السياسية - وكالات:

في غزة، لا تبدأ الطفولة كأي مكان آخر، بل تحت وطأة الحصار وأصوات الانفجارات.
وسط حي الشيخ رضوان المكتظ، ترقد "ريتال العالول"، طفلة في الرابعة من عمرها، على سريرها الأبيض، جسدها يذبل وعيناها تبحثان عن الضوء.


صاروخ صهيوني لم يكن مجرد انفجار، بل بداية مرض قاتل سرطاني نادر أضعف جسمها الطري، وجعل من حياتها رحلة مستمرة بين المستشفيات والمعابر المغلقة، في انتظار علاج قد ينقذها قبل أن تفقد حياتها تمامًا.


في تلك الليلة العاصفة، سقط صاروخ يحمل مواد متفجرة محرمة دوليًا على مقربة من منزل عائلتها، لتنطلق من حولهم إشعاعات قاتلة، لم تترك سوى رماد الألم.


وبعد أيامٍ من النزوح والاختناق، بدأت أعراض غريبة تظهر على الصغيرة؛ انتفاخ في عينيها، ضعف في الحركة، ونحول مفاجئ في جسدها. ظنت والدتها أن ما تمر به صدمة نفسية من أصوات القصف، لكن الحقيقة كانت أعمق وأوجع.


يقول والدها يوسف العالول بصوتٍ يختنق بالعجز لـموقع "فلسطين أون لاين": "استيقظت ريتال ذات صباح لا تقوى على المشي، وفقرات عمودها متشنجة، لم أكن أعرف السبب، نقلناها للمستشفى رغم انهيار المنظومة الصحية، وهناك كانت الصدمة... قالوا لي إنها مصابة بورم أرومي عصبي نادر".


الورم، الذي يُعرف علميًا بـNeuroblastoma، انتشر في عينها اليمنى، وهدد الأخرى، وأثر على أعصاب الحركة.


ريتال التي كانت تركض وتغني وتملأ البيت ضحكًا، أصبحت اليوم حبيسة سرير المستشفى، تتغذى عبر المغذيات الوريدية، وتصارع ألمًا يفوق جسدها الصغير.


ويضيف والدها: "انخفض دمها إلى 4، وتحتاج لنقل وحدات دم باستمرار. كان يفترض أن تُسافر للعلاج خارج غزة، لكن المعبر مغلق منذ أكثر من شهرين، وكل يوم نراقبها تضعف أمام أعيننا دون أن نستطيع إنقاذها".


ريتال التي كانت تحب الرسم وتغطي جدران بيتها بألوان طفولية، أصبحت الألوان تُؤلم عينيها، والضوء يُزعجها. كلما نظرت في المرآة تسأل والدها: "بابا وين عيني؟ ليه مش بشوف زي قبل؟" — سؤال يُمزق قلبه ولا يجد له جوابًا.


الأطباء في غزة يؤكدون أن علاج الورم يتطلب تدخلًا عاجلًا في مراكز أوروبية متخصصة، وأن العلاج الكيميائي المتوفر في القطاع غير كافٍ، وأن استمرار التأخير يعني فقدان الأمل في إنقاذها.


ورغم صدور تحويلة طبية عاجلة منذ أكثر من شهرين، ما زالت ريتال عالقة في دائرة الانتظار، بين أبواب مغلقة وأوراق لا تُنقذ الأرواح.


يقول والدها بحرقة: "أنا مش طالب معجزة... بس بدي بنتي تعيش. بدي حد يسمعنا، يفتح المعبر، يوصل صوتنا. هل أنتظر موتها أم اتصالكم؟"


في غرفةٍ ضيقة، تفتقد لأبسط مقومات العلاج، ترقد ريتال اليوم على سريرها الأبيض، جسدها يذبل، وعيناها تبحثان عن ضوءٍ لا يأتي. هي ليست مجرد طفلة مريضة، بل شاهد حي على الإبادة الصامتة، على أن الحرب لا تنتهي بانفجار الصاروخ، بل تبدأ بعده في أجساد الأطفال الذين تُطفأ أعينهم، وتُكسر أحلامهم قبل أن يتعلموا النطق بها.


بين ورقة تحويل لا تُنفذ، ومعبرٍ مغلقٍ منذ شهور، تبقى ريتال العالول عالقةً بين الحياة والموت، شاهدةً على عجزٍ دوليٍّ يقتل بصمته كما يقتل الصاروخ بانفجاره.


ريتال ليست رقمًا في سجلات المرضى، بل وجهٌ لطفولةٍ تُذبح ببطء، تنتظر تدخلًا عاجلًا ينقذ حياتها، بعدما تحولت معاناتها إلى مرآةٍ تعكس عجز العالم عن حماية الطفولة في غزة.