طالب الحسني*

استقال حسان دياب ، ليلة حزينة وصامتة في لبنان ، ولكن صوتها غير مسموع ، عمر هذه الحكومة المستقيلة والتي أمست هذه الليلة حكومة تصريف أعمال وربما يطول الزمن بها وهي تحمل هذا الأسم ، أقل من عام .

في خطاب الاستقالة السريع لحسان دياب يمكن ملامسة نبرة الحزن والشعور بالخذلان بشكل واضح ، البارز في الخطاب أن الطبقة السياسية التي أفسدت البلاد والعباد طوال العقود الماضية لم تكن تريد أن ينجح ، لأنه كما يقول دياب كان سيفضح العهد والحكومات السابقة ، اذاً كان في وجه العاصفة الخبيرة بتفاصيل وشبكات مافيا الفساد في لبنان و الاخطبوط المتجذر في الدولة الطائفية العميقة ، هذا التحدي وحده يكفي بأن يقيد عمل أي فريق إصلاحي في أي بلد ، ما بالك أن يكون هذا البلد هو لبنان الصعب .

كجردة حساب جاءت حكومة دياب في الأساس لمعالجة تركة ثقيلة من الفساد المالي والخلل الإداري والصراع الداخلي والتجاذبات الإقليمية والدولية ، عدد من السفارات في هذا البلد لا تمارس أبدا عملا دبلوماسيا وفق البروتوكلات المعروفة ، السفير هنا لبعض البلدان العربية والإقليمية والدولية يمثل رزمة من أوراق الضغط ومصفوفة عريضة من الإسلحة ، وتخيلوا أن بعض القوى الإقليمية والدولية ولأسباب متراكمة تمتلك القدرة على جعل الحكومة تدور في حلقة مفرغة إذا ما قررت القيام بحزمة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية ، لقد كان هذا واضح تماما في الإنهيار الاقتصادي بسبب الهبوط غير المسبوق لليرة اللبنانية أمام الدولار ، كيف يمكن لحكومة لا تقوى على تغيير حاكم البنك ( المصرف ) اللبناني أن تتحكم في تراجع عجلة الحركة النقدية ! بيد أن المطلوب منها هو حماية لبنان من السقوط والخروج إلى مربع الدول الفاشلة ، بدت حكومة دياب مقيدة بخطوط وحبال وأوتاد ممتدة إلى عقود من الماضي ، من الصعب إصلاحها دون تغيير جذري ، حتى التغيير الجذري للطبقة السياسية كما ترفع حركة الاحتجاجات بوعي أو بغير وعي يبدو أمرا مستحيلا ، الامر يتطلب ” حرب ” أهلية ، والعياذ بالله الواحد من الحروب الأهلية ، لكن هذا الواقع .

جاءت أيضا في قلب الصراع المحتدم بين محور المقاومة الذي تقوده ايران والمحور الأمريكي الأوروبي الإسرائيل ومعه بعض الدول العربية من بينها السعودية ، الجميع غير قادر على إرساء عملية توزان ، ذلك ان مقومات التوازن انفرطت بفعل الأحداث الكثيرة التي تشهدها المنطقة ، مع ذلك حرمت حكومة حسان دياب من الدعم الإعلامي بقدر كبير جدا حتى من الحلفاء ، ولسبب واضح مفاده ( حتى لا يقال أنها حكومة حزب الله ) ومع ذلك كانوا يرددون هذه التسمية .

وربما من سوء حظ الحكومة اللبنانية المستقيلة ان اول التحديات التي وقفت في وجهها ، تعقيدات كوفيد 19 التي أرهقت العالم وسببت في تداعيات اقتصادية وسياسية على مختلف حكومات الشرق والغرب ، لبنان نجحت كثيرا في مواجهة الفيروس وتحملت أعباء كبيرة لتخطي الوباء بسبب أنها اتخذت اجراءات كثيرة ضاعفت من الانهيار الاقتصادي ، قبل أن تضطر لإلغاء الكثير من القيود للخروج قليلا من الأزمة غير المسبوقة .

تعالوا إلى الممارسات الإقليمية والدولية المعاكسة لتوجه الحكومة ، على الرغم من الإعلان الصوري بالموافقة عليها ودعمها ، وإذا ابتدأنا بالولايات المتحدة الأمريكية والسعودية سنجد أن هذه الدولية استمرت في الحرب الاقتصادية الخفية والمعلنة ومن بينها الإحجام عن دعم البنك المركزي اللبناني ووضع اشتراطات كثيرة امام الحكومة لضرب حزب الله ، وفي ذات الوقت منع لبنان الانفتاح على الشرق والاستجابة للمبادرات الصينية والإيرانية ، وفي هذه الزاوية تحديدا لم يضغط حزب الله على دياب وحكومته في اختيار هذا الطريق ، واكتفي السيد حسن نصر الله بالتلميح إلى ذلك في أكثر من خطاب ، وعلى هامش الخيارات المتاحة أمام دياب بقي الرجل يحاول أن التمسك بالبقاء ضمن المربع الأمريكي مع عدم استعداء المحور الآخر ، قد يصبح البقاء في الوسط مشؤوم مستقبلا ، لأنه من شروط النجاح وهو مؤسف القفز والخروج من المنطقة الرمادية إلى الأسود أو الأبيض .

