السياسية || محمد محسن الجوهري*

تُعدّ مسألة القائد أو القدوة من أكثر القضايا حساسيةً في الوعي الإنساني، إذ إن الناس حين ينظرون إلى شخصٍ ما بوصفه قائدًا، فإنهم لا يكتفون بإتباع توجيهاته، بل يتخذونه نموذجًا يُحتذى في سلوكه وتاريخه ومواقفه كافة، بغضّ النظر عن صواب تلك التصرفات أو خطئها. وغالبًا ما يُنظر إلى حياة القائد كوحدة واحدة متكاملة، فتُغضّ الطرف عن فترات الانحراف أو الطيش التي قد يكون مرّ بها في مراحله الأولى.

ومن هنا تتجلّى حكمة الله سبحانه وتعالى، إذ يصطفي للأمم قدواتٍ عظامًا من الأنبياء وأعلام الهدى، ويشمل هذا الاصطفاء أدق تفاصيل حياتهم، حتى لا يكون في سيرتهم أو تصرفاتهم ما يمنح الناس ذريعةً لمعصية الله أو تبرير الانحراف عنه. فالقدوة في المنظور الإلهي ليست مجرد شخصٍ صالح، بل نموذجٌ مكتمل يَصلُح للاقتداء في كل حال.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك، أن إرادة الله اقتضت أن يكون الإمام عليٌّ خليفةً لرسول الله ﷺ، لأنه الأكمل بعده، ولأن تاريخه وسلوكه يخلو من كل ما قد يورث حرجًا في الاقتداء، أو يفتح بابًا للاحتجاج بالمعصية. وهذا من عظيم تكريم الله لعباده، ومن رحمته بهم، إذ أمرهم أن يقتدوا بالأكمل، ليكونوا كبارًا في نفوسهم ومسيرتهم، بلا عقد نقصٍ تُقيّد حركتهم في الحياة.

أما من كان ضالًا في مرحلة من حياته ثم تاب ورجع إلى الله، فهو بلا شك رجلٌ صالحٌ مأجور على توبته، غير أن ذلك لا يعني بالضرورة صلاحيته ليكون قدوةً عامة للناس؛ لأن في تقديمه كنموذج يُحتذى به مدخلًا خطيرًا، قد يدفع البعض إلى تقليد ماضيه المظلم قبل حاضره المستقيم، أو إلى تبرير الانحراف بذريعة أن التوبة مؤجلة. ويبرز هذا المعنى في سيرة رابعة العدوية، التي عُرفت في بدايات حياتها باللهو والانغماس في الشهوات، قبل أن تتحول إلى الزهد والعبادة؛ فهي في مقامها الإيماني اللاحق محل تقدير، لكنها لا تصلح أن تكون قدوةً للشابات المسلمات، لما في ذلك من تشجيعٍ غير مباشر على الغواية بحجة حسن الخاتمة.

ومن هذا المنطلق يمكن فهم طبيعة الحرب التي شنّها بنو أمية على رسول الله ﷺ وآل بيته، فهي لم تكن صراعًا سياسيًا عابرًا على السلطة، بل امتدادٌ لمعركة أعمق تستهدف جوهر الدين، ومن أبرز أهدافها ضرب مبدأ القدوة، واستبداله بنماذج مشوّهة من أنصاف الصالحين وأنصاف الرجال، ليبقى المجتمع في حالة تيهٍ واضطراب، كما هو حال كثير من الأمم اليوم.

وتتجلى خطورة هذا التحريف بوضوح في الواقع السعودي المعاصر، حيث تبنّى آل سعود النهج الأموي في إعادة ترميز شخصيات ضالة وتقديمها بوصفها قدواتٍ للأمة، حتى أصبح معاوية وأمه هند بنت عتبة من رموز "السلف الصالح" في بلاد الحرمين. ولا غرابة بعد ذلك أن تسود مظاهر الطغيان والانحلال الأخلاقي بين عامة الناس، وأن يجد الانحراف مبرراته الدينية، وأن يتجرأ بعض الشيوخ على تبرير السقوط الأخلاقي للحاكم، وهم من قبل يترضّون على يزيد بن معاوية المعروف بفسقه وانحرافه.

وما يجري في السعودية ليس إلا صورة من صور تحريف المبادئ الدينية، وتقديس شخصيات لا تمتّ إلى الدين بصلة، وفي تاريخها ما يقدح فيها، تحت ذريعة الانتماء إلى "السلف الصالح". وهي عقيدة ورثتها الوهابية عن اليهود، الذين قدّموا السامري وسائر بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام بوصفهم "صحابة"، رغم عبادتهم للعجل وارتكابهم المحرمات، وقد لعنهم الله على ذلك في كتابه الكريم.

أما طريق الخلاص، فيكمن في العودة الصادقة إلى المبادئ الفطرية السليمة التي جاء بها الإسلام، وفي الاقتداء بالصالحين الذين اصطفاهم الله لحمل راية دينه، وتحرير الأمة من العبودية والطغيان. وإلا فإن البديل لن يكون سوى استمرار حال الاستضعاف والاستعباد، على يد عبدة الجبت والطاغوت من أهل الكتاب وغيرهم.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب