حين يصفك العدو بالميليشيا... اعلم أنك في خندق الأمة
السياسية || محمد محسن الجوهري*
ما دامت كل قوة ترفع سلاحها بوجه الكيان الصهيوني تُوصَف عند أعدائه بأنها "ميليشيا"، فإن في هذا اللقب شرفًا لا منقصة. فالتجربة علمتنا أن الجيوش الرسمية، رغم ما تملكه من عتاد وأموال، بقيت مجرّدة من الإرادة، ومكبّلة بالقرارات الأجنبية، بينما المجموعات التي أطلقوا عليها اسم "ميليشيات" هي من حملت عبء الكرامة والدفاع عن الأمة، وهذا يدفعنا إلى تبني هذه التسمية ونبذ كلمة "الجيوش" ما دام المستفيد منها هم أعداء الأمة.
ونتذكرفي العراق، حين انهار الجيش أمام "داعش" في صيف 2014، كانت البلاد كلها مهددة بالضياع، لكن الحشد الشعبي هو الذي أوقف الانهيار، وحمى العاصمة والمدن المقدسة من السقوط. وفي لبنان، لا أحد يجادل اليوم أن الجيش وحده لم يكن ليستطيع مواجهة العدوان الصهيوني عام 1982، لولا المقاومة التي ثبتت أقدامها وأذلّت العدو حتى اعترف بهزيمته. وفي فلسطين، لم تكن ترسانة الاحتلال تردع صواريخ غزة، بل زادته ارتباكًا، فيما وُسمت الفصائل المقاومة بأنها "ميليشيات" فقط لأنها واجهت أعتى آلة عسكرية في المنطقة.
أما في اليمن، فتتضح حقيقة المفارقة بأجلى صورها: فالقوى التي تصدّت للغزو القادم من الرياض وأبو ظبي، وقاومت تنظيم القاعدة وداعش، وحمت البلاد من التمزق والتقسيم، وُصفت إعلاميًا وسياسيًا بأنها مجرد "ميليشيات". بينما الفصائل التي ارتمت في أحضان العدو الخارجي، وتحولت إلى أداة بيد الاحتلالين السعودي والإماراتي، هي التي حظيت باسم "جيش وطني" زورًا وبهتانًا. أي مفارقة أشد من هذه؟ جيش يُفترض به أن يحمي أرضه صار يقاتل أبناء بلده، ويتحالف مع العدو الصهيوني في الخفاء والعلن، في حين أن القوى الحقيقية التي حملت السلاح دفاعًا عن السيادة والكرامة أُلصق بها الوصف المقيت: "ميليشيا".
وهكذا نرى أن تبديل المصطلحات لا يغير من الحقائق شيئًا، فلا الحق يصبح باطلاً لمجرد أن واشنطن أو الرياض أو تل أبيب وصفته باسم معيّن، ولا الباطل ينقلب حقًا لأن الفضائيات قررت أن تسميه جيشًا وطنيًا. المعركة الحقيقية هنا ليست معركة أسماء، بل معركة مواقف وتضحيات، والواقع وحده هو الحكم. بدليل أن معركة غزة الأخيرة فضحت الجميع، وأسقطت الأقنعة عن كثير من الأنظمة، وأظهرت بوضوح من يقف في خندق الأمة ومن ارتمى في أحضان العدو. هناك فقط تمايز الصفوف: اتضح الغث من السمين، وبان الحق من الباطل مهما حاولوا تزوير اللغة أو التلاعب بالمصطلحات.
إن الرهان اليوم ليس على الجيوش التي تحرس القصور وتُستَخدم لقمع شعوبها، بل على كل قوة حرّة تضع نصب عينيها مواجهة الكيان الصهيوني ومشاريعه الإجرامية. فهذه القوى التي وُصفت زورًا بالميليشيات، هي التي كسرت هيبة الجيش الذي لا يُقهر، وأثبتت أن الإرادة الصادقة أهم من الدبابات والطائرات الحديثة، ولذلك، فإن تسمية هذه القوى بالميليشيات ليست إلا سلاحًا نفسياً يراد منه تسفيه الإنجازات وتحقير الانتصارات. لكن الشعوب باتت تدرك أن هذه التضحيات هي التي تحفظ الكرامة، وأنها وحدها التي تردع المخاطر الوجودية. ولو أن العرب تخلّصوا من عقدة المصطلحات، وتبنوا هذه القوى ودعموها بدل التنكّر لها، لتغيّرت موازين القوى في المنطقة رأسًا على عقب، فالميليشيات في منطق العدو هي جيوش الكرامة في منطق الأمة، وهي اليوم الأمل الوحيد الذي يعيد للعرب هيبتهم ومكانتهم بين الأمم.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب

