السياسية: مرزاح العسل

في الوقت الذي تتواصل فيه المرحلة الثانية من المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار، ووسط تحديات كبيرة تتعلق بإطلاق سراح الأسرى ومطالب العدو بتفكيك البنية التحتية لحركة "حماس".. جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول تهجير سكان غزة لتثير موجة غضب عالمية.

وفي هذا السياق اعتبر محللون وصحفيون أن هذه التصريحات تعكس النهج الاستعماري الأمريكي المتماهي مع السياسات الصهيونية تجاه الفلسطينيين.. مؤكدين أن طرح التهجير تحت غطاء "الحل الإنساني" ليس سوى استمرار لمشاريع التطهير العرقي الرامية إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم.

وتفاعل المغردون على مواقع التواصل الاجتماعي مع تصريحات ترامب بشأن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ولقائه رئيس الوزراء الصهيونية بنيامين نتنياهو، وسط جدل بشأن مستقبل الهدنة وإمكانية استمرارها.

وأثارت تصريحات ترامب حول سيطرة الولايات المتحدة على قطاع غزة وترحيل سكانه وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" استهجاناً عربياً ودوليا واسعاً وصدمة عارمة.

وأدلى الرئيس الأمريكي بهذه التصريحات أمس الثلاثاء بعد استقباله في البيت الأبيض رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتانياهو الذي اعتبر أنّ من شأن هذه الخطّة أن "تغيّر التاريخ".

وقدّم ترامب اقتراحه خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نتانياهو وقد تسبّب بحالة من الذهول والصدمة وسط الصحفيين.

وفي خطة تفتقر إلى التفاصيل حول كيفية ترحيل حوالي مليوني فلسطيني أو السيطرة على غزة، قال ترامب: "إنه سيجعل القطاع المدمّر بسبب الحرب مكانا "مذهلا" عبر إزالة القنابل غير المنفجرة والأنقاض وإعادة تطويره اقتصاديا.

هذه التصريحات أثارت سيلاً من ردود الفعل المستنكرة، من حركة حماس والسلطة الفلسطينية إلى البرازيل، مرورا بفرنسا وبريطانيا وألمانيا وتركيا.

وقال الناطق باسم حركة المقاومة الإسلامية حماس عبد اللطيف القانوع: إنّ "الموقف الأمريكي العنصري يتماهى مع موقف اليمين الصهيوني المتطرف في تهجير شعبنا".. مؤكداً أن تصريحات ترامب "محاولة يائسة" لتصفية القضية الفلسطينية.

وأكدت حركة حماس في بيان لها، أنّ تصريحات ترامب "عدائية للشعب الفلسطيني ولقضيته.. ولن تخدم الاستقرار في المنطقة وستصبّ الزيت على النار".

أما الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي فقد وصل صباح اليوم الأربعاء إلى الأردن للقاء الملك الأردني عبدالله الثاني وأعرب عن "رفضه الشديد لدعوات الاستيلاء على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين خارج وطنهم".

فيما أكّد الملك عبدالله الثاني لدى استقباله عباس رفض بلاده "أية محاولات” لضمّ "إسرائيل" للأراضي الفلسطينية المحتلة وتهجير سكانها.

وقال بيان صادر عن الديوان الملكي: "إن العاهل الأردني أكّد خلال اللقاء على ضرورة وقف إجراءات الاستيطان، ورفض أية محاولات لضمّ الأراضي وتهجير الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.. مشددا على ضرورة تثبيت الفلسطينيين على أرضهم.

بدورها أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية أنّ مستقبل غزة يكمن في "دولة فلسطينية مستقبلية" وليس في سيطرة "دولة ثالثة" على القطاع.

وقالت الناطقة باسم الحكومة الفرنسية صوفي بريما في بيان لها: إنّ تصريحات ترامب "تهدّد الاستقرار وعملية السلام".. مؤكدة أنّ "فرنسا تعارض تماما تهجير السكّان.. نحن متمسكون بسياستنا وهي: عدم تهجير السكان والسعي إلى وقف لإطلاق النار في المسار نحو عملية السلام وحلّ الدولتين".

