سايكس بيكو جديدة في سورية
السياسية || محمد محسن الجوهري*
الخلافات التركية - الإسرائيلية بشأن الملف السوري لا تفتح آفاقاً جديدة بقدر ما تؤكد حقيقة دامغة، وهي أن السيادة السورية قد انتهت فعليًا بسقوط نظام الأسد، فالثورة السورية، التي انطلقت في بداياتها بشعارات الحرية والكرامة، سرعان ما تحولت إلى بوابة عريضة لمرحلة جديدة من الوصاية وتزاحم المصالح، وأضحى السوريون أنفسهم خارج المعادلة تمامًا، حتى قادة الفصائل الميدانية، وعلى رأسهم الجولاني، باتت قراراتهم مرتهنة لسياسات الخارج، فلا صوت يعلو فوق صوت التركي أو الإسرائيلي، أو غيرهما من اللاعبين الدوليين.
ووفق تقرير بثته قناة الجزيرة، فقد برز الخلاف بين أنقرة وتل أبيب عقب قيام الطيران الإسرائيلي بشن ضربات جوية على قاعدة "تيفور" الجوية قرب مدينة تدمر، بالإضافة إلى استهداف مطار حماة العسكري. هذان الموقعان، بحسب معلومات استخباراتية، كانا مرشحين لنشر قوات تركية فيهما بموجب اتفاق سري يُتوقع توقيعه بين أنقرة ودمشق. هذا الاتفاق، بطبيعة الحال، أثار استياء "إسرائيل"، التي رأت في التمدد التركي تهديداً محتملاً لتوازن القوى في سورية، فكان لا بد من فرض خطوط حمراء عبر القصف المباشر، وإجبار أنقرة على العودة لطاولة المفاوضات.
ورغم محاولات تركيا المتكررة طمأنة تل أبيب، بتصريحات تتحدث عن "خفض التوترات" و"عدم النية في مواجهة "إسرائيل" داخل سورية" - كما صرّح بذلك وزير الخارجية هاكان فيدان - إلا أن "إسرائيل" لا تُبدي ثقة حقيقية بحليفها التركي. فبالنسبة لها، أي تغيير في توزيع القوات على الأرض، خاصة في المناطق القريبة من الجولان أو وسط سورية، يُعد تجاوزًا للخطوط الحمراء.
وليس الخلاف بين الطرفين محصورًا في مسألة قواعد عسكرية أو تقاسم نفوذ مؤقت، بل يمتد إلى نظرتهم لمستقبل سورية ككل. فبينما تسعى "إسرائيل"، كما تؤكد أدبيات قادتها العسكريين والسياسيين منذ عقود، إلى دولة سورية ضعيفة، ممزقة، ومقسّمة إلى دويلات طائفية وعرقية - بما يحقق "الأمن الدائم لإسرائيل" بحسب نظرية بن غوريون - ترى تركيا أنها دفعت ثمنًا سياسيًا وأمنيًا باهظًا في الأزمة السورية، وأن من حقها استثمار نتائج تدخلها عسكريًا وسياسيًا، سواء بفرض أمر واقع على الأرض، أو بقطف ثمار اقتصادية لاحقًا.
ويأتي في هذا السياق التفاهم التركي مع بعض الكيانات الكردية السورية القريبة من قيادة "قسد"، في إطار تسويات تكتيكية، هدفها منع قيام كيان كردي مستقل يمكن أن يهدد أمن تركيا القومي، خاصة في مناطق مثل عين العرب (كوباني) أو القامشلي. في الوقت ذاته، تعمل تركيا على السيطرة غير المباشرة على الموارد الاقتصادية السورية، خصوصًا في مجالات النفط والغاز، عبر واجهات تجارية وشركات تعمل داخل الأراضي السورية الواقعة تحت النفوذ التركي.
وفي النهاية، ومع أن أنقرة لا ترغب بالدخول في صدام مفتوح مع الكيان الصهيوني - وهو ما تؤكده حسابات المصالح المشتركة، خاصة في ملف نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية - إلا أنها في الأغلب ستُضطر لتقديم تنازلات، بعضها استراتيجي، على حساب الشعب السوري وأرضه ووحدته.
هذا السيناريو ليس جديدًا، بل يُعيد إلى الأذهان اتفاقية سايكس - بيكو الشهيرة عام 1916، والتي قسّمت المشرق العربي بين القوى الاستعمارية، حيث أعادت ترتيب الحدود والمصالح وفق منطق القوة والهيمنة، وليس وفق مصالح الشعوب. واليوم، يبدو أننا نشهد سايكس - بيكو جديدة، ولكن بأدوات إقليمية وغطاء دولي، والضحية مرة أخرى: سورية وشعبها.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب