اللغة العربية تختزل الجمال وتقاوم العنف
(السياسية) – سوسن الجوفي:—-
هل تموت اللغة والناس يتكلمون ويثرثرون دون إنقطاع ؟! تؤكد الدراسات الحديثة أن في العالم سبعة آلاف لغة يسجل علماء اللغات موت إحداها كل أسبوعين ومن المتوقع أن تندثر نصفها بنهاية القرن الحالي.
واليوم الـ18من ديسمبر ذكرى إعتماد اللغة العربية بين لغات العمل الست في الأمم المتحدة وهي اللغة الأم لغة التشريع الأساسي للإسلام وأكثر اللغات السامية تحدثاً وإحدى أكثرها انتشارا في العالم واللغة الرابعة من حيث عدد المستخدمين على الإنترنت.
سطور (سبأ) إقتربت من ناطق اللغة ودارسها الشغوف بمفرادتها ونصوصها وكذا الهارب من قواعد النحو وتصريفاته ومشتقاته، ومعلمها القائم عليها لتعرف القارئ بمواطن جمال هذه اللغة ومكامن قوتها وقدسيتها والتحديات التي تواجهها والإهمال الواقع عليها .
لو كان النحو رجلاً لقتلته
هذه عبارة كتبها أحدهم على صفحات التواصل الإجتماعي وهو أحد الشباب المعقدين من مادة النحو يشتكي من صعوبتها وثقلها عليه وهذا حال كثير من الطلاب الذين نجدهم يستصعبون المادة وينفرون من دراستها ولا يستطيعون إعراب جملة واحدة إعراباً كاملا وافياً.
تشعر هبه الصايدي طالبة الثانوية العامة شعور غريب تجاه حب اللغة العربية ودراستها لخصت وصفه بقاسم مشترك بينها وبين اللوغريتمات الرياضية التي لا معنى لها في الحياة لأن دراسة المادتين أمر معقد ..وتتسأل فما شأننا نحن الطلاب بالضمير الغائب الذي نظل نبحث عنه في وسط الجمل وفي قواعد النحو ولا نجده إلى أن يدق جرس المدرسة وننهي الإمتحان ومازال غائبا.
وأضافت هبة “أنها وزميلاتها يحصلن على درجة ضعيفة في اللغة العربية دونا عن بقية المواد وأنها المادة الوحيدة التي تنسف جهود الطالبات المجتهدات بسبب صعوبة المنهج وتعقيداته ولم يجدن المعلم أو المعلمة الذي يشرحها ويبسطها حتى يستطعن إستيعابها”.
على العكس من عبدالرحمن طالب الصف التاسع الذي يتميز بطلاقة لسانه وفصاحتها باللغة العربية ويعتبره زملائه المرجع اللغوي لهم رغم صغر سنه.
فعبدالرحمن يتقدم أصدقائه في الإذاعة المدرسية خاصة إذا كان هناك مناسبة أو نشاط مدرسي يحضره ضيوف ليعجب الجميع بطلاقته وفصاحته والمفردات التي يرددها ومخارجها الصحيحة ويبهر الحضور بتناسق الكلمات وترتيبها.
هل حب اللغة أمر فطري لمتحدثيها وهل يؤثر القائمين عليها بتوضيح مواطن جمالها وغرس مبادئ التعلق بها، هذا ما علقت عليه الأستاذة سمية الوادعي خريجة قسم اللغة العربية ومديرة البرامج بإذاعة صوت الشعب، أن دور القائمين على اللغة العربية يبدأ من البيت بالوالدين إلى المدرسة ممثلة بالمعلمين وكذا الجامعات والمتخصصين فيها بدراسة وتدريس اللغة العربية وغرس حب اللغة وهذا واقع اللغة العربية مرهون بالقائمين عليها.
سمية التي عادت بذاكرتها للوراء لتروي لـ”سبأ” قصة شغفها بدراسة اللغة العربية وكيف كان له دور كبير في تميزها وتفوقها على البقية ولا تنسى سمية معلمها “المصري” الذي مازالت دروس حصص اللغة العربية محفورة في ذاكرتها من نحو ونصوص وبلاغة وأدب وكان له الدور الكبير في تسهيل المادة وتوصيل المعلومة بحب وإنتماء لما يتم أخذه ودراسته وكان له الأثر الأكبر في حياتها وأفرز ذلك الحب والشغف بالمادة أن تكون من أوائل دفعتها بالمرتبة الثانية في قسم اللغة العربية.
إستشعار اللغة وجمالها
البصير سيبويه هذه الكنية التي يطلقها عليه أبناء حارته وهو الشاب الثلاثيني الذي ولد كفيفاً يبصر بنور قلبه ما تعجز عنه حدة أعين المبصرين الذين يسخرون من إعاقته أحيانا ويشفقون عليه أحيانا أخرى.. البصير سيبويه يحفظ من القرآن الكريم ما يميزه عن الدارسين والباحثين والمتخصصين ولديه قدرة على نسج الكلمات ومعانيها برشاقة وخفة لتطرب من يسمعها وترفع مكانة اللغة العربية الجميلة مكانا عليا.
يخرج سيبويه للحي يتوكأ على عصاه لمعرفة إتجاهات بقايا الطريق غير أن الحقيقة تقول أن عصاه هي من تتكئ عليه وعلى قوة بلاغته وبراعته في الكلام ليتجول وسط الحي ويتبادل مع جيرانه والأطفال الأحاديث والأشعار.. حب سيبويه لقراءة القرآن عمق حبه للغة العربية والعكس وهذا فقط ما علق عليه سيبويه البصير لـ”سبأ”.
الخنساء طالبة الثانوية والتي ارتبط إسمها منذ مولدها بحب والدها للغة العربية وتعلقت بكلماتها وجمال مفرداتها.. تقول أنها كانت تتحرج كثيرا من أسمها عندما تناديها الطالبات والمدرسات ولكن والدها أقنعها بأسلوبه الأدبي بجمال الأسم وروعته لما له من وقع كبير في نفسه فلم يكتف بتسميتها بما هو متعلق به بل أن أخويها جلنار وملهم، واجها نفس الحرج لكن أسلوب إقناع وشرح والدها اللغوي الفريد كما تقول أقنع الجميع بروعة الأسماء وجمال اللغة المأخوذة منها.
لغة الضاد التي يتحدثها أكثر من 467 مليون متحدث لها تأثير مباشر وغير مباشر على كثير من اللغات الأخرى، كالتركية والفارسية والأمازيغية والكردية والإندونيسية، ولكن الكثير لديه معلومات مغلوطة في أن دارسها ينحصر بتخصص وعمل معين.
ليلى طالبة السنة الثالثة في قسم اللغة العربية تواصل دراستها على مضض وأمل الانتهاء والتخرج سريعا لتكون النهاية المحتومة، كما تقول مدرسة أو باحثة متخصصة في اللغة إلى أن تتوه بين الكلمات والقواميس والمعاجم اللغوية.
وتصحح الأستاذة سمية الفكرة المغلوطة لدى ليلى بقولها أن قسم اللغة العربية واسع بوسع اللغة فهو يفتح أفاق الكتابة والمراجعة اللغوية في الصحف وتمكن دارسها من أن يكون شاعراً ومذيعاً ومصححاً وباحثاً لغوياً، فالأمر يتطلب الأمر إستشعار أهمية اللغة وجمالها وهذا هو مفتاح الإبداع.
في كلية الآداب وتحديدا في قاعة المحاضرات التي عادة ما يكتظ بها طلاب جامعيين يتجاوز عددهم الخمسين والثمانين طالباً يلقي الدكتور محمد ناصر حميد محاضرته لإحدى مواد اللغة العربية لثمانية طلاب وتظل بقية المقاعد الخشبية تنتظر الدارسين والباحثين عن العلم وتحديدا علم اللغة التي يتقلص عدد طلابها تدريجيا من المائة إلى ثلاثين طالب ولا يتجاوز الحضور العشرة طلاب.
وبعد إنتهاء المحاضرة التقت “سبأ” الدكتور محمد ناصر حميد رئيس قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية الذي أرجع غياب الطلاب وتراجعهم عن الدراسة تحديدا في قسم اللغة العربية، إلى أن الأغلبية لم تعد تدرس من أجل الحصول على قدرا عال من المعرفة بل للحصول على الشهادة التي تمكنهم من العمل في شركة أو مكان ما، وعزوف الطلاب عن الدراسة في هذا القسم أيضا بسبب ضعف مخرجات التعليم الثانوي في اللغة العربية فيلتحقون بالقسم ويجدون صعوبة في التحصيل فيضطرون إلى الالتحاق بأقسام أخرى لأنهم في الأصل غير مؤهلين.
إرهاب اللغة
وزارة الدفاع الإسبانية أعلنت عن مزيد من الوظائف للنساء الراغبات في الإنضمام للقوات الخاصة في إطار الجهود الرامية للتصدي للإرهاب والحروب غير التقليدية، وتعتبر النساء الناطقات باللغة العربية من اللائي يتم البحث عنهن للمشاركة في المهام التي توكل إليهن.
والسؤال الذي يفرض نفسه، لماذا ارتبط محاربة الإرهاب ومقارعته باللغة العربية فهل هناك علاقة بين العنف واللغة، فعبارات العنف والقتل والذبح والخطف مصطلحات عامة توجد في كل اللغات.
وفي هذا الخصوص ينفي الدكتور محمد ناصر إرتباط اللغة العربية بالعنف ويحمل أولئك الذين يمارسون هذه اللغة وهم من أبنائها مسؤولية ذلك، أما اللغة العربية فلا ذنب لها.
وأضاف “حتى فكرة الإرهاب في حد ذاتها لو بحثنا عنها لوجدنا أن كل لغة تعبر عنها بمفردات معينة، والسؤال هو ماذا نريد بالإرهاب وهذا لن تجيب عليه اللغة العربية وحدها ولن تجيب عليه أي لغة في العالم، سيجيب على السؤال أولئك الذين فرضوا على الناس مفاهيم خاصة قائمة بذاتها وكلاً يفسرها وفق هواه”.
بالنسبة للأستاذة سمية ترى أن هناك من يسعى لتشويه الإسلام عامة والمسلم والعربي خاصة ويربطون الجهاد ومفاهيم اللغة العربية بالعنف، فعند التقاءها بعدد من الأسرى المحررين الذين تحدثت معهم سمية بحكم عملها، أوضحوا أن عددا ممن كانوا يعذبوهم يتكلمون اللغة العربية وتشير سمية أن هذا إيحاء بأن هذه اللغة تستخدم فقط للعنف.
إندثار اللغة
حذرت منظمة اليونسكو من انقراض لغة سامية قديمة غير مكتوبة هي اللغة المهرية التي تتحدث بها قبائل عربية.
المهرية مهددة بالانقراض مع خمس لغات أخرى وكلها من أسرة اللغات السامية الجنوبية الحديثة ويتراوح عدد المتحدثين بها بين 100 ألف و200 ألف شخص.
هل تندثر اللغات وتموت ماذا عن العربية ؟ يؤكد رئيس قسم اللغة العربية الدكتور حميد أن مستقبل اللغة العربية لا خوف عليه لأن مرجعيته القرآن الكريم ومادام القرآن مرجعية اللغة العربية فهي باقية.
وأضاف” هناك الكثير من اللغات بعد اللغة العربية ماتت وأندثرت ولكن سر موتها هو ضعف مرجعيتها، وتكمن قوة اللغة العربية في اللغة نفسها وليس في قالب من قوالبها أو في مستوى من مستوياتها”.
وهذا ما أكدت عليه الأستاذة سمية أن تطبيق اللغة العربية في القرآن الكريم وإذا تمت القراءة بالتشكيل ومعرفة سبب الضم والرفع والنصب ستحفظ اللغة وسنضمن بقاءها.
وأضافت ” الجميع يتكلم الآن اللغة الفصيحة وليس الفصحى، لأن الأخيرة أعمق وأشمل والأولى أسهل وأبسط وأن هناك كثير من الكلمات أندثرت”..ودللت على ذلك بالقول “إن في العصر الجاهلي كلمات لم تعد تستخدم في العصر الإسلامي”.
مدرس اللغة العربية محمد الظاهري يرى أن المقررات الدراسية للغة العربية تظل مقيدة بالقاعدة القديمة وحتمية تطبيقها ولا يتم التطبيق عبر النص الأدبي، لذلك يظل الطالب محاصراً بعدد من القيود ويصعب عليه الخروج عن المقرر وعند التطبيق يجد صعوبة في ذلك ويستصعب أمر اللغة برمتها، لذلك ينفر الكثير من الطلاب من حصص اللغة العربية ويستصعبونها.
وهذا ما أشار إليه دكتور اللغة العربية حميد في إعادة النظر بموضوع المقررات الدراسية لأنها تجبر الطالب على حفظ قاعدة ثابتة قديمة، ولا يعلم كيف يستخرج من النص وتطبيق ما تم تلقينه، ولكن للأسف يظل اللغويون حتى هذه اللحظة ملقنين أكثر من أن يكونوا قادرين على خلق مبدعين.
ويبقى أبسط تعريف للغة هو هوية الناطقين بها والأجمل منه هو المحافظة عليها وعلى ما تحويه من محسنات بديعية كجناس وطباق وسجع وتورية ولا توجد هذه المحسنات في لغة أخرى.
وتختتم “سبأ” سطورها بكلمات الناقد باروسلاف مؤسس مدرسة شيكاغو النقدية ” إن من يقرأ الشعر الجاهلي واللغة العربية يتوقع أن يكون كل عربي شاعراً”.