كما أكّد رئيس الوزراء البريطاني على ضرورة تمكين الفلسطينيين من "العودة إلى ديارهم" في غزة.. فيما قال وزير الخارجية البريطاني: إنه ينبغي أن يكون الفلسطينيون قادرين على "العيش وتحقيق الازدهار" في غزة والضفة الغربية.

ورددت ألمانيا، على ترامب، بالقول: إن قطاع غزة "ملك للفلسطينيين".

واعتبر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن مشروع الرئيس الأمريكي "غير مقبول" و"لا حاجة حتّى لمناقشته".

الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا أكد أنّ اقتراح نظيره الأمريكي "يصعب فهمه".. مؤكدا أنّ الفلسطينيين هم الأجدر بالاهتمام بمصير أرضهم.

وسارعت السعودية الى الردّ على تصريحات ترامب بأنها لن تطبّع مع "إسرائيل" بدون إقامة دولة فلسطينية.



وقالت وزارة الخارجية السعودية في بيان لها: إنّ الرياض "لن تتوقّف عن عملها الدؤوب في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية".. مضيفة: إنّ المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بدون ذلك".. كما جدّدت الرياض رفضها "تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه".

وأثارت تصريحات ترامب أيضاً غضباً بين الفلسطينيين على الأرض.. مشددين على ضرورة أن يفهم ترامب ونتنياهو حقيقة شعب فلسطين وشعب غزة، الشعب متجذر بأرضه، لن يرحل ولن يهاجر تحت أيّ مسميات وخدع كاذبة.

من جهته ذكّر المفوّض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك أن ترحيل سكّان أيّ أرض محتلة محظور تماما، قائلا: إنّ "الحقّ في تقرير المصير هو مبدأ أساسي في القانون الدولي ويجب أن تصونه جميع الدول، وهو ما أعادت محكمة العدل الدولية مؤخرا التأكيد عليه".. مؤكداً أنّ "أيّ نقل قسري أو ترحيل لسكان من أرض محتلة محظور تماما".

فيما اعتبر المفوّض الأممي السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي أنّ مشروع السيطرة على غزة "مفاجئ جدّا"... قائلاً: إنّ الوضع الحالي "ليس واضحا"، وشدد على أنّه "لا بدّ من معرفة ما يعنيه على أرض الواقع".

ووصف محللون تصريحات ترامب بأنها تعكس عقليته العنصرية ونهجه العدواني.. مشيرة إلى أن غزة التي صمدت أمام أعتى الآلات العسكرية لن تختفي بقرار من أي رئيس أمريكي.

وأكد المحللون أن هذه التصريحات ليست مجرد هفوة سياسية، بل تأتي ضمن سياسة أمريكية صهيونية تهدف إلى إنهاء القضية الفلسطينية عبر التهجير القسري.. مشيرين إلى أن هذه التوجهات تعكس رؤية اليمين الصهيوني التي تُترجم عبر إدارة ترامب، وتشمل توطين اللاجئين، تدمير المخيمات، وإنهاء دور الأونروا.

كما أكد وزراء خارجية مصر والسعودية وقطر والإمارات والأردن، خلال اجتماع في القاهرة، رفضهم القاطع لأي محاولة لتهجير الفلسطينيين أو المساس بحقوقهم.. مشددين على ضرورة دعم وكالة "الأونروا" ورفض أي محاولات لإنهائها.. كما رحبوا باتفاق وقف إطلاق النار في غزة وأكدوا أهمية إعادة الإعمار بما يضمن بقاء الفلسطينيين في أرضهم.

إعلام العدو الصهيوني وصف المؤتمر الصحفي المشترك بين نتنياهو وترامب بـ"القنبلة".. فبعد أن تبادل ترامب ونتنياهو بينهما الإطراء، خلط الرئيس الأمريكي الأوراق وخرج بقرارات مفاجئة للكثيرين، فبينما كانت الأنظار تترقب ما ستتمخض عنه تلك المحادثات بشأن مصير اتفاق وقف إطلاق النار وسبل المضي قدما في تنفيذ ما تبقى من مراحله وتذليل العقبات أمامها، جاءت تصريحات ترامب لتضع الاتفاق برُمته على المحك.

