مركز البحوث والمعلومات

كثر حديث الاقتصاديين المتخصصين خلال العام الفائت عن أن العام 2020 سيشهد أزمة كساد عالمي ربما تفوق أزمة الكساد الكبير أواخر ثلاثينات القرن الماضي، والتي كانت واحدة من أهم أسباب الحرب العالمية الثانية.

كل هذا كان قبل الإعلان عن المرض الظاهر كوفيد-19، الذي على ما يبدو وضع الاقتصاد العالمي على سكة الركود في الطريق نحو الكساد الأكبر؛ حيث جاء كورونا أو جيء به ليرسم ملامح المرحلة القادمة، ويعدل في قناعات الناس وتوجهاتهم المختلفة وعلى الأخص الاقتصادية والاجتماعية منها.

بفعل كورونا، ولأول مرة عبر التاريخ، تم تقييد التقارب الاجتماعي الواقعي عبر العالم في أضيق نطاق يمكن تخيله، وفي المقابل يتسع المجال الاجتماعي افتراضيا ليصبح المتنفس البديل في ظل غياب التواصل الحقيقي والمباشر في زمن الحجر الصحي الطويل والمتوقع أن يطول أكثر؛ إذ إن طبيعة الكورونا كمرض يصيب الجهاز التنفسي وينتشر بشكل رئيس عبر الهواء المحيط بالمريض أو الأسطح الملوثة التي يلامسها رذاذه، لديه القدرة على الانتشار السريع وفق متوالية هندسية مرعبة. وهو إلى ذلك وعلى الرغم من كونه يصل ذروته في الأشهر الباردة إلا أنه يمكن له الاستمرار طوال ايام السنة مثله في ذلك مثل أمراض الانفلونزا المتعددة التي يمكن أن تتفشى حتى في فصل الصيف طالما كانت الأجواء متقلبة وغير مستقرة، بل إنه تمكن من الانتقال إلى القارة السمراء الحارة أجواؤها دون اهتمام بارتفاع درجة الحرارة، الأمر الذي أحبط نظريات بعض المتفائلين ممن توقع انتهاءه مع دخول فصل الصيف.

 

وفوق ذلك يتسم كورونا بخاصية القدرة على التحور والتكيف، وهو ما يجعل مكافحة هذا الفيروس المراوغ واختراع عقار يقضي عليه بصورة نهائية أمرا مستحيلا في المدى القريب المنظور، إذ يستلزم الأمر من الباحثين استمرار مواكبة تغيراته واختراع عقار جديد لكل مرحلة من مراحل التحور التي يمر بها، وإذا أضفنا إلى كل ذلك أن المريض بسبب كورونا لا يحصل على مناعة من المرض بعد إصابته، فإن ذلك يعني حربا طويلة الأمد لا يمكن الجزم بموعد انتهائها.

وعليه يمكن تخيل طبيعة الحياة الاجتماعية القادمة المعتمدة أكثر وأكثر على شبكة الإنترنت العالمية في شتى مناحيها، خصوصا مع تشجيع الحكومات على ذلك كوسيلة لتحفيز الناس على البقاء في منازلهم والالتزام بالحجر الصحي.

 

إلى جانب ذلك، ومع تزايد وتيرة تدهور الاقتصاديات المحلية والعالمية، خصوصا بعد إجراءات الحجر الصحي، تفاقمت الخلافات داخل بعض البلدان بين أنصار استمرار الحجر، وأنصار العودة للحياة الطبيعية والتعايش مع المرض واتخاذ إجراءات وقائية معقولة لا تتعارض مع سير عجلة الاقتصاد، وحفاظ الناس على مصادر دخلهم.

وفي خضم هذا الصراع الذي قد يستمر لأشهر، بدأت ملامح الاعتماد على نمط اقتصادي جديد يقوم على التخلي عن كثير من الوظائف على الأرض واستبدالها بنمط العمل من المنزل عبر الشبكة العنكبوتية كبديل آمن ومنتج وأوفر تكلفة، الأمر الذي قد يشمل قائمة متعددة ومفتوحة من الوظائف قد تتسع يوما بعد آخر، ويفتح المجال أيضا أمام اعتماد الآلات ما أمكن في الأعمال الصناعية والتجارية، بعيدا عن ضوضاء نقابات العمال والحديث عن أنسنة الاقتصاد ومراعاة حقوق العمال والحفاظ على وظائفهم.

إن الحديث عن انهيار الاقتصاد العالمي يترافق معه دائما الكلام عن انهيار متوقع لقيمة العملات الورقية التقليدية، خاصة الدولار، ولجوء عدد من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة لبيع مخزونهم النقدي واستبداله بالذهب باعتباره مخزن القيمة الآمن والبديل الأنسب خلال الظروف الصعبة وغير المستقرة اقتصاديا أو سياسيا. وبجوار الذهب، وخلال السنوات القليلة الفائتة التي صعد فيها نجم ملك العملات الرقمية “البيتكوين”، وارتفعت قيمته لتتجاوز في أواخر العام 2017 وبدايات العام 2018 أسعار أوقية الذهب وتصل قيمته لحدود العشرين ألف دولار، كان الحديث متصاعدا عن كون “البيتكوين” في طريقة ليصبح مخزناً للقيمة بديلاً للذهب أو بمعيته. والآن وفي زمن كوفيد19، حيث تعد ملامسة الأوراق النقدية واحدة من وسائل انتشار العدوى بالمرض، تزايد النقاش عند مناصري العملات الرقمية على ضرورة تطوير الاقتصاد النقدي العالمي والانتقال لطور النقود الرقمية الإلكترونية الأسرع والأوفر والبعيدة عن رقابة الحكومات وسيطرة البنوك من وجهة نظر أنصارها، والمناداة باعتماد هذه العملات، خصوصا “البيتكوين” الذي يحظى بقبول متزايد بين الناس، كملاذ آمن مثله مثل الذهب يمكن تحويل الأموال النقدية الورقية إليه في ظل المخاوف الاقتصادية الراهنة والتحرك المستمر باتجاه الكساد. ولو أمكن، وهو ممكن على أية حال، تخيل ارتفاع الطلب عند الناس على استخدام محافظ العملات الرقمية في عمليات بيع وشراء المنتجات المزدهرة أصلا عبر الإنترنت، وارتفاع حجم رأس المال المستخدم في المضاربة على العملات الرقمية، فإن ذلك يقود بالضرورة للتساؤل عن ذلك المجهول الذي سيشتري ذلك الكم الهائل من العملات الحقيقية ذات الحقيقة الفيزيائية الملموسة على أرض الواقع وتحديدا الذهب مقابل بيعه العملات الرقمية ذات الطبيعة الإلكترونية الوهمية، والتي يمكن أن يفقدها أصحابها في لحظات عند حدوث أدنى خلل في خدمات الإنترنت.

 

 

على هذا؛ يبدو العالم وكأنه يساق سوقا نحو مزيد من الاعتماد على العالم الافتراضي اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وفي مناحي الحياة المختلفة، الأمر الذي يعني تسليم حياة هذا الكوكب لمزودي خدمة الإنترنت أصحاب السيرفرات الأم المعلومون منهم والمجهولون، ليصبح مصير العالم بأنشطته المختلفة أكثر فأكثر تحت أيديهم. ولن تفيد جماعة أنصار البدائل الافتراضية تطلعاتهم بعالم أكثر حرية وسهولة في التعاملات المتعددة؛ إذ تظل المخاوف المشروعة مما يجري ملحةً خصوصا ولدينا تجربتنا في اليمن التي تؤكد صحة هذه المخاوف بعد انقطاع مطول لخدمة الإنترنت عن عموم اليمن مطلع العام الحالي، الأمر الذي عطل مصالح أفراد ومؤسسات وتسبب لهم بخسائر كبيرة، إضافة لفقدان القدرة على التواصل مع العالم الخارجي والمعتمد في معظمه على وسائل التواصل الاجتماعي. كل ذلك يعطينا لمحة عن مصير العالم وأمواله ومعلوماته في لحظةٍ ما قد تنقطع فيها خدمة الإنترنت لسبب أو لآخر.

إذن يبدو أننا مقبلون وبقوة على المرحلة الأخيرة من مراحل العولمة، حيث قلة قليلة جدا تتحكم في مقدرات العالم المخزنة لديهم في سيرفراتهم التي يملكونها، وحيث هذا الفيروس الذي قد يطول أمده مع استمرار حضوره المكثف والمرعب في وجدان الناس بفعل وسائل الإعلام المختلفة حتى في تلك المناطق التي لم ينتشر فيها جغرافيا، وهو ما يكرس معه نمط المتغيرات الجديدة لتصبح سلوكيات معتادة، وواقعا متقبلا عند الناس حتى أولئك المتشككين في أصل الفيروس ومنشئه والجهة التي تقف خلفه ومراميها من ذلك.