الشهيد الأقدس… درّة لبنان ومحور الأمة
كيان الأسدي*
مرّ عامٌ على استشهاد سماحة السيّد حسن نصر الله، الشهيد الأقدس، وما زال حضوره يتدفّق في وجدان الأمة كنبض لا يخبو. إنّه من النادر أن يخلّد التاريخ شخصية كما خُلّد هذا القائد الرباني، الذي تحوّل من زعيم لبناني إلى رمز عالمي، ومن قائد مقاومة إلى أيقونة تتجاوز الحدود. لم يكن نصر الله قائداً عابراً في سجل السياسة، بل كان مشروعاً متكاملاً، يختزل الإيمان بالحق، ويجسّد الإخلاص لله ورسوله وأهل بيته، ويحوّل العقيدة إلى فعل مقاوم يغيّر معادلات المنطقة ويقلب موازين القوى.
هذا الخلود الاستثنائي الذي ينعم به السيّد الشهيد لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج مسيرة إيمانية جهادية حفرت في ضمير الأمة معنى التضحية، وأعادت تعريف مفهوم القيادة في زمن الانكسارات. فهو الرجل الذي جعل من لبنان الصغير مساحةً للكرامة، ومن محور المقاومة قوةً إقليميةً تقف نداً أمام أعتى إمبراطوريات الهيمنة.
السيّد… الأيقونة الاستثنائية
لم يكن وصف القائد السيد علي الخامنئي للسيّد حسن نصر الله بـ”الشخصية الاستثنائية والمحبوبة” مجاملةً ولا خطاباً عاطفياً، بل تشخيصاً دقيقاً لحقيقة ناصعة. فالسيّد الشهيد جمع في شخصيته مزيجاً فريداً من الصلابة والرحمة، من الحزم السياسي والصدق الروحي، من القيادة الحكيمة والشجاعة الفائقة. لقد حاز احترام الأصدقاء والخصوم على السواء، حتى بلغ الأمر أنّ إعلام العدو، المعروف بالكذب والتضليل، لم يجد يوماً جرأة على وصفه بالكذب، بل اعترف دائماً بصدقه وهيبته. وهذا بحد ذاته شهادة من العدو قبل الصديق على أنّ السيّد كان استثناءً في عالم السياسة المليء بالمناورات والخداع.
لقد استطاع السيّد نصر الله أن يبني علاقة وجدانية عميقة مع جماهيره، علاقة تجاوزت حدود السياسة لتصبح رابطة روحية. فكان الناس يرونه صادق الوعد، نقي السريرة، ثابت الموقف، فيثقون بكلمته كما يثقون بدمائهم. هذه الثقة الشعبية لم تأتِ من الإعلام أو من الشعارات، بل من سجلٍّ عمليّ طويل، حيث التقت كلماته بأفعاله، وتطابقت وعوده مع إنجازاته.
البعد الديني والروحي
يستمدّ السيد نصر الله مكانته من عمق ارتباطه بالله ورسوله وأهل بيته الطاهرين. لقد كان خطابه دائماً مشبعاً بالروح القرآنية، مؤطراً بالبعد الإيماني، يذكّر الناس بأنّ المقاومة ليست خياراً سياسياً فحسب، بل هي تكليف شرعي وواجب ديني. من هنا، فإنّ مشروعه لم يكن مشروع زعيم وطني محدود، بل كان مشروع قائد رسالي يربط الحاضر بجذور العقيدة الإسلامية.
هذا البعد الروحي هو الذي منح مسيرته ذلك التوفيق الإلهي الذي تجلّى في كل محطّة، من انتصارات 2000 و2006 في لبنان، إلى حضور المقاومة كقوة حاسمة في معادلات المنطقة، وصولاً إلى دوره كرمز موحِّد لمحور المقاومة. إنّها شخصية ربانية تنبع قوتها من يقينها بالله، وتستمدّ شرعيتها من ثباتها على مبادئها.
السيّد ومحور المقاومة
لا يمكن قراءة سيرة السيد الشهيد دون ربطها بمحور المقاومة. فقد كان السيّد حسن نصر الله حجر الزاوية في بناء هذا المحور الممتد من طهران إلى بغداد، ومن صنعاء الى فلسطين . لقد استطاع أن يجمع الشتات، ويوحّد الجبهات، ويرسم صورة لمعادلة جديدة في الشرق الأوسط عنوانها: أنّ زمن الهزائم ولّى، وأنّ الشعوب قادرة على صناعة النصر.
لقد مثّل السيّد نموذج القائد الذي لم يحصر نفسه في حدود الوطن، بل نظر إلى قضايا الأمة من موقع رسالي جامع. فالقضية الفلسطينية كانت بالنسبة له جوهر الصراع، وهو ما جعله يحظى بمكانة استثنائية في وجدان الشعب الفلسطيني الذي رأى فيه قائداً عربياً إسلامياً حقيقياً لم يتخلَّ يوماً عن فلسطين. إنّ حضور صوره في شوارع غزة والضفة، كما في بغداد وصنعاء، هو دليل على أنّ السيّد لم يكن رمزاً لبنانياً فحسب، بل محورياً بامتياز.
الهيبة أمام العدو
من أبرز ملامح شخصية السيّد الشهيد أنّه فرض معادلة جديدة في الصراع مع العدو الصهيوني. لم يعد هذا العدو يتحدث عن لبنان بوصفه الحلقة الأضعف، بل صار يقرّ بأنّ حزب الله بقيادة نصر الله هو التهديد الوجودي الأخطر. لقد نجح السيّد في تحويل صورة المقاومة من حالة دفاعية إلى حالة ردع استراتيجية.
والأكثر لفتاً أنّ العدو اعترف بصدقه. فحين كان يقول: “سنردّ”، كانوا يعلمون أنّ الرد قادم لا محالة. وحين كان يحدّد الزمان والمكان، كانوا يحسبون له ألف حساب. هذه الهيبة لم تكن مبنية على سلاح فقط، بل على شخصية استثنائية استطاعت أن تجعل من الكلمة موقفاً، ومن الصدق سلاحاً لا يقل خطراً عن الصواريخ.
الخلود في وجدان الأمة
إنّ ما يميّز السيّد الشهيد عن غيره من القادة أنّه تحوّل إلى رمز خالد. فصوره لا تُرفع بوصفها مجرد تذكار، بل بوصفها تعبيراً عن عهد دائم. وإحياء ذكراه ليس فعلاً طقوسياً، بل تجديداً لبيعة على مواصلة الطريق. ولذلك لم يكن غريباً أن تُضاء صورته على صخرة الروشة في بيروت، لكن الحقيقة أنّ مقامه أرفع من ذلك بكثير. فكأنّ الأمة تتمنى لو تُرسم ملامحه على صفحة السماء، ليبصره كل العالم، وليسمع الكون بأسره: لبيك يا نصر الله.
هذا الخلود هو شهادة على أنّ القادة الربانيين لا يموتون، بل يولدون من جديد في ذاكرة الأمة، فيتحولون إلى مدارس حيّة تلهم الأجيال. إنّ دماء السيّد حسن نصر الله لم تُسدل ستاراً على مسيرته، بل فتحت باباً جديداً من العطاء، حيث يستمر مشروعه في قلوب الملايين.
وفي الختام
عامٌ مضى على رحيل السيّد الشهيد، لكن حضوره لم يغب، وصوته لم يصمت، وعهده لم يُنسَ. إنّه القائد الذي جمع بين الإيمان والسياسة، بين الروحانية والجهاد، بين الوطن والأمة. هو درّة لبنان ومحور الأمة، أيقونة استثنائية جسّدت معنى القيادة في زمن الاضطراب، ورفعت راية المقاومة لتظل خفّاقة رغم التضحيات.
لذلك، فإنّ ذكراه ليست استذكاراً للماضي، بل هي تجديد عهد للمستقبل، رسالة تقول إنّ خطّ المقاومة باقٍ، وإنّ القادة الربانيين يرحلون أجساداً ليظلّوا أرواحاً حيّة في وجدان الأمة. وما نداء الجماهير اليوم إلا امتداد لذلك العهد الأزلي: لبيك يا نصر الله.
* كاتب عراقي
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

