عبد الباري عطوان*

إذا كان “اتّفاق أوسلو” أعظم “اختراع” إسرائيلي، على حدّ وصف الثّعلب شمعون بيريس، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي سيتم الاحتِفال بتوقيعه رسميًّا الشّهر المُقبل في حديقة البيت الأبيض، وربّما في التّوقيت نفسه لتوقيع الاتّفاق الأوّل، هو الاختِراع اليهودي الثاني الذي لا يَقِل أهميّةً وخُطورةً بالنّظر إلى طُموحات مُهندسه جاريد كوشنر صِهر الرئيس الأمريكيّ بمُشاركة وإشراف مُعلّمه بنيامين نِتنياهو.

الاتّفاق الأوّل، أيّ “أوسلو”، الذي جرى توقيعه في 13 أيلول (سبتمبر) عام 1993 باع للفِلسطينيين وهم إقامة دولة فلسطينيّة دولة على حُدود عام 1967 وتحويل قِطاع غزّة إلى “سنغافورة الشّرق الأوسط”، أمّا الاتّفاق الثّاني فيبيع وهمًا أكثر خُطورةً للعرب، أيّ إقامة “تكتّل سنّي” تقوده إسرائيل يتصدّى لإيران وتركيا وطُموحاتهما في الزّعامة على المِنطقة، وتحويل أبوظبي إلى “إسبرطة” الجزيرة العربيّة، برعايةٍ أمريكيّة إسرائيليّة، مُعزّزةً بترسانةٍ من أحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا، ودُرّة تاجها طائرات “إف 35” (الشّبح) الأكثر تطوّرًا في الصّناعة العسكريّة الأمريكيّة.

***
اختيار دولة الإمارات لهذا الاختراق الأمنيّ والعسكريّ الإسرائيليّ الأمريكيّ لم يَكُن اعتباطًا، وإنّما نتيجةَ دراسات وتمحيص واختِيار الظّرف والتّوقيت المُلائمين، فدولة الإمارات، مِثل مُعظم دول الخليج الأُخرى، وخاصّةً السعوديّة والبحرين، تُعانيان من “هاجس” القوّة الإيرانيّة الصّاعدة، وما يترتّب عليها من تهديداتٍ، وفي ظِل صُعود القوّة الإقليميّة الأُخرى، أيّ تركيا، ووجود قواعد لها على حُدود الإمارات، أيّ قاعدة “عديد” أُخرى في قطر، اختارت العُقول الإسرائيليّة المُتآمرة والمُخطّطة هذا التّوقيت الحَرِج، لاستِغلال نُقطة الضّعف الإماراتيّة، تمامًا مثلما استغلّت إسرائيل وأمريكا نُقطة ضعف منظّمة التحرير المُتمثّلة في عُزلتها، وحِصارها وإفلاسها، بعد غزو القوّات العِراقيّة للكويت بالمُسارعة بعرض “طُعم” مُفاوضات ومن ثمّ اتّفاق “أوسلو” لإدخالها في مِصيدة التّطبيع المُحكمة الإعداد وبقيّة القصّة معروفة.

بعد 27 عامًا من توقيع اتّفاقات أوسلو باتت قيادة المنظّمة تعيش حِصارًا وعُزلةً أكثر إذلالًا وخنقًا من ذلك الذي عاشته عام 1990 بعد احتِلال الكويت، فلم تظفر بدولةٍ فِلسطينيّةٍ مُستقلّة ولا حتى بحُكمٍ ذاتيّ، وإنّما بصفقة قرن تقود في نهاية المطاف إلى ضمّ أكثر من 30 بالمِئة في الضفّة، وجميع غور الأردن، إلى جانب القدس، وطرد مُعظم الفِلسطينيين إلى الأردن حيث مشروع الوطن البديل، ولم يَعُد أحد من الزّعماء العرب يُهاتف الرئيس محمود عبّاس الذي توقّفت طائرته الخاصّة عن الطّيران، وبدأ يأكلها الصّدأ والغُبار حيثُ تربض في مطار عمّان إلى أجلٍ غير مُسمّى.

أكثر التّعبيرات التي تُثير الاستغراب هذه الأيّام هي تلك التي تتردّد على لسان مسؤولين إماراتيين وتقول إنّ “اتّفاق السّلام” الجديد يحظى بضمانةٍ أمريكيّة وينسى هؤلاء أنّ اتّفاق أوسلو يحظى أيضًا بضمانةٍ أمريكيّة، والاتّفاق النووي الإيراني كذلك، وربّما يُفيد التّذكير أيضًا بأنّ الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان توصّل إلى اتّفاقٍ مع الرئيس ترامب بالإفراج عن القس الأمريكي أندرو برونسون عام 2017 مُقابل تسليم الداعية الإسلامي فتح الله غولن، المتّهم بالوقوف خلف انقلاب تمّوز عام 2016، وعاد الأوّل إلى عائلته في أمريكا، وما زال الثّاني غولن يتمتّع بصحّةٍ جيّدة، ورعايةٍ أمريكيّة مُتميّزة في منفاه في ولاية بنسلفانا، ودفَعَ الاقتصاد التركيّ وما زال يدفع ثمنًا باهظًا بسبب ضُغوط ترامب.

السيّد بسام أبو شريف، مُستشار الرئيس عرفات السابق، روى في مقاله الأخير (نُشر يوم الخميس في صحيفة رأي اليوم) أن بيريس أبلغه بأنّ عرفات أخطأ عندما اعتقد أنّ اتّفاق أوسلو سيقوده إلى دولةٍ فِلسطينيّة، لأنّه لا يوجد إسرائيلي واحد يقبل بقِيامها، وكُل ما يُمكن أن يحصل عليه هو حُكم ذاتي تحت السّيادة الإسرائيليّة، واعترف الرئيس عرفات بأنّ بيريس كانَ مُصيبًا، وما أدركه خَلَفه الرئيس محمود عبّاس أنّه حتّى الحُكم الذّاتي لم يَعُد مُمكنًا، وبات ينتظر أحد خِيارين، إمّا الاغتيال أو الإبعاد إلى الأردن.

نِتنياهو أكّد أنّه لم يلتزم مُطلقًا بوقف الضّم بمُقتضى الاتّفاق مع الإمارات، وأنّ التّجميد سيكون “مُؤقّتًا” ولأسابيع وربّما لأشهرٍ معدودة، وصرّح أحد وزرائه بأنّ الإمارات لن تتسلّم ولا حتى “بُرغيًّا” واحدًا من طائرات “الشّبح”، وهذا ليس مُفاجئًا، فلماذا تلتزم أمريكا وإسرائيل بالاتّفاق الإماراتي الأخير، وهُما لم يلتزما مُطلقًا بمُعظم الاتّفاقات السّابقة إنْ لم يَكُن كلّها.
***
اللّعب على الورقة الطائفيّة، والتّقسيمات السنيّة الشيعيّة التي تُحاول إسرائيل تعميقها في المِنطقة بدعمٍ أمريكيّ، وترى في اتّفاق السّلام مع الإمارات رأس حِربتها، هو الخطر الأكبر الذي يُواجه المِنطقة حاليًّا، فزعامة إسرائيل للتكتّل السنّي الذي تَعكِف أمريكا على تأسيسه لمُواجهة الخطر الإيراني المزعوم يُذكّرنا بمُحادثات حسين مكماهون التي قادت إلى الثّورة العربيّة الكُبرى ضدّ الإمبراطورية العثمانيّة أثناء الحرب العالميّة الأولى، وكانت مُكافأة العرب اتّفاقات “سايكس بيكو” ووضعهم تحت الانتِدابين الفرنسيّ والبريطانيّ.

التّاريخ يُعيد نفسه للأسف بطريقةٍ أو بأُخرى مع اختِلاف المُمثّلين وبِما يُؤكّد أنّ العرب هُم أنفسهم، ولا يتعلّمون من دروسه مُطلقًا، لأنّهم وبكُل بساطة، لا يقرؤنها، وإن قراؤها لا يُريدون فهمها، رُغم أنّ بعضهم تعلّم في أعظم الجامعات الغربيّة والشرقيّة، ولكن على مَن تقرأ مزاميرك يا داوود.

* المصدر : رأي اليوم
* المقال تم نقله حرفيا من المصدر ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع