الحرية بطعم الحزن.. عائلة الجعفراوي في غزة بين استقبال الأسير ووداع الشهيد
السياسية - تقـــرير :
في لحظة واحدة، عاشت عائلة الجعفراوي في مدينة غزة مشهدين متناقضين جمعا بين أسمى معاني الفرح وأقسى صور الفقد؛ زغاريد الحرية التي علت معانقةً نجلها الأسير المحرر ناجي، ودموع الحزن التي انهمرت على جثمان ابنها الآخر صالح، الصحفي الذي استشهد برصاص عملاء للعدو الإسرائيلي أثناء تغطيته آثار العدوان على غزة.
في ذلك اليوم، تحولت باحة منزل العائلة إلى مزيج من التكبير والعزاء، بين من يستقبل المحرر بعد عامين من الاعتقال، ومن يودع شهيد الكلمة والصورة إلى مثواه الأخير.
يقول ناجي الجعفراوي بصوت مرتجف وهو يحتضن أبناءه للمرة الأولى منذ خروجه لـ صحيفة (فلسطين): “السجن لا يوصف، كنا نعيش في قاع الجب، بين الموت والخوف، لا نرى النور ولا نسمع إلا وقع القيود. كنت أقول لنفسي: الله لن يضيعنا، فهناك دائمًا فجر بعد كل ظلام.”
ويضيف وهو يستعيد تفاصيل معاناته داخل السجون "الإسرائيلية": “اعتُقلت وأنا مريض، وكان مقرّرًا لي عملية جراحية. أحد الجنود قال ساخرًا: خذوه زيادة.. هدية فوق البيعة. بقيت مئة يوم مكبّل اليدين معصوب العينين. لا طعام ولا دواء ولا نوم. كنا نعيش على رغيفين من التوست يوميًا، ولو أُلقي هذا الطعام لحيوان لكان أكرم.”
لكن ما إن أشرقت شمس الحرية عليه، حتى أظلمت الدنيا في وجهه بخبر استشهاد شقيقه صالح.
الصحفي الشاب، البالغ من العمر 27 عامًا، كان معروفًا بصوته العذب وإنشاده الأناشيد الوطنية والدينية التي تبث الأمل في قلوب الغزيين وسط الحرب. وهو حافظ لكتاب الله، وواحد من أكثر الصحفيين جرأة في توثيق جرائم العدو الإسرائيلي ونقل مأساة الناس للعالم.
يقول والدهما، الشيخ أبو ناجي الجعفراوي، وهو يجاهد دموعه: “خروج ناجي خفف عنا شيئًا من الألم، لكن فراق صالح لا يُنسى. دفنته بيدي، وأنا أحمد الله على صبرنا. صالح عاش مؤمنًا برسالته ومات عليها، وناجي خرج من ظلمة السجن إلى نور الحرية… هذا قدر الله، ورضينا بما قسم.”
أما شقيقهما علي، فيروي اليوم الموجع قائلاً: “صباحًا دفنا صالح، ومساءً استقبلنا ناجي. ما بين جنازة واحتفال، كأن القدر أراد أن يختبر قلوبنا. امتزجت الدموع بالزغاريد، الحزن بالفرح، لكننا نقول الحمد لله، هذا قدر الله وخياره لنا.”
صالح، الذي لطالما قال في منشوراته: “بدكم مليون سنة حتى تكسروا إرادة الشعب الفلسطيني… ومش رح تكسروها، إحنا شعب بنحب الحياة وبنستحقها”،
واجه حملة تشويه صهيونية واسعة بعد أن وثّق بالصور والفيديوهات جرائم العدو في غزة.
ووصلت الحملة ذروتها حين نشر الحساب الرسمي لحكومة العدو الإسرائيلي منشورًا ساخرًا عنه كتب فيه: “الشيطان يعمل بجد، لكن صناعة السينما في غزة تعمل بجد أكبر. تعرفوا على صالح الجعفراوي: المذيع والمغني والصحفي.”
وردّ صالح على ذلك منشورًا قبل أيام من استشهاده قال فيه: “الاحتلال موجوع جدًا من فضحنا حقيقته الدموية، والتهديدات لن تُسكت صوتنا ولا الصورة التي تشهد.”
رحل صالح وبقي صوته يصدح في ذاكرة الغزيين بأغنيته الشعبية “قوية يا غزة”، فيما خرج شقيقه ناجي من الأسر ليحمل راية الصبر من بعده.
هكذا شاء القدر أن تجمع العائلة بين فرحة التحرر ووجع الفقد في يوم واحد، لتبقى قصتهم شاهدًا على أن في غزة، حتى الفرح لا يأتي دون ثمن، وأن الحرية تخرج دومًا من رحم الألم.
سبأ

