عصر الأحادية الأميركية لا يقبل بوجود المسلمين
السياسية || محمد محسن الجوهري*
من المؤسف أن تظل الولايات المتحدة القوة العظمى المهيمنة على العالم، مستفيدة من نظام أحادي القطب يفرض إرادته على الجميع، رغم وجود فرص حقيقية لكسر ذلك الاحتكار وصعود عالم متعدد الأقطاب يضمن حرية الشعوب واستقلال قرارها السيادي. فالأحادية الغربية لم تُبنَ على قيم إنسانية أو مبادئ العدالة، بل على منطق القوة والإقصاء، وهي لا تقبل بوجود قوة إسلامية ناهضة تمتلك قرارها وتدافع عن هويتها. ولهذا تحوّل العالم الإسلامي إلى ساحة صراع مستمر، حيث تعمل القوى الغربية الصهيونية على تمزيقه سياسيًا، وتدميره اقتصاديًا، وتشويهه ثقافيًا، حتى لا يبقى فيه مجال لأي مشروع حضاري منافس.
لقد رأينا كيف جرى تدمير العراق رغم أنه لم يكن يهدد الغرب اقتصاديًا، وكيف فُرض الحصار على إيران عقودًا لأنها ترفض الخضوع، وكيف عانت أفغانستان واليمن وليبيا وسوريا من الحروب التي لم يكن هدفها سوى كسر إرادة شعوبها وإبقائها في دائرة الفوضى. إن الهدف الأساس هو إلغاء أي وجود إسلامي مستقل يمكن أن يشكّل نواة لقوة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية في المستقبل.
ومع ذلك، فإن عصر الأحادية يقترب من نهايته، فالتوازنات الدولية تشهد تحولات كبرى مع صعود قوى مؤثرة كالصين وروسيا والهند، إضافة إلى التكتلات الاقتصادية الصاعدة مثل "بريكس"، التي بدأت تضعف قبضة الدولار وتحدّ من هيمنة المؤسسات المالية الغربية. هذه التحولات تفتح أمام العالم الإسلامي فرصة تاريخية للخروج من دائرة التبعية والانخراط في نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يتيح للشعوب استعادة حريتها واستقلالها السيادي.
لكن هذه الفرصة لن تكون مضمونة ما لم يتحرك المسلمون بوعي استراتيجي، فيتخلّصوا من هيمنة الأنظمة التابعة للغرب، ويبنوا تحالفاتهم على أساس المصالح المشتركة والندية، لا على أساس التبعية والارتهان. فالغرب يسعى لتدمير العالم وفرض نموذج أحادي يكرّس "إسرائيل الكبرى" مركزًا للهيمنة، بينما الشعوب قادرة، إذا ما توحدت قواها وانسجمت مع التوازنات الدولية الجديدة، أن تُسقط هذه الأحادية وتفتح الباب لعصر مختلف يقوم على العدل والتوازن والحرية.
وبما أن موازين القوى العالمية تتغير، فإن الوضع في العالم العربي لن يبقى على حاله، فشيئًا فشيئًا ستفقد واشنطن قدرتها على التحكم بقرار الأنظمة العربية لصالح إرادة الشعوب. وهذا التحول سيشكّل ضربة قوية للهيمنة الأمريكية، إذ سيؤدي إلى عجزٍ كبير في تمويل المشاريع الصهيونية التي اعتمدت طويلاً على ثروات المنطقة. فالنظام السعودي، على سبيل المثال، يتكفّل بتمويل الجزء الأكبر من المؤامرات الموجهة ضد الأمة الإسلامية، وفي حال توقف هذا الدعم فلن يكون من السهل ـ بل من المستحيل ـ أن تجد تل أبيب نظامًا آخر يمول الاقتتال الداخلي ويُغرق الأمة في صراعاتها البينية. ولهذا السبب يتمسك الغرب بدعم أنظمة الاستبداد في منطقتنا، لأن الشعوب الحرة الواعية لا يمكن أن تقبل بآل سعود أو أمثالهم حكامًا لها، بل ستسعى لتحرير ثرواتها وتوظيفها في خدمة قضاياها العادلة ونهضتها المستقلة.
ويزداد المأزق الغربي وضوحًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن نظام البترودولار نفسه يترنح، وهو الذي شكّل لعقود ركيزة أساسية في بقاء الدولار عملة مهيمنة على التجارة العالمية. فطالما التزمت أنظمة النفط العربية، وخاصة السعودية، ببيع الطاقة بالدولار وإعادة تدوير العائدات في البنوك والأسواق الأمريكية، حافظت واشنطن على قدرتها في تمويل عجزها الاقتصادي وتغطية نفقاتها العسكرية الهائلة. غير أن التوجهات الجديدة نحو التعامل بالعملات الوطنية في إطار تحالفات كـ"بريكس" ومع صعود الصين وروسيا، تجعل من استمرار هيمنة الدولار أمرًا مشكوكًا فيه. وفي اللحظة التي تفقد فيها واشنطن امتياز البترودولار، ستجد نفسها عاجزة عن تمويل حروبها وعن إبقاء الدعم المفتوح لمشاريع "إسرائيل الكبرى".
إن واشنطن ترى العالم الإسلامي تهديدًا لاستمرار هيمنتها، فتعمل على تقويضه عبر دعم أنظمة خاضعة مثل السعودية، التي تموّل المشاريع الصهيونية وتغرق الأمة في صراعاتها البينية. غير أن هذا المسار يواجه حدودًا طبيعية، فمع صعود قوى مؤثرة كالصين وروسيا وتراجع هيمنة الدولار، ستفقد الولايات المتحدة أدواتها التقليدية للسيطرة، وسيبدأ العالم الإسلامي تدريجيًا في استعادة استقلاليته وحرية قراره، لتنهار بالتالي قدرة الغرب على استخدام الأنظمة التابعة كأداة لإدامة الهيمنة والتدخل في شؤون الأمة.
*المقال يعبر عن رأي الكاتب

