموعة من الباحثين من المعهد ومن جامعة تل أبيب، جمعوا ما بين تخصصات (الأمن القومي، والعلوم العسكرية والأمنية، والعلاقات الدولية، والعلوم السياسية، والقانون، والتاريخ)، حيث حددت المذكرة خمس تهديدات وجودية تواجه إسرائيل في المرحلة الحالية، جرى مناقشتها في خمسة فصول، تناول كل منها واحد من التهديدات التي جرى تقسيمها إلى تهديات عسكرية وديبلوماسية وإجتماعية، إذ دارت التهديدات ذات الطبيعة العسكرية ما بين: 1- بروز تحالف إقليمي عسكري معادي. 2- تحول الشرق الأوسط إلى منطقة نووية. 3- إنهيار النظام الدفاعي الإسرائيلي أمام الهجمات الصاروخية خاصة الصواريخ الدقيقة. ودار التهديد الديبلوماسي حول 1- حملة عزل ومقاطعة إسرائيل دولياً، أما التهديد الإجتماعي فتركز على 1- تفكك المجتمع وفقدان الدولة لهويتها كدولة يهودية وديمقراطية.
وبعد إستعراضها للأدبيات الأكاديمية التي تناولت تعريف التهديد الوجودي، عرفت المذكرة التهديد الوجودي في إسرائيل بأنه “التهديد الذي ينطوي على قدرة واضحة على إحداث دمار في اساس وجود الدولة، وفي سيادتها، وفي هويتها، وكذلك في قدرتها على التعامل بنجاح مع المخاطر الداخلية والخارجية”.
وفي دراستها للموضوع إعتمدت المذكرة فرضيتين إثنتين، تقول الأولى أن التهديدات الوجودية ذات طبيعة ديناميكية متحركة وليست ساكنة وتتأثر بمجموعة واسعة من الحقائق والمتغيرات، وتقول الثانية أن التهديد الوجودي لا يقتصر على إستهداف القوة العسكرية للدولة فقط، بل يستهدف كذلك سيادة الدولة وهويتها ومنظومة قيمها الأساسية.
وتأسيساً على ذلك قسمت المذكرة مجالات التهديد الوجودي لإسرائيل الى ثلاث مجالات، يتعلق الأول بالأمن الفيزيائي للدولة، والثاني بسيادة الدولة، والثالث بهويتها.
وجعلت المذكرة من مدى قدرة الدولة على التعافي من أثار التهديد بعد حدوثه معياراً للحكم على طبيعته، فإذا تعافت الدولة من أثاره وعادت الى ممارسة وظائفها خلال وقت معقول فلا يعتبر التهديد ذو طبيعة وجودية.
أما من حيث المنهج الذي إستخدمته المذكرة، فقد وظفت نموذج تحليلي لا يقوم على التنبؤ بالمستقبل من خلال تطبيق المقاربات المستخدمة في الدراسات المستقبلية فحسب، بل سعت للمساهمة في تشكيل المستقبل المرغوب والتحكم في اتجاهات ومسارات تطور أحداثه، وذلك من خلال تعزيز ما أطلقت عليه المذكرة بالأعمدة الأمنية للدولة التي حددتها بأربعة أعمدة اساسية (القوة العسكرية، التفوق التكنولوجي، المناعة الوطنية، العلاقات الدولية) لتمكين الدولة من مواجهة التهديدات والإنتصار عليها، وعلى ذلك بدأت المذكرة بتعريف التهديد الوجودي، ثم إنتقلت إلى تحديد التهديدات الوجودية التي تواجه إسرائيل في المدى القريب (1-5) سنوات، والمتوسط (5-10) سنوات، والبعيد (عقد- فأكثر)، وبعد ذلك عكفت على تحليل التهديات كل على حدة من خلال تطبيق منهج تحليلي واحد تضمن 1- تحليل الظروف المحيطة بالتهديد. 2- تحديد العوامل التي تُعجل أو تُعيق من حدوث التهديد. 3- تقييم إحتمالات تحول التهديد إلى واقع ملموس ضمن إطار زمني محدد، وأخيراً قدمت المذكرة جملة من النتائج والتوصيات.
من جهتها تجادل هذه المقالة أن التهديد الوجودي هو جزء ثابت وأصيل في البناء العقلي والتركيب النفسي السيكولوجي في الشخصية اليهودية الإسرائيلية، الأمر الذي بدوره يجعل من الإنهماك في مواجهة مستديمة للتهديدات الوجودية سبباً في إحداث تآكل في أداء المؤسسة الأمنية، وكذلك تآكل في مناعة المجتمع القومية نتيجة لتآكل ثقته في قدرة أجهزة الدولة على حسم صناعة الوجود وإيصال المجتمع الى العيش الطبيعي في الإقليم كباقي مجتمعات دول أخرى.
وعلى ذلك تجزم هذه المقالة أن مصير الإتفاق الإماراتي الإسرائيلي وما قد يعقبه من إتفاقات مع دول عربية وإسلامية أخرى، هو الفشل في الإنتصار على التهديدات الوجودية التي ناقشتها المذكرة، أو الإنتصار على غيرها من التهديدات الوجودية التي يقيناً ستظهر في المدى المتوسط والبعيد، تماما كما لم تنجح الإتفاقيات السابقة مع كل من مصر والأردن والفلسطينيين في جعل المجتمع اليهودي الإسرائيلي ينعم بالعيش الطبيعي في المنطقة ويتخلص من القلق المزمن على مستقبله.
وقد عززت هذه المقالة صحة إستنتاجها هذا بناء على جملة الملاحظات التي أظهرتها قراءة المذكرة:
تناقض وتعارض سياسات وإجراءات الحكومة الإسرائيلية المهيمن عليها من قبل اليمين النيوصهيوني مع توصيات المذكرة، لا سيما التوصيات التي تتعلق بمواجهة التهديد الوجودي الأساس المتمثل في بروز تحالف عسكري إقليمي معادِ لإسرائيل ويسعى لخوض حرب مصيرية معها، خاصة السياسات والإجراءات التي تضمن تطوير علاقات ديبلوماسية مع الفلسطينيين، وتقوي بذور السلام معهم، وتظهر إسرائيل كطرف يحترم الأماكن الدينية المقدسة الإسلامية والمسيحية خاصة المسجد الأقصى، الأمر الذي تمارس إسرائيل عكسه تماماً، إذ بدل التوصل إلى تحقيق سلام عادل مع الفلسطينيين، تسعى إلى فرض الهزيمة والإستسلام عليهم من خلال فرض صفقة القرن عليهم، وبدل حماية المسجد الأقصى تسعى الى تقسيمه زمانيا ومكانيا كما حال المسجد الإبراهيمي في الخليل.
خالفت المذكرة جملة التقارير الإستراتيجية السنوية التي تصدر عن الجيش الإسرائيلي وعن مؤسسات الدراسات المتخصصة في الأمن القومي في ترتيب التهديدات التي تواجه إسرائيل في المرحلة الحالية وفي المدى المنظور، إذ وضعت المذكرة بروز تحالف إقليمي معادي لإسرائيل في المرتبة الأولى من قائمة التهديدات الوجودية، ووضعت إيران النووية وطموحاتها الإقليمية في المرتبة الثانية، في حين جرت العادة أن تتبوء إيران المرتبة الأولى وليس الثانية، حيث ترى هذه المقالة أن أحد أسباب هذا التغيير تهدف إلى عدم إظهار الدول العربية والإسلامية بمظهر الممالك والإمارات الإسلامية التي تحالفت مع الملك الصليبي في بيت المقدس لحماية عروشها من تهديد عماد الدين زنكي واسد الدين شيركوه ومن بعدهم نور الدين محمود وأخيراً صلاح الدين الذي أتم الغاية التي بدأ التأسيس لها عماد الدين زنكي وحرر بيت المقدس من الصليبيين العام 1187.
جددت المذكرة التأكيد على أن القلق على مستقبل الدولة ووجودها هو مكون أصيل من مكونات التربية اليهودية وذلك على الرغم مما تمتلكه من قوة عسكرية وإقتصادية وتكنولوجية، الأمر الذي فيما ينطوي على منافع، إلا أنه ينطوي في نفس الوقت على مخاطر تفوق في حجمها ما تنطوي عليه من منافع، إذ تكمن منافعه في كونه عامل محفز على الإستعداد الدائم لمواجهة المخاطر والتهديدات التي تبدو نظرية وبعيدة عن التحقق في المدى المنظور، وتكمن مضاره في الأخطاء الناتجة عن خلل في قراءة المتغيرات، وتشخيص الخصم وتحديد هويته وأهدافه وقدراته وتوقيت تحوله الى تهديد، لا سيما وأن هذه من مهام البشر، والبشر مهما كانت درجة مهنيتهم إلا أن قراءاتهم وقراراتهم تكون عرضة للتأثر بالعوامل النفسية والثقافية والإجتماعية، التي تدفع البشر للتحيز لإستنتاجات قد تكون لا عقلانية، الأمر الذي يقود إلى ضعف في القدرة على تحديد ما قد يترتب على هذه التهديدات من متطلبات وتجهيزات للرد عليها، مما يقود الى أخطاء في تخصيص موارد الدولة وكيفية توزيعها.
أعادت المذكرة التأكيد على أن مصدر التهديد الوجودي لإسرائيل يكمن في الدول العربية والإسلامية المحيطة بها وفي جيوشها وقدراتها على خوض حرب مع إسرائيل، الأمر الذي ثبت فشله منذ بداية القرن الجاري، لا سيما وأن الجيش الإسرائيلي يخوض حروباً على مدى العقدين الماضيين مع جهات غير دولتية (حزب الله في لبنان، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة)، والأهم أن هذه الحروب قد خلخلت الركائز التي تقوم عليها نظرية الأمن القومي الإسرائيلي خاصة ركيزتي الردع والحسم السريع، فضلاً عن أنها أجبرت إسرائيل على إضافة ركيزة رابعة لنظرية أمنها القومي، هي ركيزة الدفاع عن الجبهة الداخلية التي أصبحت مكشوفة بالكامل أمام الضربات الصاروخية من الشمال والجنوب، وكان تقرير (لجنة فينوجراد العام 2007) التي تولت التحقيق في أسباب فشل الجيش بتحقييق أهدافه المعلنة قد أبرز هذا الخلل، وأعاد تقرير (مراقب عام الدولة العام 2017) الخاص بنتائج حرب العام 2014 على غزة التأكيد على هذا الخلل.
أعادت المذكرة التأكيد على أن إسرائيل تتمتع بتفوق ثقافي وحضاري على محيطها العربي والإسلامي، الأمر الذي يعكس روح الكبر والإستعلاء الإسرائيلي على العرب والمسلمين، بما في ذلك على شيوخ المال والجاه في دولة الإمارات وغيرها من دول الخليج التي ستلحق بها، وذلك على الرغم من حاجة إسرائيل في حماية ذاتها من التهديدات الوجودية التي ناقشتها المذكرة لهذه الدول.
وفي الختام ترى هذه المقالة أن طبيعة التهديدات الوجودية التي حددتها المذكرة تضع إسرائيل أمام خيارين إثنين: يدور الأول حول محاولة حسم صنع الوجود من خلال مواصلة التطهير العرقي للفلسطينيين بين النهر والبحر، الأمر الذي يدلل عليه إتفاق أبراهام، ويدور الثاني حول إستباق الفشل والتخلي عن تفسير اليمين النيوصهيوني للمشروع الصهيوني، التوصل الى شراكة مع الشعب الفلسطيني تضمن للطرفين حقوق متساوية.
لا سيما للغايات والمقاصد التي تهدف إلى تحسين صورة إسرائيل في المنطقة، حيث ترى المذكرة أن تحقيق هذه الغاية يتم من خلال تطوير المسيرة الديبلوماسية مع الفلسطينيين وتعميق جذور السلام عبر تعاون متعدد المستويات، والأهم من خلال حماية الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية خاصة المسجد الأقصى.
* المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
* المصدر : رأي اليوم