وتصدر عنوان "الاستيلاء على غزة"، كبريات الصحف والمجلات الأمريكية، ووصفت مجلة "تايم" طرح ترامب بالغريب، وركزت على أنه يأتي في لحظة حساسة بالنسبة لاتفاق وقف إطلاق النار.

ورأت المجلة الأمريكية أن ترامب تجاهل تاريخ الصراع على ملكية الأرض في هذه البقعة من العالم.. مشيرة إلى أن ملكية الأرض جزء أساسي من صراع الشرق الأوسط.

وربطت قناة "سي إن بي سي"" الأمريكية طرح ترامب بمجموعة من القرارات المماثلة التي طالع بها العالم خلال الأيام المعدودة التي أمضاها في البيت الأبيض بعد تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة للمرة الثانية.. مشيرة إلى أن تصوره يأتي في أعقاب كشفه عن رغبة في الاستيلاء على غرينلاند من الدنمارك، وأن تصبح كندا الولاية الـ51 للولايات المتحدة، وأن تستعيد الولايات المتحدة السيطرة على قناة بنما.

فيما وصفت شبكة "سي إن إن" تصريحات ترامب بشأن الاستيلاء على غزة بأنها "تأكيد لافت من رئيس أمريكي في منصبه، لا سيما أنه رئيس صعد إلى السلطة السياسية في الولايات المتحدة من خلال انتقاده للحروب الأمريكية الأطول في الشرق الأوسط وتعهده بإعادة الاستثمارات الأمريكية إلى مواطنيها".

وتوقعت الشبكة الإخبارية الأمريكية أنه "سيكون هناك الكثيرون في المنطقة ممن يعارضون خطة ترامب، على الرغم من ادعائه بأن جميع محاوريه يحبذونها".. مشيرة إلى رفض مصر والأردن بالفعل فكرة قبول المزيد من اللاجئين الفلسطينيين، خشية زعزعة الاستقرار وعدم السماح للفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم.

وفيما صرح بول أوبراين، المدير التنفيذي لمنظمة العفو الدولية في الولايات المتحدة بأن "إبعاد جميع الفلسطينيين عن غزة يعادل تدميرهم كشعب.. غزة هي موطنهم.. والموت والدمار الذي حل بغزة نتيجة لقيام الحكومة الصهيونية بقتل المدنيين بالآلاف، وغالبا بالقنابل الأمريكية".. قال السناتور الأمريكي الديمقراطي كريس ميرفي متحدثا عن ترامب في منشور على إكس: "لقد فقد عقله تماما.. سيؤدي غزو الولايات المتحدة لغزة إلى مذبحة لآلاف الجنود الأمريكيين وحرب في الشرق الأوسط لعقود.. إنها مثل مزحة رديئة".

ويرى مراقبون أن مفاجأة ترامب بشأن غزة تندرج ضمن سلسلة تصريحاته وقراراته الصادمة التي وضعته في مواجهة العديد من دول العالم سواء كانت سياسية أو اقتصادية، ما حدا به إلى تأجيل بعضها.

وتباين تفسير ذلك بين فريق يرى أن قرارته فجائية غير مدروسة ومدفوعة بمنطق القوة، وفريق آخر ينظر إليها باعتبارها فلسفة لتحقيق رؤيته من خلال الارتفاع بسقف المطالب حتى ينال ما يستهدف من خلال التفاوض.

الجدير ذكره أن هذه ليست المرّة الأولى التي يتطرّق فيها الرئيس الأمريكي إلى ترحيل الفلسطينيين من غزة، إذ سبق له وأن دعا في تصريح سابق بعد تسلّمه الرئاسة، لنقلهم إلى الأردن ومصر.. وعلى الرغم ممن أن مقترح ترامب لقي ترحيبا في الكيان الصهيوني، غير أنّ كثيرين شكّكوا في إمكانية تنفيذه.

وخلاصة القول: إن ردود الفعل الشعبية والرسمية في أنحاء العالم تثبت أن الفلسطينيين، بدعم من الشعوب العربية، سيقفون في وجه أي مخطط لترحيلهم، كما أفشلوا مشاريع مشابهة في الماضي، فغزة ليست مجرد بقعة جغرافية، بل عنوان لصمود الفلسطينيين في وجه كل محاولات الاقتلاع.