فهد شاكر أبوراس*

تمر اليمن اليوم بمنعطفٍ تاريخي حاسم، تتداخل فيه خيوط السلام المعقَّدة مع تحديات السيادة والأمن القومي، وفي السياق عينِه، تشكّل الاجتماعات الأخيرة بين رئيس الوفد الوطني محمد عبد السلام والمبعوث الأممي محطةً جديدة في مسارٍ طويلٍ شابه الكثير من التعقيدات والانتكاسات.

جاء هذا اللقاء ليُعيد تأكيد الموقف اليمني الثابت الداعي إلى تنفيذ خارطة الطريق المسلَّمة إلى الأمم المتحدة، والتي تم الاتّفاق عليها مع الجانب السعوديّ برعاية سُلطنة عُمان.

هذه الخارطة تمثّل الإطار الوحيد المقبول لتحقيق سلامٍ شاملٍ وعادل.

فاليمن، الذي تحمل ويلات الحرب لسنواتٍ طوال، لم يعد يحتمل المزيد من المماطلة والمراوغة التي لا تخدم سوى استمرار المعاناة الإنسانية لشعبٍ صامدٍ وعظيم.

وقد أشار عبد السلام بوضوح إلى ضرورة استئناف العمل على تنفيذ ما تضمنته الخارطة، وفي مقدمتها الاستحقاقات الإنسانية التي تشكّل أولوية مطلقة في أي عملية سلام حقيقية.

ففي ظل وجود إطار واضحٍ ومتفق عليه دوليًّا وإقليميًّا، لم يعد هناك مبرّر للتردّد أَو التأجيل.

وهذا يؤكّـد أن اليمن يتحَرّك بمنطق المسؤولية والرغبة الجادة في إنهاء الأزمة، بينما تبدو بعض الأطراف الأُخرى لا تزال تتعامل بمنطق المكاسب الضيقة والرهانات الخاسرة على مرور الوقت.

المنظمات الإنسانية: بين النزاهة والتجسس

في سياقٍ متصل، تبرز قضية العاملين في بعض المنظمات المحتجزين في صنعاء كاختبار حقيقي لنوايا الأطراف الدولية التي تدّعي العمل الإنساني.

فقد كشف عبد السلام عن معلومات خطيرة من الجهات الأمنية في صنعاء تثبت تورط هؤلاء المحتجزين في أنشطة تجسسية تحت غطاء العمل الإنساني.

هذا الكشف يضع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية أمام مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية.

فصنعاءُ -التي تعرَّضت لسنواتٍ من العدوان والحصار- لم تكن لتقيّد عمل المنظمات الإنسانية لولا وجود أدلة دامغة على اختراق بعضها وتحولها إلى أدوات لصالح دول معادية - وهو أمرٌ يضرب بعرض الحائط كُـلّ المواثيق والأعراف الدولية.

ومع ذلك، أظهرت صنعاء مرونة كبيرة ورغبة صادقة في إيجاد حلول عادلة تضمن استمرار العمل الإنساني دون المساس بالأمن القومي اليمني.

وهي لفتةٌ تنسجم مع السماحة اليمنية الأصيلة، التي ترفض خلط الأوراق وتدرك الفرق بين العمل الإنساني النزيه وأنشطة التجسس الخبيثة.

سياسة المراوغة لن تمرّ

إن استمرار سياسة المماطلة من قبل التحالف بقيادة السعوديّة والإمارات لا يعكس سوى رغبةٍ في إطالة أمد الأزمة واستنزاف مقدرات الشعب اليمني - وهذا أمرٌ لن يكون.

فقد أصبح اليمن اليوم أكثر وعيًا وقوة، وأشدّ تمسكًا بحقه في الدفاع عن سيادته وكيانه الوطني.

تصريحات صنعاء كانت واضحة وحاسمة في رفض سياسة التسويف وترحيل الأزمات.

كما أن التحذير المتكرّر من مخاطر تقويض اتّفاق التهدئة الاقتصادية يُعدّ إشارة صريحة إلى أن صنعاء لن تظل مكتوفة الأيدي أمام سياسة التضييق التجاري والمالي التي تمارسها أدوات التحالف؛ بهَدفِ خنق الاقتصاد اليمني وحرمان الشعب من أبسط حقوقه في العيش الكريم.

وهذا التضييق سيُواجَه حتمًا بردٍّ مماثل، كما أكّـد ذلك القائم بأعمال رئيس حكومة البناء والتغيير العلامة محمد مفتاح، الذي شدّد على أن "معادلة الرد بالمثل ما زالت قائمة ولم تسقط"، مُشيرًا إلى أنها ليست تهديدًا، بل تأكيدًا على حق اليمن في الدفاع عن نفسه وحماية اقتصاده الوطني.

السلام الذي يليق باليمن

إن المساعي العُمانية الرامية إلى استئناف مسار السلام تستحق الإشادة والدعم.

لكنها، في الوقت نفسه، تحتاج إلى ضغطٍ أكبر على الأطراف الدولية والإقليمية للالتزام ببنود خارطة الطريق والوفاء بالاستحقاقات الإنسانية.

صنعاء لم تترك بابًا للسلام إلا وطرقته، لكنها لن تقبل أبدًا أن يُستخدم السلام ستارًا لاستمرار الاعتداء على سيادتها وأمنها.

فاليمن، الذي خرج من الحرب بأعظم درسٍ في الصمود والكرامة، لن يدخل في سلامٍ يهدر كرامته أَو يمسّ سيادته.

السلام الذي ينشده اليمن هو سلام العزة والكرامة؛ سلامٌ يضمن وحدة أراضيه، ويحفظ استقلال قراره، ويحمي حقوق أجياله القادمة.

وهو سلامٌ قائم على مبادئ العدالة والندية، لا على منطق الإملاءات والتنازلات.

اليد الممدودة.. واليد القادرة

لقد أثبتت صنعاء عبر مفاوضاتها المتعاقبة أنها الطرف الجاد الراغب في إنهاء المعاناة، لكنها في الوقت نفسه الطرف الذي يمتلك أدوات القوة والقدرة على فرض وقائع جديدة على الأرض.

فالتحذيرات الأخيرة من الرد على سياسة التضييق لم تكن كلماتٍ عابرة، بل جزءًا من استراتيجية متكاملة تقوم على توازن دقيق بين الردع والمرونة.

فاليد الممدودة للسلام هي نفسها القادرة على حماية الوطن عندما تدعو الحاجة.

والعالم يعي جيِّدًا اليوم أن اليمن لم يعد ذلك البلد الضعيف الذي يمكن اختراقه أَو فرض الإرادَة عليه.

بل أصبح صنّاع القرار العالمي يدركون أن أي مساسٍ بأمن اليمن أَو سيادته سيكون له ثمنٌ باهظ.

و"معادلة الرد بالمثل" لم تعد مُجَـرّد شعار، بل واقعٌ عملي تثبته الأيّام، عبر تصعيدٍ موازٍ لكل استفزاز أَو محاولة للالتفاف على الحقوق اليمنية المشروعة.

خاتمة: مستقبل يصنعه اليمنيون

مستقبل اليمن يجب أن يُصنع بأيدي أبنائه، دون وصاية أَو تدخل خارجي.

وأي حلول يجب أن تأخذ في الاعتبار التضحيات الجسام التي قدّمها هذا الشعب، الذي دفع ثمنًا باهظًا من دماء أبنائه ودمار بنيته التحتية، دفاعًا عن حقه في الوجود والحرية.

لذا، فإن الدعم الدولي والإقليمي لمسار السلام يجب أن يكون داعمًا للخيار اليمني، لا مفروضًا من الخارج.

فاليمن، الذي استطاع - بفضل الله، وإرادَة أبنائه، وتلاحم جيشه الباسل - أن يواجه أعتى تحالف إقليمي، هو قادرٌ دون شك على حماية مكتسباته وبناء سلامه العادل والشامل، الذي يحقّق طموحاته في العيش الكريم، والتنمية المستدامة، في ظل دولة سيادة وقانون.

* المقال يعبر عن رأي الكاتب
* موقع انصار الله