يردد الرئيس اللبناني ميشال عون جملة حياد لبنان وابتعاده عن التجاذبات الإقليمية والدولية ، هو في الحقيقة يدفع ثمن هذا الشعار منذو وصوله إلى قصر بعبدا على الرغم أن الحياد لا يمارس بصورة فعلية ، لبنان منطقة صراع ومن المبكر جدا الإدعاء بالخروج منه ، لبنان كجغرافيا لا بد وان يكون في قلب الصراع ، مثله مثل فلسطين المحتلة وسوريا ، هو بلد مستهدف من كيان العدو الاسرائيلي الذي يحتل جزء من البر والبحر وجزءا كبيرا من الجو اللبناني .

نعود إلى الحكومة المستقيلة ورئيسها الذي شعر بالخذلان والإحباط معا . كشكل هي حكومة مستقلة ومعظم اعضائها ومن بينهم حسان دياب مستقلون وشكلت للخروج من الطبقة السياسية المتهمة بالفساد والفشل ولإصلاح ما أفسدته الحكومات المتعاقبة ، ولكن أين الفرص التي منحت لها للقيام بدور القبطان الضرورة لمنع السفينة من الغرق ؟! على العكس ، لقد وضعت وكأنها حكومة مواجهة ، منذ 21 يناير 2020 وهو موعد تشكيل وإعلان الحكومة وحتى 10اغسطس 2020 موعد الإستقالة أي 6 أشهر وعشرة أيام بالتمام ، في المحصلة وبعد الإستقالة يمكن القول بانها تجربة مرة للحكومات المستقلة وغير المغطاه بالكتل والتيارات السياسية ، وما حصل هو أشبه بقمع أي حكومات من هذا النوع في المستقبل ان كان في لبنان أو الوطن العربي ، سيكتب هذا في التاريخ السياسي اللبناني والعربي .

وللانصاف يجب القول أن حكومة من هذا النوع ، الحكومة المستقلة ، وكذلك حكومات الكفاءات تعرضت لخذلان ممن كان يفترض أن يكون حليف ، فجزء كبير من التيارات السياسية التي منحت دياب الثقة في البرلمان تملمت وتركته لمصير غير جيد ، ولعل الاستقالات التي سبقت إعلان دياب استقالته وربما التي كانت أيضا متوقعه كانت تشير إلى تخلي واضح عنه والتوجه لسحب الثقة من حكومته في البرلمان وهو ربما استبق ذلك ، وللتاريخ حزب الله بقي وفيا مع دياب حتى اللحظة ، ومن المتوقع ان يكششف عن ذلك في المستقبل .

تفجير مرفأ بيروت المؤلم لم يكن السبب الرئيس لاستقالة الحكومة ولكنه كان الحلقة والحادثة الرهيبة التي كان يجب ان تكون السبب ، وخاصة أن كثير من القوى الدولية ومن بينها فرنسا تعاملت وكأن حكومة دياب المستقلة جزء من الطبقة السياسية التي يجب أن تتغير ، وإلى ماذا يعني أن يجري التوافق على القفز على الحكومة وتوزيع ” مساعدات ” المانحين لمعالجة كارثة التفجير ستجري بصورة بعيدة عن الحكومة وبإشراف الأمم المتحدة ، وهو قفز واضح ليس على الحكومة ورئيسها الذي يجب ان يمنح كل الصلاحيات وإنما أيضا قفز على السيادة اللبنانية ، ان حصل ذلك في ضل وجود حكومة دياب بكامل صلاحياتها وقبل الاستقالة كان محرجا للغاية وغير مسبوق ، ولا يستقيم مع حكومة إنقاذ .

إلى حد كبير يتطابق مصير رئيس الحكومة العراقية السابق عادل عبد المهدي الذي استقال بظروف مشابهة وضغوط امريكية وسعودية واوروبية وخذلان من الداخل على الرغم أن حكومته شكلت كحكومة كفاءات . فهل سيعتبر قمع الحكومات المستقلة وإسقاطها بهذه الطريقة قمع استباقي للحكومات المستقلة في المستقبل العربي ؟

* المصدر : رأي اليوم
* المقال تم نقله حرفيا من المصدر ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع